إن الإيمانَ نورٌ وهو قوةٌ أيضاً، فالإنسانُ الذي يظفر بالايمان الحقيقي يستطيع أن يتحدى الكائناتِ ويتخلصَ من ضيق الحوادثِ، مستنداً إلى قوةِ إيمانه فَيبحرُ متفرجاً على سفينة الحياة في خضم أمواج الأحداث العاتية بكمال الأمان والسلام قائلا: تَوكَّلتُ على الله، ويسلّم أعباءه الثقيلةَ أمانةً إلى يدِ القُدرةِ للقدير المطلق، ويقطعُ بذلك سبيلَ الدّنيا مطمئنّ البال في سهولةٍ وراحةٍ حتى يصل إلى البرزخ ويستريح، ومن ثم يستطيع أن يرتفعَ طائراً إلى الجنة للدخول إلى السعادة الأبدية.
أما إذا ترك الإنسانُ التوكل فلا يستطيع التحليقَ والطيرانَ إلى الجنة فحسب، بل ستجذبه تلك الأثقالُ إلى أسفل سافلين.
الإيمان إذن يقتضي التوحيد، والتوحيدُ يقودُ إلى التسليم، والتسليم يُحقق التوكلَ، والتوكلُ يسهّل الطريقَ إلى سعادة الدارَين. ولا تظنّن أن التوكل هو رفضُ الأسباب وردّها كلياً، وإنما هو عبارةٌ عن العلمِ بأن الأسبابَ هي حُجُب بيَدِ القدرة الإلهية، ينبغي رعايتها ومداراتها، أمّا التشبثُ بها أو الأخذ بها فهو نوعٌ من الدعاء الفعلي، فطلبُ المسَبَّباتِ إذن وترقّب النتائج لا يكون إلاّ مِن الحقِّ سبحانه وتعالى، وأنّ المنّةَ والحمدَ والثناءَ لا ترجعُ إلاّ إليه وحدَه.
إن مَثلَ المتوكلِ على الله وغير المتوكل كَمثَلِ رجلَين قاما بحمل أعباءٍ ثقيلةٍ حُمّلت على رأسهما وعاتقهما، فقطعا التذاكر وصعدا سفينةً عظيمةً، فوضعَ أحدهُما ما على كاهِله حالما دخول السفينة، وجلسَ عليه يرقُبُه، أما الآخرُ فلم يفعل مثلَه لحماقته وغروره، فقيل له: ضع عنك حملكَ الثقيل لترتاح من عنائك؟ “، فقال: ” كلا، إني لست فاعلاً ذاك مخافة الضياع، فأنا على قوةٍ لا أعبأُ بحملي، وسأحتفظ بما أملِكه فوقَ رأسي وعلى ظهري “، فقيل له ثانية: “ولكن أيها الأخ إنّ هذه السفينةَ السلطانية الأمينةَ التي تأوينا وتجري بنا هي أقوى وأصلبُ عوداً منا جميعاً، وبإمكانها الحفاظُ علينا وعلى أمتعتنا أكثرَ مِن أنفسنا، فربما يُغمى عليك فتهوي بنفسِك وأمتعتك في البحر، فضلاً عن أنك تفقِد قوّتَك رويداً رويداً، فكاهلُك الهزيل هذا وهامتُك الخرقاء هذه، لن يَسَعهما بعدُ حملُ هذه الأعباء التي تتزايد رَهَقاً، وإذا رآك ربّان السفينة على هذه الحالة فيسظنــُّك مصاباً بَمسٍّ من الجنون وفاقداً للوعي، فيطرُدُك ويقذِفُ بكَ خارجاً، أو يأمرُ بإلقاء القبضِ عليك ويُودِعك السجن قائلاً: إن هذا خائنٌ يتهم سفينَتَنا ويستهزئُ بنا، وستُصبح أضحوكةً للناس، لأنك بإظهارك التكبّر الذي يُخفي ضعفا – كما يراه أهلُ البصائر – وبغرورِك الذي يحمل عَجزاً، وبتصنّعك الذي يُبطن رياءً وذلة، قد جعلتَ من نفسك اُضحوكةً ومهزلةً، ألا ترى أن الكل باتوا يضحكون منك ويستصغرونك..!
وبعد ما سمع كلَّ هذا الكلام عاد ذلك المسكينُ إلى صوابه فوضع حِملَه على أرضِ السفينة وجلسَ عليه وقال: “الحمد للّه… ليرضَ الله عنك كل الرضا فلقد أنقذتَني من التعب والهوان ومن السجن والسخرية”.
بديع الزمان النورسي رحمه الله