عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال :”إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة، وغُلّقت أبواب النار، وصفّدت الشياطين” رواه البخاري ومسلم. وفي سنن الترمذي ومستدرك الحاكم زيادة ” وينادي مناد: يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشرّ أقصر، ولله عتقاء من النار وذلك كلّ ليلة”.

جميل أن يبشرنا رسولنا الكريم بهذه البشارات التي ترغّبنا في الصوم و تحبّب إلينا شهر رمضان، وهي بشارات عن تغيّرات تحدث في عالم الغيب عند حلول هذا الشهر المبارك، دعك من الذين يستنكفون من الغيبيّات حتّى في مجال العبادات، فنحن لولا إيماننا بالغيب ما كنّا لنصوم أصلا، و رغبتنا في الجنّة تشجّعنا على ذلك، و خوفنا من النار يمنعنا من التفكير في الاستهانة بحرمة الشّهر، و هناك من يشغلهم الاستغراق في حبّ الله عن دوافع الخوف و الطّمع و يصومون له قبل كلّ شيء بدافع الشّوق أوّلا و قبل كلّ شيء، أمّا المرغّبات الأخرى فهي من تحصيل الحاصل أو من التوابع، وإذا كان هذا صوم الخصوص أو خصوص الخصوص من كبار العرفانيّين القلائل فإنّ عامّة الناس يصومون رغَبا و رهَبا، أو خوفا من النّار وطمعا في الجنّة.لذلك بشّرنا الحبيب المصطفى بانفتاح أبواب الجنّة و إغلاق أبواب النار في هذا الشهر، هذان أمران غيبيان نؤمن بهما كما وردا بلا جدل فيما لا تدركه العقول.وإضافة إلى ذلك فإنّ لهما دلالات أخرى، فالجنّة كناية عن تدفّق فيوضات الرحمة من الرحمان الرحيم، وإغلاق أبواب النار كناية عن أن الله تعالى لا يريد تعذيب الصائمين، و يمنّ عليهم بعتق رقابهم من أسرها الشديد و لو استحقّوها بما فعلوه في غير رمضان.ولمن يريد الفهم الواقعيّ فلينظر إلى الجوّ العام في زمان رمضان، فرغم الممارسات السلبية التي هي محلّ انتقاد فإنّ أجواء من الروحانية و الهيبة تطغى على الحياة العامة وكأنّ نسائم طيّبة هبّت من أبواب الجنّة المفتوحة، وإنّ صولة المعاصي تنخفض كأنّها نار أُخمِدت أو سدّت عليها الأبواب.

ولكن ما معنى تصفيد الشياطين ؟

ليس لنا علم لدنيّ نستطلع به تفاصيل الغيب و نعرف كيفية التصفيد أو التقييد بالسلاسل غير المرئية.ولكنّ الذي يهمّنا هو سؤال يجري على ألسنة كثير من الناس، هل يعني ذلك أنّ الشياطين يأخذون عطلتهم السنوية في شهر رمضان، أو يرتاحون من جهد الوسوسة في رخصة مؤقّتة خالصة الإثم ؟

ولو كان الأمر كذلك فما بال جماعات من الناس يظلّون يكذبون، و يغشّون، ويغتابون، ويفعلون من المعاصي ما يفعلون في رابعة نهار رمضان، و خصوصا في لياليه التي تأكل السيّئات فيها بعض الحسنات التي جمعها الصّائم في النهار بجهد جهيد و تعب شديد.

يقول بعض شرّاح الحديث اعتمادا على بعض الروايات الأخرى إنّ الذين يصفَّدون هم مردة الشياطين، أي كبارهم من ذوي الشرّ المستطير و الخبرة الفائقة في إغواء الأتقياء ومراودة الصالحين بمكر تزول منه الجبال.أما عوام الشياطين والمتربصون منهم فيبقون طلقاء يفتكون بقلوب ضحاياهم من الفرائس السهلة ويسقطونهم في حبائلهم بأدنى جهد، لذلك لا تنقطع الآثام في رمضان و إن نقُصت نسبتها المائوية.

ويقول شرّاح آخرون إنّ هذا التصفيد ليس محمولا على الحقيقة، بل هو مجاز على العموم، يراد به أنّ الشياطين لا يَصِلون في رمضان من إفساد المسلمين إلى ما يصلون إليه في غيره من الشّهور لاشتغال الناس بالصوم الذي وصفه الرسول صلّى الله عليه و سلّم بأنّه جنّة أي حصن و حماية.وهذا يعني أنّ الذين يُصَفِّدون الشّياطين هم الصائمون حقّا، و الممسكون عن المفطرات إيمانا و احتسابا.

فأنت بصومك تقمع بطش الشيطان، وتضيّق مَجاريه في داخلك، وتخمد هواتف وسوسته في صدرك.ولكن ماذا نقول عن تصفيد شياطين الإنس؟في هؤلاء من يكون شيطانا وكتلة من السيّئات المتحركة في أغلب الشهور، حتّى إذا جاء رمضان، فسبحان من أطرد شيطانا وأنزل ملاكا.

إذ تنبعث من داخله طاقة من الإرادة يمتنع بها عن ممارسة ما كان يفعله من الكبائر، ويعكف على صومه في سلام مع ربّه ونفسه ومع الناس، وتلك بعض معجزات رمضان وبركاته.

ولا ينبغي أن ننسى أنّ هناك ذنوبا لا دخل فيها للشيطان، بل سببها النفس الأمّارة بالسوء. وكأنّي بالرسول صلّى الله عليه وسلم يقول لنا من خلال مفهوم الحديث ألستم دائما تلقون اللوم على الشياطين إذا زللتم؟ فهاهي تصفّد في رمضان، ومع ذلك تقترفون السيّئات، فلوموا أنفسكم أوّلا، وحاسبوها، وهذّبوها بالصوم والعبادة عندئذ يسكت صوتها الأمّار بالسوء، وتصير لوّامة أي تمارس النقد الذاتي، وقد تتحوّل تدريجيا إلى نفس مطمئنّة تأمر بالخير ولا تنهزم في معركتها مع المغريات والشياطين مهما كانوا مردة.

د. محمد الشتيوي

من admin

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *