بقلم البحري العرفاوي من كتاب الثورة/المعاني والأوهام
1: مفهوم الثورة
في اللغة ثار يثور ثورا وثورانا وثؤورا بمعنى هاج ويقال ثار الغبار أو الدخان أي ارتفع ثارت نفسه جشأت ثار أي فار وثورة أي فورة ثوره وأثاره واستثاره اي صيره يثور فتثور ثوران الشفق وثَوَره حمرته وانتشاره الثورة الضجة والهيجان والقيام على السلطة المثورة الأرض كثيرة الثوران.
2: مبررات الربط بين الثورة كظاهرة سياسية حديثة وبين السيرة النبوية :
ـ أننا كمسلمين نعتقد بأن السنة النبوية هي المصدر الثاني للتشريع بعد القرآن وأن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم هي مصدر استلهام فكري وقيمي وأخلاقي فالرسول ص مثل أرقى ترجمة بشرية عملية للقرآن وهو التمثل الأكمل لمعاني الوحي حتى قالت فيه زوجته عائشة “كان كأنه القرآن يمشي ” وقد أمرنا الله باتباعه “لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة” “وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا”
ـ إننا كمسلمين حتى وإن كنا منفتحين على التجارب البشرية نستفيد ونقتبس منها فإن علينا أن نوطن أنفسنا على منهج مستقل ينسجم مع عقيدتنا بما هي مرجع تفكيرنا وأخلاقنا وسلوكنا
ـ أن القرآن والسنة يمثلان فيصلا في خلافاتنا إذا ما اختلطت علينا السبل والمفاهيم ونحن بصدد مسار الثورة التونسية.
3: مقومات الثورة
لكل ثورة مقومات ثلاثة وهي :
ـ الأهداف: فكل ثورة إنما تقوم ضد واقع معين بما هو نظام سياسي واجتماعي وتربوي وأخلاقي وحقوقي وأدبي وفني وغيرها من تعبيرات الحياة العامة ومن ثم فإنها تتأسس على بديل شامل لذاك الواقع وعلى مبادئ كبرى يتجمع الناس حولها أو على تفاصيل في نشريات وكتب نظرية… وتحديد أهداف الثورة شرط انطلاقها وشرط نجاحها حتى لا تكون مجرد حالة احتجاجية يمكن السطو عليها وتلبيسها ألبسة في غير مصالح الناس وحتى لا تتحول في مرحلة ما إلى حالة تمازق سياسي وإيديولوجي لا علاقة له بمطالب الشعب.
ـ الوسائل: كثيرا ما تكون الوسائل من جنس الأهداف ولذلك تختلف الوسائل من ثورة إلى أخرى بين وسائل الإنقلابات العسكرية أو العصيان المدني والإحتجاجات الشعبية أو الخروج المسلح على السلطة.
ومن المهم تحديد الوسائل انطلاقا من وعي بطبيعة وتركيبة الواقع الإجتماعي والسياسية وبمدى استعدادات الناس ومدى قدرتهم على تحمل تبعات تلك الوسيلة وهنا يُحتاج بالتأكيد إلى خبراء وإلى دارسين ميدانيين.
فكم أهدافا كبرى أجهضتها الوسائل غير المناسبة …وكم ثورة فاشلة ارتدت على أصحابها وخلفت فيهم اليأس والإحباط وجرت عليهم ويلات واستبدادا أشد أنتقاما.
– المرجعية: ونعني المرجعية العقدية التي يصدر عنها برنامج الثورة في أهدافه ووسائله فلا يمكن لثورة أن تكون بغير أرضية مشتركة جامعة يتوحد عليها الناس كلهم أو جلهم قد تكون مرجعية دينية أو فلسفية أو مدنية حقوقية. تلك المرجعية هي الضامنة في الغالب لتماسك مجتمعات الثورة ولاستمرارية الثورة ذاتها حين تظل تشحنها بالمعاني والافكار فتشعر الجماهير بأنها إنما تقدم تضحيات من أجل عقيدة أو فلسفة أو نظرية ما.
أمثلة من الثورات: الثورة الفرنسية التي قامت ضد سلطة الكنيسة وأهدافها تحقيق الحرية والأخوة والمساواة على أساس قيم المواطنة ومرجعيتها كانت الفلسفة الوضعية أو العلمانية التي تفصل بين الدين والسياسة ووسيلتها فلسفة الأنوار .
الثورة البولشيفية التي قامت ضد نظام الإقطاع سنة 1917 هدفها تحقيق الاشتراكية ووسائلها العنف الثوري ومرجعيتها الماركسية.
4: ثورة الرسول صلى الله عليه وسلم
ـ شخصية الرسول ص كانت خميرة الثورة: لقد كان أشبه ما يكون بالفطرة السوية التي أفلتت من التشوه بفعل الزمن فيها فطرة الله التي فطر الناس عليها منذ أن خلق آدم “فإذا سويته ونفخت فيه من روحي”
“صنع الله الذي أتقن كل شيء” كان محمد بن عبد الله أقرب إلى صورة الإنسان السوي في توازن شخصيته في مختلف أبعادها التكوينية :العقل والروح والجسد. وقد كان مشهودا له في قومه بالأمانة والصدق ورجاحة العقل ورفعة الأخلاق ولذلك اصطفاه الله ليكون رسوله إلى العالمين وليأتمنه على أكبر مشروع حضاري: مشروع بناء الحضارة الكونية الإنسانية. كان رسول الرحمة ورسول البناء ورسول الإحياء ورسول “الثورة” بالتعبير المعاصر
وقد تأسست “ثورته” على أهداف ووسائل ومرجعية:
ـ المرجعية:التوحيد وهو هدف ومصدر ووسيلة
ـ الأهداف المساواة/ العدالة/ الحرية
ـ الوسائل:
– التوحيد: محرر لصاحبه من التبعية والعبودية والخوف ونوازع الشر.
– الحرية: هي هدف ووسيلة ترك الحرية للناس في أن يختاروا سبيل التحرر أو سبيل العبودية فالحرية إنما هي التي تفرز وسائلها إذا لا يُمكن أن يكون الإكراه سبيلا إليها .”إنما أنت مذكر ولست عليهم بمسيطر”
– الصبر:
وهو ناتج عن وعي بأن عملية إصلاح المجتمعات ليست عملية انقلابية ولا تتحقق بتشريعات وأوامر ونواه ولا بإكراهات ولا بإغراءات إنما يتحقق الإصلاح بإحداث تغيير في أعماق الشخصية بما هي بنية نفسية ونظام تفكير ومنظومة أفكار وتصورات تنتج عنها مواقف وسلوكات وعلاقات من جنسها وإصلاح الظواهر يقتضي إصلاح جذورها ومنابتها وبيئتها .
كان الرسول صلى الله عليه وسلم يدرك عمق رسالته التاريخية والحضارية والإنسانية إنه لم يأت ليغير “شيئا” من موضع إلى آخر إنما جاء ليغير منهجا بمنهج ومسارا بمسار وواقعا بواقع وهذا يقتضي إحداث التغيير في أعماق الذوات البشرية في صبر وترفق وتلطف ورحمة وهو ما عبر عنه الصحابة بالقول ” كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في ببيت الأرقم يُفرغنا ويملأنا” كان يُفرغهم مما ترسب فيهم لعقود ولما توَارثُوه عن قرون من قيم ومفاهيم وتصورات وعادات ظلت تمثل معيقا لبناء علاقات سوية مع مختلف عناصر الوجود سواء في العلاقة بالكائنات غير العاقلة أو في العلاقات البشرية وهو ما لخصه جعفر بن أبي طالب أمام النجاشي ملك الحبشة: ” كنا قوما أهل جاهلية نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحام ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف …”
تلك الممارسات لم تنشأ عن قرار فتسهل إزالتها بقرار وإنما كانت تعبيرا عن ذوات وعن ترسبات من الماضي قديمة .
كان الرسول ص يصطبر في مقاومة تلك الترسبات وهي مؤذية بالتأكيد للطبيعة البشرية السوية فلم ييأس من مجتمعه ولم يتعال عليه ولم يستقذره ولم يلعنه ولنا في الأمثلة التالية أدلة عملية بالغة:
– الأعرابي الذي بال في المسجد فثار عليه الناس ليقعوا به فقال لهم رسول الله ص ” دعوه وأهْريقوا على بوله ذَنُوبًا من ماء أو سًجْلا من ماء فإنما بُعثتم مُيسرين ولم تُبعثوا مُعسرين”. مثل ذاك السلوك إنما كان صادرا عن شخصية ليس لديها مفهوم لا للتمدن ولا لقداسة أماكن العبادة … وإنما كان موقف الرسول تأكيدا لمبدإ الإسلام ومقصده الثابت وهو كرامة الإنسان، تقديم حرمة الإنسان على حرمة المكان وهو ما يؤكده الحديث ” لهدم الكعبة سبعين مرة أهون على الله من قتل مسلم”.. فالإنسان هو القادر على إعادة بناء المكان وحماية حرمته والمكان لا يقدر حتى على حماية نفسه… ولذلك لم يكن ثمة من خطر على الدول والأمم في اهتدام مبانيها إنما كان الخطر في اهتدام العزائم والإرادات وفي إفراغ الناس من عزائمهم وشجاعتهم واستعداداتهم الجهادية.
– قصة الرجل الذي جاء للرسول ص يستأذنه في الزنا قائلا: إني أحب الزنا فغضب الحاضرون وهموا به ولكن الرسول ص أدناه منه وخاطب فيه فطرته …. حتى خرج الرجل وهو يقول : لقد جئت إلى رسول الله وليس لي شيء أحبَّ من الزنا فخرجت من عنده وليس لي شيء أبغضَ منه… يعرف الرسول ص أن الكثير من الجرائم والاعتداءات من زنا وتحرش واغتصاب إنما مصدرها فوضى الغرائز حين تطغى على العقل وحين تكسر ضوابط القيم وتحول صاحبها إلى كائن شهواني تؤزه الدوافع الجسدانية أزا … لم يكن المنهج العقابي مربيا للشعوب ولا منتجا للأخلاق قدرَ ما كان مُدمّرا للذوات ومولدا للنوازع الثأرية .
– قصة الرجل الذي جاء مسجد المدينة عازما على قتل الرسول ص وانتهى إلى مؤمن وصاحب.
كان الرسول ص يعرف أن الرجل ذاك إنما جاء عازما على قتل صورة كريهة عن محمد سوّقها خصومه ورَوّجُوا لها وكان يعرف أن الحل ليس في قتل الرجل وإنما في قتل تلك الصورة المشوهة بتقديم الصورة الحقيقية عن الإسلام ورسوله… إنه لأيسر على أي مقتدر تصفية مئات وآلاف الخصوم من تحويل خصم واحد إلى صديق أو شريك.
إن الثورات الحقيقية هي التي تحافظ على أعلى قدر من المنسوب البشري حين تحوّل الناس إلى معتنقي مشروع الثورة يتبنونه ويدافعون عنه ويضحون من أجله … إن حماسة الثورة ليس في مدى القدرة على تصفية المخالفين والخصوم وإنما في مدى القدرة على تحويل أكبر عدد من الخصوم إلى شركاء في مشروع الثورة
د:ـ تعيين خالد بن الوليد قائدا لجيش المسلمين وبأرقى وسام ” سيف الله المسلول”.. لم يكن من السهل نسيان وقع هزيمة أُحُد على المسلمين ولم يكن يسيرا على المسلمين تقبلُ خالد على رأس جيشهم وهو الذي هزمهم في معركة قُتل فيها أحبّ أحباب رسول الله “حمزة” … يحتاج مثل ذاك القرار صبرا واصطبارا ومغالبة للنفس وللنوازع الثأرية كما يحتاج حكمة وبُعد نظر ، بمثل ذاك القرار يُجرد الرسول ص تاريخ الشرك من رمزية كبيرة فلا يعود للمشركين من دافع للإعتداد بخالد بن الوليد كصانع نصرهم على المسلمين في أُحد.
ـ التسامح :
إن الثورة بما هي تمرد على الواقع المشوه في أبعاده الاجتماعية والسياسية والأخلاقية لابد أن تبدأ من تشوهات الذات ومما تلبسها من عقد نفسية من تكبر وحقد وأنانية ولذلك لابد أن يكون ممثلو مشروع الثورة متمثلين لقيمها ومبادئها في شخصياتهم وفي سلوكهم فيكونون على درجة من التسامح والتحمل يتجاوزون عن الإساءات والأخطاء ما لم تمثل تهديدا لأهداف الثورة . وقد كان الرسول ص مثالا في التسامح وفي تحمل الأذى وفي الرحمة وفي حب الخير حتى لمن أساء إليه .. حين ذهب إلى الطائف يريد إنقاذهم من شقاء الشرك حرضوا عليه الأطفال يقذفونه بالحجارة ويسخرون منه ، لم ينقلب عليهم ولم يدافع عن نفسه بمثل طريقتهم وإنما كان يتوقى من حجاراتهم حتى أدميت قدماه وحين تفرغ إلى نفسه ناجى ربه ولم يدع عليهم إنما قال “اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون”
وحين قُتل حمزة بغزوة أحد ومثل به المشركون غضب الرسول ص وقال “لئن أظهرني الله عليهم لأمثلن بهم ضِعفيْ ما مثلوا به ” فنزل قوله تعالى ” ولئن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عُوقبتم به ولئن صبرتم له خير للصابرين فاصبر وما صبرك إلا بالله ” فقال ص “صبرنا ربنا صبرنا”
ـ التواضع:
لكل ثورة رموزها يتمثلون مبادئها ويكونون علامات لها يجد الناس فيهم أسوة ويجدون معهم أمانا ويجدون فيهم أملا يتواصون معهم بغير تكلف ولا تعقيدات ” أكمل المؤمنين إيمانا أحسنهم خُلقا الموطأون أكنافا الذين يألفون ويؤلفون ولا خير في من لا يألف ولا يؤلف”
ـ المبدئية :
الصبر والتسامح والرحمة قيمٌ لا تعني الضعف والتهاون في الأهداف ولا تعني التسامح مع مهددات مشاريع الثورة … كان الرسول ص حازما بقدر تسامحه وكان شديدا بقدر رحمته وكان غاضبا بقدر صبره وهو القائل ” لا يكوننّ أحدُكم إمعةً يقول إذا أحسن الناس أحسنتُ وإذا أساء الناس أسأتُ ولكن وطنوا أنفسكم على الإيمان إذا أحسن الناس أن تحسنوا وإذا أساء الناس أن تُحسنوا”
وحين جاءه ناس يشفعون في تلك المرأة المخزومية إذ سرقت غضب أيما غضب وقال ” …إنما أهلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد وأيْمُ الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدَها”
5: خاتمة
ما حدث ببلادنا أخيرا هو مقدمات هامة من مقدمات الثورة فالثورة ليست حدثا طارئا أو هزة أرضية أو سقوط حكم وقيام آخر …الثورة مسار طويل وذهاب متبصر إلى مستقبل أرقى وأنقى إنها رؤية جديدة ومشروع جديد يتأسس على قيم مختلفة وتحتاج أناسا مختلفين في استعداداتهم وفي أخلاقهم … لقد استمر مشروع بناء الإنسان مع الرسول ص ثلاثة وعشرين سنة .. وإن أي ثورة تعتمد القوة والإكراه إنما هي آيلة حتما إلى الفشل فالفساد والإستبداد والظلم والإستغلال كلها مظاهر من إنتاج بيئة كاملة يشترك فيها الحاكم والشعب والنخب الفكرية والثقافية والسياسية والإعلامية وليست من صنع شخص بمفرده ولا من صنع جهاز حكم وفي الحديث كما تكونون يُول عليكم” إن الإستبداد كحالة نفسية مرضية إنما يتمدد داخل حالات نفسية مرضية أخرى من جنس الخوف والطمع والنفاق … على نخبنا ومثقفينا ألا يستعجوا القطع بحصول ثورة حتى لا يكون اطمئناننا الواهم ذاك مدخلا للإنقضاض علينا من جديد من مداخل غير منتظرة.
الآن تبدأ الثورة بما هي استنبات لمعاني الحياة واستنهاض لإرادة التحرر وإشاعة لقيم التوافق والتضامن والتسامح وبما هي احتراس دائم من عوامل الإرتداد وهي كامنة بالتأكيد في تفاصيل ومفاصل الدولة لا بما هي أجهزة وإدارات وآليات حكم وإنما وأساسا بما هي تصورات وأفهام وقيم أي بما هي ذوات بشرية ليس من السهل إحداث انقلاب فيها بمجرد هروب رئيس أو تغيير وزراء.
الآن تبدأ الثورة في أعماق الذاكرة وفي الوعي واللاوعي وفي المكتوب والمسكوت عنه وفي خدوش الأوجاع وفي أوهام السعادة …ليس ثمة ما هو أخطر على الثورة من “مخزون الحقد” المستجمع من سنوات القهر وعصير اللحم الحي وليس ثمة ما هو أخطر عليها من أوهام الثوريين القادمين عشية الهروب يتكلمون بصوت أرفع من أوجاع المناضلين ويزايدون في الشعارات يتوهمون الثورة “حفل عشاء” أو يتوهمون أنفسهم في “موسم الغنائم الكبرى” … العقلية الغنائمية هي التي تهدد الثورة وكذا العقلية التواكلية حين يكتفي الكثير من جماهيرنا بإعطاء أصواتهم ثم تسليم البلاد ومستقبل العباد لمن انتخبوهم لا يشاركونهم الرأي ولا يحرسونهم بنصح أو بنقد أو حتى باحتجاج عند الضرورة.
ومن مهددات الثورة نشأة “الحاشية البديلة” من ضعاف النفس يلعبون نفس دور الحاشية القديمة يبالغون في امتداح الحكام الجدد لا يرون لهم تقصيرا ولا يسمحون لغيرهم بتنبيههم إلى مواطن ضَعف آدائهم.
وهذا ما يعبر عنه رسولنا الكريم في أحاديث عدة “الدين النصيحة” و” الساكت عن الحق شيطان أخرس”