المدارسة هي التعلمُّ دراسة وتدريساً وهي مذاكرة العلوم وتحصيلها من بطون الكتب أو تلقيها من أفواه العلماء في حلق العلم وغير ذلك من أساليب التعلّم وطرائقه.
وأما الممارسة فهي تنـزيل العلم النظري على الواقع وتطبيقه معالجةً لقضايا الواقع ونوازله وحوادثه ووقائعه.
ويدور هذا البحث حول مدارسة العلوم الشرعية ومدى حاجتها إلى الممارسة، فقد انصرف المهتمون بالعلوم الشرعية من العلماء والأساتذة والباحثين في الجامعات وغيرها من دور التعليم ومراكز البحث إلى الاكتفاء بالمدارسة دون الممارسة لذلك لابد من الدعوة إلى تصحيح هذا الوضع الذي أفرز سمات سلبية ثلاث هي:
السمة الأولى: طغيان المدارسة وندرة الممارسة بينما يفترض أن تكون الممارسة مواكبة ومتوازنة مع المدارسة النظرية. وسأقدم فيما بعد اقتراحات تعكس التوازن المطلوب بين الأمرين وترمي إلى إعادة الاعتبار إلى الممارسة.
السمة الثانية: الانغماس في التاريخ والانسلاخ من الواقع. فالدراسات الإسلامية، والعلوم الشرعية كما يجري تدريسها والتأليف فيها والكلام فيها، منغمسة أو منغمس أهلها في التاريخ منسلخون عن الواقع، فمثلا الفقه الإسلامي الذي يدرس اليوم هو في معظمه فقه تاريخي لا يعالج قضايا العصر ومشكلاته.
أنا لا أتحدث عن النصوص ومقتضياتها الواضحة واستنباطاتها الصحيحة، هذه نصوص شرعية لها مكانتها الدائمة، ولها أيضا صلتها بالتاريخ وتفاعلها معه. ولكني أتحدث عما وضعه الفقهاء والأمراء والقضاة عبر التاريخ، من مؤلفات وفتاوى وأحكام وتحليلات، وعما وضعوه من علاجات لمشكلات مجتمعاتهم وعصورهم، فهذا تاريخ… وحين نكثر منه أو نغرق فيه أو ننغمس فيه ونعتمد عليه، فنحن نعيش في التاريخ والعيش في التاريخ لا يعني أننا نحيا الحياة الإسلامية المطلوبة. فحينما نقرأ اليوم مثلا عنوانات أبواب الشركات، نجد الفقهاء أو مدرسي الفقه إلى اليوم يتحدثون عن صيغ البيوع وعن الشركات وأنواعها، كما وجدت قبل عشرة قرون أو أكثر، وكأن هذه الأشكال من البيوع والشركات نزل بها الوحي. كشركة العنان، وشركة المفاوضة، وشركة الذمم، وشركة الأعمال، والمزارعة، والمزابنة، والمحاقلة، والمخابرة، والمهايأة، وغيرها من أنماط المعاملات التجارية والزراعية التي هي حتى بأسمائها إنتاج تاريخي اجتماعي، فالفقهاء في زمانهم نظروا في معاملات الناس تلك بأسمائها وأشكالها وتفاصيل عقودها، فقالوا هذا يجوز وهذا لا يجوز، وهذا ممكن ويشترط فيه كذا…، ليصححوا ويوجهوا واقعا معيشا لا هم صنعوه ولكن صنعه المجتمع عبر التاريخ.
فإذا نحن اليوم أردنا أن نكون على منهاج أولئك الفقهاء حقاً، فعلينا أن نأتي إلى الشركات القائمة وإلى المعاملات المالية والتجارية القائمة وإلى المعاملات الفلاحية القائمة الآن. ننظر فيها وندرسها بمنطق العدل، وبمنطق النصوص، والنصوص في هذا المجال جماعها أنها تلغي الغرر وتلغي الظلم، وتمنع التخاصم والتظالم فهذا هو مرامها، فإذا وجدنا ما هو كائن يسود فيه الغرر والفساد من الناحية الشرعية فيجب أن نقدم حلولا وأشكالا جديدة وصياغات جديدة تحقق الصحة الشرعية والمقاصد الشرعية، هذا هو العيش في الواقع. وأما أن نأتي ونقول الشركة هي كذا، وفيها خمسة أنواع هي كذا وكذا… مما هو إنتاج مجتمعات قديمة، ومما هو اجتهاد وتأطير فقهي لفقهائنا المتقدمين، فهذا بعض ما أعنيه بالانغماس في التاريخ إلى درجة توهم الدارسين، وقد يكون إلى حد اليقين، أن هذا هو الإسلام وهذا هو الفقه الإسلامي الذي يجب علينا العمل به ومن خلاله. مرارا وجدت الفقهاء يدافعون عن هذه الأشكال من الشركات ومن المعاملات على أساس أنها هي الصيغ الإسلامية، وأنها هي نظم الحياة الإسلامية وأن العمل بها هو عمل بالشريعة الإسلامية، بينما هي إنتاج وإفراز عفوي تاريخي للحياة البشرية وللمجتمعات العربية والإسلامية، جاء الفقهاء والأمراء والقضاة والمجتهدون عموما فوضعوا الأحكام الشرعية التوجيهية لتلك المعاملات التي لم يصنعها الفقهاء ولا صنعها الإسلام ولا نزل بها. فدراستها ودراسة الاجتهادات الوقتية الخاصة بها هي بالدرجة الأولى دراسة للتاريخ. فهي اليوم تاريخ وليست شريعة دائمة لنا ولمن يأتي بعدنا. وهي ليست فقها لنا ولواقعنا. فالفقه الحقيقي هو ما ننتجه اليوم لواقعنا.
مثال آخر في هذا المجال، حينما نأخذ كتاب الأموال لأبي عبيد وأمثاله، وعامة كتب السياسة الشرعية.. يمكن أن تقرأها من أولها إلى آخرها، فلا تجد إلا عشر صفحات أو عشرين صفحة هي مقتضيات شرعية، إما نصوص وإما مقتضياتها الواضحة، أما الباقي فتفاصيل و وصف لما كانت عليه التدابير السياسية والمالية والتنظيمات الإدارية للدولة يومئذ، يصفونها ويناقشونها ويحكمون عليها بمقتضيات ثقافتهم وتجربتهم وواقعهم وحيثياتهم، بمعنى أنه إذا استثنينا من كل كتاب عشر صفحات أو عشرين، فنجد الباقي إنما هو تاريخ النظم الإدارية، تاريخ التجارب السياسية، التي نحن في حِلٍّ منها تماما، حتى ولو عدها المتقدمون صيغا شرعية ودائمة.
نموذج ثالث من الفكر التاريخي الذي ما زال يقدم للناس على أنه من صميم الإسلام ومن صميم عقيدة الإسلام، نقرأ مثلا في كتيب للعلامة الشيخ عبد العزيز بن باز عن (العقيدة الصحيحة)، حيث يقول رحمة الله عليه متحدثا عن عقيدة أهل السنة “ويعتقدون أن أفضلهم -أي الصحابة- أبو بكر الصديق، ثم الفاروق، ثم عثمان ذو النورين، ثم على المرتضى، رضي الله عنهم أجمعين، ويمسكون عما شجر بين الصحابة، ويعتقدون أنهم في ذلك مجتهدون…” وكل هذه “المعتقدات” ولّدها التمذهب الذي جاء فيما بعد وهي مجرد آراء وتقديرات، أو في أحسن الحالات استنتاجات واستنباطات قد يكون بعضها راجحا، ولكنه على كل حال لا يدخل في مسمى “العقيدة”، وإلا أصبحنا كالشيعة الذين أدخلوا الإمامة وعددا من أحكامها في باب العقيدة، وأي بأس على مسلم يرى -مثلا- أن عليا أفضل من عثمان؟ ولو أني أرى أن الخوض في مثل الشأن إنما هو تكلف وفضول.
وأي بأس كذلك على من خاض في نزاعات الصحابة رضي الله عنهم، مع كامل التقدير لهم والأدب معهم، وبموضوعية علمية نزيهة؟ هل هو مبتدع؟ هل هو خارج عن “العقيدة الصحيحة”؟! (ثم يتابع الشيخ رحمه الله حديثه عن أهل السنة وعقيدتهم فيقول: “ويتبرؤون من طريقة الروافض الذين يبغضون أصحاب رسول الله ? ويسبونهم ويغلون في أهل البيت…” وهذا أيضا مجرد إدخال للتاريخ في العقيدة، أو هو إدخال للعقيدة في التاريخ، وربما دخلت هنا حتى الجغرافية.(مجاورة الأقطار والمناطق الشيعية) وبالمناسبة فإن مصطلح العقيدة هو نفسه مصطلح تاريخي لا مصطلح شرعي!
وأنا أتساءل: هل الصحابة والتابعون الذين لم يعرفوا الروافض، هل عقيدتهم ناقصة؟، وهناك اليوم عشرات الملايين من المسلمين -وربما مئات الملايين- لم يسمعوا قط مصطلح الروافض ولا علموا عنهم شيئا، فهل يجب عليهم التبرؤ من الروافض حتى يدخلوا “في العقيدة الصحيحة التي بعث الله بها رسوله محمدا ? -والتي- هي عقيدة الفرقة الناجية من أهل السنة والجماعة…”؟ هل هؤلاء المسلمون ليسوا من أصحاب العقيدة الصحيحة الموصوفة !
ثم لو تركنا هذا المصطلح التاريخي (العقيدة) وغموضه وتشويشه، واستعملنا المصطلحات الشرعية مثل (الإيمان)، هل سيأتي من يقول لنا: إن الإيمان يدخل فيه تفضيل الصحابة بعضهم على بعض؟ ويدخل فيه الامتناع عن التحدث فيما شجر بين الصحابة؟ ويدخل فيه معرفة الروافض والتبرؤ منهم؟
لا أظن أحدا –حينئذ- يجرؤ على شيء من هذا، لأن “الإيمان” عرفه الشرع وفصله في آياته وأحاديثه!
السمة الثالثة: من سمات بعض العلوم الشرعية اليوم هي الانسياق خلف الذهنيات والابتعاد عن التطبيقات أو العمليات، أي الأمور العلمية. نجد العالم في مؤلفه أو في دروسه يسترسل مع مقتضيات الذهن التي قد يكون فيها شيء من الصواب ومن المنطق المجرد، ولكن أيضا قد يكون فيها -وهذا هو الواقع- من التسلسل الوهمي الشيء الكثير، لأن مصداقية التفكير ومصداقية الذهن ومصداقية المنطق المجرد هو الواقع، هو الحياة، هو الممارسة، وهو التطبيق. وحينما ينقطع التطبيق في أي قضية أو أي علم من العلوم نجد أن المفكرين أو العلماء أو الأساتذة أو الباحثين يمشون في دروسهم وفي مؤلفاتهم مع مقتضيات خيالية بعيدة عن الواقع. سأعطيكم بعض النماذج من المسارات الذهنية التي تنقطع عن الواقع وتبقى مستمرة حتى تأتي بالعجائب والغرائب. مثلا نقرأ في كتاب أبي الحسن الأشعري (مقالات الإسلاميين). وأبو الحسن الأشعري هو من هو، يقول في مسألة مصير البهائم يوم القيامة ما يلي: “قال قوم إن الله سبحانه يعوضها في المعاد وأنها تنعم في الجنة وتصور في أحسن الصور فيكون نعيمها لا انقطاع له (تسويتها مع أهل الجنة من البشر!)
وقال قوم: يجوز أن يعوضها الله سبحانه في دار الدنيا، ويجوز أن يعوضها في الموقف، ويجوز أن تكون في الجنة. وقال جعفر بن حرب والإسكافي: قد يجوز أن تكون الحيات والعقارب وما أشبهها من الهوام والسباع تعوض في الدنيا أو في الموقف ثم تدخل جهنم، فتكون عذابا على الكافرين والفجار. (أي لا تدخل في التعذيب ولكن تدخل ليعذب بها) ولا ينالهم من ألم جهنم شيء كما لا ينال خزنة جهنم.
القول الرابع في المسألة: قد نعلم أن لها عوضا ولا ندري كيف هو.
والقول الخامس: إنها تحشر وتبطل”
مثال آخر هو موضوع صفات الله تعالى الذي هو العمق الحقيقي لإيمان المؤمن والمجال الذي يتسامى فيه فقه المؤمن ويرتقي في معرفته الإيمانية، فكيف آل الأمر في معرفة الصفات؟ مباحث ومسائل طويلة عريضة في عامة كتب المتكلمين أو كتب ما يسمى بالعقيدة: الله تعالى هل هو جسم؟ أو هو ثابت أو متحرك؟ هل هو في مكان أو في غير مكان؟ أو في كل مكان؟ وكيف استوى على العرش؟ وهل في ذلك تماس بينه وبين العرش الذي استوى عليه؟ وهل حملة العرش يحملون الذي استوى على العرش؟! مثل هذه الأسئلة لا مكان لها إلا حينما يصبح الإنسان علمه علما ذهنيا أو خياليا. أيضا هل يدخل في قدرة الباري قدرته على الظلم؟ وهل هو عالم بعلم قائم بذاته، تام لا يزيد ولا ينقص، أم أن علمه يزيد ويتجدد بتجديد الإرادة والفعل والواقع إلى آخره…؟
فلولا الذهاب مع الذهنيات، والابتعاد عن الواقع، فهل هذه مشاكلات تشغل الناس في دينهم أو دنياهم؟ هذا هو السؤال. الإشكالات التي يجيب عنها العالم يجب أن تكون إشكالات حقيقية وتساؤلات حقيقية وقعت له أو وقعت للناس بشكل طبيعي لا مصطنع. فهل هذه أسئلة الناس عامة؟ لا أبدا. بل هذه من مختبرات المتكلمين، فهي التي أنتجت مثل هذه القضايا. حينما وضعوا مختبرات لصفات الله، ومختبرات للقضاء والقدر. ومختبرات للميزان والصراط، وحينما جعلوا هذه المختبرات مغلقة مظلمة، أنتجوا مثل هذه القضايا وغاصوا في متاهاتها. هذه السمة يمكن أن نعبر عنها بتعبير آخر وهو غلبة المنحى الجدلي على المنحى العملي. بل أكثر من هذا حل المنحى الجدلي محل المنحى العملي. وأعبر عن هذا الانحراف المنهجي تعبيرا يسهل حفظه ويسهل فهمه، وهو أن (منهج خَلق القرآن حل محل منهج خُلُق القرآن)، (الخاء الأولى بالفتح والثانية بالضم). حينما سئلت عائشة عن رسول الله ?، قالت كان خُلقه القرآن، إذن المنهج النبوي في التعامل مع القرآن هو (منهج خُلق القرآن) أي هي أخلاق القرآن لنتخلق بها. لكن المتكلمين أو المنهج النظري الذهني أعطانا (منهج خَلق القرآن) ما قيمة هذه القضية (قضية خَلق القرآن)، التي تصارع الناس حولها طويلا وعانى العلماء بسببها كثيرا وكانت محنة وفتنة في تاريخ المسلمين العلمي والثقافي وحتى السياسي؟ هذه قضية لا قيمة لها في الدين ولا وجود إلا في أذهان الذين غرقوا في مختبرات الجدل وسيطرت عليهم عقلية خَلْقِ القرآن بدلا عن عقلية خُلقُ القرآن.
فإذا بقينا على هذا المنوال فستتحول العلوم الشرعية إلى علوم متحفية تاريخية. فالعلوم الشرعية كما تُدْرَسُ وكما تُدَرَّسُ وتتداول، ذات طابع متحفي هو الغالب عليها. والحقيقة أن هذه العلوم المجردة والعلوم الذهنية البحتة لا مكان لها ولا شرعية لها في الإسلام إلا بمقدار ما يكون لها من أثر. ليس في الإسلام علم مجرد لا أثر له ولا عمل معه. ولذلك نجد المقولة التي يقولها علماؤنا منذ القديم “العلم إمام العمل” إذن هناك علم وعمل متلازمان. صحيح أن الأولوية للعلم والأسبقية لاقرأ، لأن “اقرأ” قبل “قم” فالعلم إمام العمل، لكن ليس هناك علم لا يؤم عملا ولا يقود عملا، العلم يقود ويوجه العمل ويضبط العمل، بل يطور العمل. إذن هناك دائما علم وعمل. ولكن أيضا مما ينبغي أن نلتفت إليه، أن العلم لا يستغني عن العمل من حيث هو علم. العلم الصحيح لا يستغني عن العمل. ولذلك العلم الذي ليس معه عمل لا يمكن أن يبقى علما حقيقيا. وحتى إذا كان في مرحلة معينة علما حقيقيا، يعني له قواعده القويمة وله منطق وله نمو وإنتاج، فإن هذه الصفات التي هي صفات العلم، تفقد إذا فقد العمل بذلك العلم. ويتحول العلم إلى خيال وأوهام وإلى علم متحفي، فإذا كان العلم إمام العمل، فالعمل أيضا محك العلم وموجه العلم وملهم العلم، أو محك النظر كما قال الإمام الغزالي.
يقول الإمام الشاطبي: “كل مسألة لا ينبني عليها عمل فالخوض فيها خوض فيما لم يدل دليل على استحسانه، وأعني بالعمل: عمل القلب وعمل الجوارح من حيث هو مطلوب شرعا”. ثم يقول في موضع آخر: “روح العلم هو العمل وإلا فالعلم عارية وغير منتفع به” وينقل عن سفيان الثوري قوله: “العلم يهتف بالعمل فإن أجابه وإلا ارتحل.” يعني لم يبق علما، بل يصير وهما وجهلا وجدلا.
في مسألة كون العمل محك العلم، أنقل كذلك عن الإمام الشاطبي هذه الفقرة وأوضحها قليلا. يقول رحمه الله: “العلم المطلوب إنما يراد بالفرض، لتقع الأعمال في الوجود على وفقه من غير تخلف. أكانت الأعمال قلبية أو لسانية أو من أعمال الجوارح. فإن جرت في المعتاد على وفقه من غير تخلف فهو حقيقة العلم بالنسبة إليه. وإلا لم يكن بالنسبة إليه علما لتخلفه، وذلك فاسد لأنه من باب انقلاب العلم جهلا.”
والمثال الذي جاء به لكي يبين كيف أن التطبيق والواقع محك ومختبر نختبر به التنظير العلمي، هو حينما كاتب أحد شيوخ المغرب (ولقد كنت بحثت في المعيار فإذا به هو أبو العباس القباب) فقال له هذا الشيخ المغربي: إن المريد أو السالك إذا كان في صلاته فشغله شيء من شو اغل الدنيا (ماله أو مزرعته أو تجارته أو دابته) فيجب عليه أن يتخلص منه لكي يصفي همته لصلاته ولربه.
الإمام الشاطبي يقول: هذا القول أشكل عليه، فراسل الشيخ المغربي مرة أخرى وقال له ما مفاده: يا سيدي هذا الكلام إذا أخذنا به وعملنا بمقتضاه، فإن على الناس أن يخرجوا -أي يتخلصوا- عن زوجاتهم وأولادهم وأموالهم. وهذا لا يمكن. إذن العمل نختبر به هذا القول الذي هو قول علمي نظري. نختبره بالعمل فنجده أمرا غير ممكن. غير قابل للتطبيق، غير مقبول حتى في الشرع، لأن هذا لم يفعله أحد من الأنبياء. ثم قال له في تمحيص أكثر، بل في تحد أكثر، قال له: أرأيت إن خرج من هذه الأمور كلها ثم جاء يصلي فشغله فقره وحاجته. وقال له إن كثيرا من الناس لا تشغلهم دوابهم وأملاكهم، بل يشغلهم في صلاتهم أن أولادهم لا يجدون ما يأكلون. فماذا يعملون؟ إذا هذه الفتوى غير قابلة نهائيا للتطبيق.
ومن الأمثلة التي أريد أن آتي بها فتوى بعض الناس الذين يفتون المسلمين في ديار الغرب،في أوربا و أمريكا،بحرمة الإقامة هناك. وبغض النظر عن بعض المستندات التي يعتمدون عليها ومدى سلامة فهمها و تطبيقها، لنأت إلى هذا الاختبار العملي الذي قاله الإمام الشاطبي. الآن إذا أردنا أن نطبق هذه الفتوى: فرنسا وحدها فيها من المسلمين خمسة ملايين. هذا التقدير الرسمي، والتقدير غير الرسمي يصل إلى ثمانية ملايين فأكثر. أما أمريكا فالمسلمون يصلون إلى سبعة ملايين وزيادة. وهكذا في الدول الغربية جميعاً ملايين المسلمين.
وأنا كنت في فرنسا قبل نحو عشرين سنة، وفي ذلك الوقت وجدت أحد الباحثين المغاربة المقيمين هناك يتحدث عن “أمة الإسلام” في فرنسا. وفعلا هناك أمة الإسلام في فرنسا، سواء من حيث العدد الضخم -بعض الأحياء السكنية في بعض المدن الفرنسية أصبحت مجتمعات عربية أو إسلامية. وهكذا في دول أخرى -أم من حيث مدى إمكانية قبول هؤلاء الملايين في بلدانهم و دولهم و مجتمعاتهم الأصلية، أم من حيث المصالح الضخمة التي لا تحصى لهؤلاء المهاجرين، دنيويا ودينيا… على كل حال يمكن أن نقول هناك عشرات المستحيلات إذا أردنا تطبيق هذه الفتوى، وهو تطبيق لا يفكر فيه وفي تداعياته ومتطلباته أصحاب الإفتاء النظري، أصحاب “العلم” المبتوت عن العمل وعن معيار العمل، أي أصحاب المدارسة من غير ممارسة.
الخلاصة
ما أريد أن أخلص إليه مما سبق، هو أن العلوم الشرعية لابد لنا في تناولها والتعامل معها من الجمع والمزج بين المدارسة والممارسة معا. لابد من إخراجها من الجدران المدرسية والأنفاق النظرية. فالعلوم الشرعية ليست فلسفة وعلوما فلسفية، وإن كانت الفلسفة نفسها اليوم بدأت تبحث وتجد لنفسها مسالك ومجالات عملية تطبيقية. أما العلوم الشرعية فهي بطبيعتها ومن بدئها جامعة بين النظر والتطبيق، بين القول والعمل، بين المدارسة والممارسة. فقد أنزل الله تعالى (اقرأ) متبوعة بـ(قم الليل..) و(قم فأنذر…). ولكي نعيد التوازن إلى التعامل مع العلوم الشرعية، ونعيد الاعتبار للممارسة والتطبيق، أدعو إلى الأخذ بجملة من الاقتراحات أقدمها فيما يلي:
في باب المدارسة
1. إبراز الصبغة العملية والأهداف العملية للعلوم الشرعية كافة، وذلك من خلال الدروس والمحاضرات والأبحاث والمؤلفات، فالإسلام لا يعرف علوما نظرية بحتة ولا يعترف بها.
2. جانب المدارسة في العلوم الشرعية يجب أن ينصب ويتركز على النصوص الشرعية المؤسسة والمؤطرة والموجهة لكل علم ولقضاياه، مع الاكتفاء من التراث بما يخدم مباشرة فهم النصوص وتحديد مدلولاتها.
3. دراسة المضامين العلمية التراثية، يجب أن تتركز على جوانبها المنهجية ونماذجها الإبداعية وما فيها من روح اجتهادية تجديدية.
4. يدرس تراثنا العلمي بمختلف فروعه وتخصصاته، وعبر مراحله وتطوراته وتفاعلاته التاريخية، في مادة أو مواد مستقلة اسمها (تاريخ العلوم الإسلامية). وذلك لكي يتاح لنا ولطلبتنا وضع هذا التراث العلمي والتعامل في إطاره وسياقه التاريخي.
في باب الممارسة
1. الاهتمام المستمر بقضية التطبيق وامتداداتها في الحياة الفردية والجماعية، وذلك داخل الحصص النظرية التعليمية وخارجها.
2. صرف المضامين التدريسية والبحثية والتأليفية – قدر الإمكان – إلى معالجة مشكلات الواقع وقضاياه. وحتى إذا كان لابد للموضوع من جوانب نظرية وتاريخية، فليكن ولكن لتكن النتيجة تصب في مجرى الحياة ومستجداتها ومتطلباتها…
3. الإكثار من إجراء البحوث الميدانية التي تصف الواقع وتحلله وتقومه وتدرس الأسباب والمسببات والآثار والمؤثرات، وذلك فيما يندرج في رسالة الإسلام وعلومه، حتى نبقى في دائرة العلوم الإسلامية.
4. الأمثلة التوضيحية للمسائل الفقهية والأصولية والعقدية والتربوية والتفسيرية يجب أن تكون مأخوذة ومستوحاة من الواقع المعيش بدل الانحباس في أمثلة التاريخ البائد أو الاستدلال بالمُثُل الخيالية والافتراضية.
5. انخراط أهل العلوم الشرعية في مجاري الحياة والدخول في مواقع التطبيق والممارسة، كالقضاء، والسياسة، والاقتصاد، والإعلام، والإفتاء، وكل ما يجعلهم يباشرون ويعاينون ويحتكون مع المجتمع ومع الناس ومع مواقع التدبير والتسيير. وحينئذ فإن علمهم سيزداد وسيتعمق ويختبر ويقوم، وسيأخذ -بإذن الله تعالى- طريقه إلى التأثير والنفاذ.
دكتور أحمد الريسوني