لا يحتفل المسلم بالعيد بالزينة والبهجة والسرور فقط، ولكنه أيضا يتأمل معنى المناسبة ومغزاها. ومن المعلوم أن كلا العيدين، عيد الفطر وعيد الأضحى، يأتيان بعد عبادتين هما ركنان من أركان الإسلام: فعيد الفطر يأتي بعد صوم شهر رمضان، وهو يمثل مجاهدة النفس للشهوات والأهواء، وعيد الأضحى يأتي بعد أداء فريضة الحج بما تمثله من جهاد النفس والبدن معًا.
ويذكرنا عيد الأضحى المبارك بذكريات عظيمة.. عسانا نأخذ منها العظة والعبرة، ونتعلم منها ما يجدر أن نتعلمه من دروس.
وأولى هذه الذكريات هي ذكرى الفداء والتضحية. ذكرى المحنة التي تعرَّض لها أبو الأنبياء إبراهيم -عليه السلام- حينما رأى في المنام أنه يذبح ولده الغالي إسماعيل -عليه السلام-، ورؤيا الأنبياء حق، ولا بد أن تنفذ.. إنها محنة ما بعدها ابتلاء، لكن قوة الإيمان بالله تعالى والرضا بقضائه يهون أمامهما كل شيء؛ فعزم إبراهيم –عليه السلام- على تنفيذ أمر ربه، ومن العجب أنه لم يفعل ذلك خلسة أو أثناء نوم ولده وفلذة كبده، ولكنه أشركه في الأمر بكل إيمان الأنبياء وحنان الأبوة: “يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى…” (الصافات: 102)، ويقينًا أنه يعلم سلفًا رد ابنه على سؤاله، فهو نبت طيب من نبت طيب، وإلا ما أقدم على توجيه هذا السؤال، حيث إنه موقف يتجمد فيه اللسان، وتتوقف فيه أحبال الصوت عن عملها في مقياسنا نحن البشر، لكنهم رسل الله عز وجل. ويرد الابن البار على أبيه ثابت الإيمان: “يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرْ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِين” (الصافات: 102). ما أروعه من رد في موقف تشيب له الرؤوس ويذهب فيه عقل الحليم، لكنها قوة الإيمان؛ فكل شيء يهون في سبيل رضى الله تعالى، فهو صاحب النعمة يمنحها لحكمة ويسلبها لحكمة أيضًا يعلمها هو.
لكن الله اللطيف بعباده بعد أن علّم إبراهيم -عليه السلام- درس قوة الإيمان والإذعان لمشيئته، أراد أن تقر أعين الأب بأنه الغالي ويواصل مسيرة الحياة، حيث سيخرج من نسله أعظم أنبياء الله على الإطلاق محمد (صلى الله عليه وسلم) “فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيم” (الصافات: 103 – 107).
وثاني هذه الذكريات في عيد الأضحى المبارك هي ذكرى حجة الوداع، حيث خطب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيها خطبته الجامعة، فوضع بها أعظم دستور عرفته البشرية على هدي كتاب الله تعالى، وتطبيقًا لما جاء فيها بكلمات جامعات مانعات، أدمت مقدمتها قلوب المؤمنين وقرحت مآقيهم لا شك وهم يسمعون رسولهم يودِّع هذه الدنيا، وقد كان سندهم ونورهم طوال السنين لكنه -صلى الله عليه وسلم- طمأنهم في نهاية خطبته، وهو يقول لهم: “وقد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدًا، أمرًا بينًا: كتاب الله وسنة نبيه”.
في ذلك المشهد المهيب، وقف رسول الله صلي الله عليه وسلم في حجة الوداع وكأنها موعظة مودع، وقف يبين ويعلم،فبدأ -صلى الله عليه وسلم- خطبته بقوله: “أيها الناس.. اسمعوا قولي، فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبدًا”. ثم وضع أسس الفلاح والنجاح للمسلمين، وحدّد معالم المجتمع الراقي “أيها الناس.. إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا، وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، وقد بلغت”.
إن كل مسلم أخ للمسلم وإن المسلمين اخوة فلا تظالموا، وإن دماءكم وأعراضكم وأموالكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم (…) اسمعوا قولي واعقلوه، إن كل شيء من أمر الجاهلية موضوع، و دماء الجاهلية موضوعة وأول دم أضع دم بن ربيعه بن الحارث وإن ربا الجاهلية موضوع وأول ربا أضع ربانا ربا العباس بن عبد المطلب…
إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام حرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا.. تذكير دائم من المصطفي صلوات ربي وسلامه عليه بحرمة دماء المسلمين، الدماء المسلمة دماء زكية، ينبغي أن تصان ويجب ألا تهدر …غير أن الدماء المسلمة اليوم أصبحت رخيصة علي أهل الباطل، والطواغيت. جعلوا منها قربانا لديمومة كراسيهم.
ومن دروس حجة الوداع الخالدة التي علمها أعظم قائد للبشرية التحذير من الجاهلية، من حُكم الجاهلية، ومن حمية الجاهلية، ومن عادات وتقاليد الجاهلية، ومن ربا الجاهلية . النبي نهى أن تكون الآصرة التي يتجمع عليها الناس هي آصرة الجاهلية أو علاقة القبلية أو القومية الضيقة (إن كل مسلم أخ للمسلم وإن المسلمين اخوة) هذه هي الوشيجة التي ينبغي أن تربط بين المسلمين ومن وقت أن ابتعدنا عنها وصرنا إلي روابط قبلية أو قومية أو عرقية تنكبنا الطريق، إنها إشارة ذات معني إلي ضرورة التوحد والوحدة والتكامل بين المسلمين حتي إذا انفتحوا علي الأمم لم يذوبوا فيها بقدر ما يؤثروا فيها.
ما أحوجنا إلي تذكر كل هذه المعاني الأصيلة ونحن في منعطف صعب وخطير تتداعي علينا فيه الأمم كما تتداعي الأكلة إلي قصعتها، ما أحوجنا إلي استرداد هويتنا وثقافتنا ووجه حضارتنا الإسلامي.
لقد بلَّغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- هذا إلى الناس كافة حتى قيام الساعة، فهل نحن اليوم نقيم هذه الشعيرة العظيمة كما اقامها السابقون ؟…و هل نحن نقدر مغزاها و نقدر نعم الله علينا و التي لا تعد و لا تحصى ؟…و هل نطبق تعاليم ما جاء في خطبة الوداع على انفسنا و اسرنا و مجتمعاتنا ؟