حيث يوجد الهوان المادى والأدبى لا يُرْجَى خير، ولا يؤمن شر، فالإنسان المغلق الخامل المحطَّم، لا ينتفع بالدين، ولا ينتفع به الدين!.
ما الذى يفيده الإسلام من رجل طُمِسَتْ حياته، وشاهت ملكاته، وعاش على ظهر الأرض حفنة من ترابها، أو قطعة من صخورها؟
إن الإسلام لا يستفيد شيئا من هذا الشخص. بل إنه يُضارُّ به ويَهُونُ فيه. والإناء الملوَّث يُزْرَى بأطهر السوائل ويبخس قيمتها.
كذلك الشعوب العاجزة الكسول، تحط من مكانة الأديان التى تعتنقها، وتهبط بمستوى العقائد التى تنتمى إليها..!!
وكما أن الدين لا ينتفع بتابعه الهيِّن، فإن التابع الهين لا يحسن الانتفاع مما سيق إليه، من مواريث نفيسة، ولا مما أحيط به من مبادئ غالية، كالجاهل الذى يلقى نفسه فى مكتبة حافلة، أو الممعود الذى يواجه مائدة مفعمة!!.
بل إن الأتباع الحمقى، كثيرًا ما يفرضون سفههم على أسمى الحقائق!. فبدلا من أن يرتفعوا معها إلى القمة، يهبطون بها إلى السفوح!!. ومن ثمَّ يجب أن نقرر هذه الحقيقة، فى علاجنا لمشاكلنا المعقَّدة.
إن شعوب الشرق الإسلامى تحتاج- قبل أن تفهم الإسلام، وقبل أن ينتظر منها إعزاز الإسلام- إلى جهود جبَّارة، لرفع مستواها المادى والأدبى. أى إلى تصحيح إنسانيتها أولا.
حتى إذا كوَّنَّا الإنسان الذى يعقل ما يُخاطب به، ويعرف واجبه نحوه، قلنا له : انصر ربَّكَ ونفسك، إذا شئت الحياة الكريمة فى يومك وغدك. أما جهود المصلحين- قبل اتخاذ هذه الخطوة- فهى أمواج من الماء، تتدفق على صحراء من الرمال.. هيهات أن يكون لها ثمر !!.
والدين فى حقيقته؟ ليس إلا إكمالا لمشاعر الإنسان، وتصحيحًا لمواهبه. فهو عقل يحسن التفكير، وعين تُحسن النظر، وأذن تُحسِن السمع، ويد تُحسِن العمل..
والمؤمن على هذا- إنسان ناضج الفهم، والتأمل، والحكم على الأمور. إنسان جيد الإنتاج والآثار والتصرفات… فإذا اضطربت هذه المعانى فى نفسه، اضطرب معها مصدر الإيمان فى قلبه وَلبِّه، وتقلصت معها حقيقة إنسانيته.
ولا تزال طوائف من الناس تفقد إيمانها وإنسانيتها معًا، حتى تدمغ بوصف القرآن لها. (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون ).
والمرء يستحيل دابة، يوم يموت فيه عقله المفكر، وترتكس فيه مشاعره اليقظة، فيصبح غير مسئول عن سمعه وبصره وفؤاده، لأن ليس له من ذلك إلا ما للحيوان السائم. حواس مسخرة فى أغراض الحياة الدنيا فقط.
وأمثال هؤلاء هم- مع الأسف العميق- قوام الجماهير الغفيرة، التى أعماها الجهل، وأوهاها المرض، وأهانها الفقر، قوام الكتل الضخمة من البشر، الذين يزخر بهم الشرق، ولا يتقدم بهم إلى الأمام خطوة، بل يتأخر بهم خطوات، أو هُمُ التراب، الذى تبرد فيه حرارة الإسلام وتتبدد قواه، كدين موجه فعال. هذا الهوان المادى الأدبى، لا ينبغى حسبانه دينًا، أو ظلاً لدين!. فهو عار ولدته بيئات آثمة لا تتصل بالدين إلا ادعاء، ولا يتصل بها الدين إلا مشَّوها مظلومًا مفترى عليه!.
ولكى نطمئن إلى وجود ديانة صحيحة وأتباع محترمين، يجب أن نسارع إلى محو كل أثارة للفقر والجهل والمرض، وأن نخلق جيلا جديدًا، يصلحُ- بفطرته- لأداء الرسالات الكبرى، وحمل أعبائها.
كلما نظرت إلى الرجال والنساء، فى الريف البائس المكروب، أو فى زحام الأحياء الوطنية بالمدن، أو حيث أعمل لوعظ الناس بالمساجد وأشباهها من الأندية الدينية، كنت أرى أن هناك حلقة مفقودة، لابد منها، ليتصل هؤلاء الناس بالدين، اتصالا مُجْدِيًا عليه وعليهم.
فقد يحدث أن تبذل وقتًا، فى تطبيب دابة جريح، وأن تبذل الوقت نفسه فى إصلاح سيارة عاطلة، أو طيارة مهيضة. ولكن النتائج التى تحصل عليها من وراء هذه الجهود، تتفاوت تفاوتًا كبيرًا.
والذى يركب الدابة بعد شفائها، غير الذى ينطلق بالطائرة بعد إصلاحها!.
والتبشير بالدين بين الشعوب البليدة الوانية المترنحة، قد يكسب الدين عددًا من الأنصار الكسالى، أو الأتباع السكارى…
فهل هذه الثمرة، هى التى تحصل عليها، لو جئت من بداية الأمر، فعملت على فتح العقول المغلقة، وإنماء المواهب المشلولة، وإعزاز النفوس الكسيرة، وإبراء الأكمه والأبرص؟!
فإذا قدمت للدين بعد ذلك أحدًا، قدَّمت قُوَّةً، يعمل به، لا عقبة يضطرب خيالها.!!
إن النبى- صلوات الله وسلامه عليه-، وَجَّه دعوته الأولى للعرب، وهم- على كفرهم الموروث- قوة لا يُستهان بها فى موازين الرجولة. أجسام لم تستنزفها الأمراض المتوطنة، وكفايات خلقية عارمة، لما كانت فى جانب الضلال، جعلته مرهوب العدوان، فلما نقلها صاحب الرسالة العظمى من الغى إلى الرشاد، جعلت الحق مهيئا، وطوَّفت به أقطار الأرض، تصارع دونه الأبطال، وتزلزل أمامه الجبال.
وأمام الشعوب الإسلامية الآن مراحل من صحة الأبدان والأخلاق، ومن كفاية العمل والنظام، ومن روعة الإنتاج وإخصاب المواهب…
مراحل طويلة يجب أن تقطعها على عجل، حتى تقف على قدم المساواة، أمام شعوب الغرب الكافرة بالإسلام، بل المتمردة على الديانات جملة.
إن هذه الأمم المحسوبة على الإسلام، لن ترفع به رأسًا، ولن ترفع له عَلَمًا، مادامت تعيش فى هذا الدرك من الهوان الإنسانى.
إن حدَّة الذكاء، ويقظة الفكر، واستنارة الرأى، عناصر لابد منها فى تكوين الإيمان الصحيح، فإن الإيمان معرفة بلغت حدّ اليقين، وانتفت معها الريبة. وحيث لا يوجد الإدراك الواضح، والفهم الناضج، يصبح اليقين غير ذى موضوع!!
ولا يحسب أحد أننا بذلك نظلم البلهاء، أو نغمط الحمقى حقهم- إن صحت لهم حقوق- بل إننا نستوحى هذا الحكم، من نصوص القرآن الكريم نفسه. فالعقول الذكية وحدها هى التى تستطيع اختراق أسرار الكون، ومعرفة آيات الله فى شتى الأمكنة والأزمنة. (إنما يخشى الله من عباده العلماء) (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب ).
والعقول الذكية وحدها، هى التى تميز الحق من الباطل، وتعرف حقائق الوحى، من نزعات الهوى وتلفيق الضلال : (أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولو الألباب).
والعقول الذكية وحدها، هى التى تستفيد من عِبَر الماضى، وتنتفع بتاريخ الإنسانية الطويل، وقصص الأبطال أو الأنذال، من المصلحين أو المفسدين : (لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب).
ولا تكون الحكمة فى معالجة الأمور، والدقة فى الحكم على الأشخاص والمسائل، والبصر بالمقدمات والنتائج، إلا لأصحاب العقول الراجحة، والمدارك الواسعة، والمواهب الرائعة. (يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا وما يذكر إلا أولو الألباب ).
وتربية العقول، وإذكاء المواهب، وتفتيق الملكات الإنسانية ليس أمرًا هيِّنا. فمراحل التعليم فى المدرسة، ومراحل التجريب فى الحياة، واستيراد الأفكار البعيدة، وضم ما لا نعرف إلى ما نعرف، والنظر فى الجديد نظرة تلطف وإيلاف، لا نظرة جمود واعتساف، والتطويف فى آفاق العوالم المادية والأدبية. هذه جميعًا، وسائل العقل الإنسانى، ثم هى بَعدُّ وسائل العقل السليم لمعرفة الله، وحسن الإيمان به، والإفادة من دينه.
إن عمل العقول الكليلة فى آيات الوحى، هو عينه عمل الحشرات القارضة فى أوراقه، عندما يَدّبُّ فيها البلى، تتلفها ولا تعرفها، وتظلمها ولا تنصفها.
وذاك سر التدهور الاجتماعى، بين جماهير الأميين من المسلمين وغيرهم. وما أبعد هذه الكتل الأميَّة عن الدين! مهما زعموا لها من إيمان العجائز !!.
نعم قد يكون هناك من ذوى العقول القوية من يَحِيدُ عن مناهج الاستقامة، وأصول الفضائل، ومن يتمرد على تعاليم الدين!. بَيْدَ أن هذا لا يُقَلِّل من قيمة العقل، ولكنه يبين لنا خطورة الشهوات الجامحة، والأهواء التى قد تصرف المرء عن الحق وهو يعرفه.
ثم إن محاربة الجهل أن يطغى على العقل، لا تغنى عن محاربة الفساد أن يتطرق إلى الفؤاد. والنَّكْسَة التى أصابتنا فى تاريخنا الطويل، جاءت من فساد عقول العامة ومن فساد ضمائر القلة الحاكمة.
فإذا أصلحنا العقول بالتعليم الشامل، صَحَا الشعب، فلم يبق أمام فاسدى الضمائر مُتَّسعٌ للبقاء. ذلك أن الشعوب المتعلمة قوة، يجرف تيارها القذى والغثاء. (فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض).
فلنعمل- على عجل- لرفع المستوى العلمى، فهذه وحدها هى السبيل، زعموا أن ظريفا، سمع رجلا يشكو إلى الله علته، ولم تكن علته من داء واحد، فأخذ يسأل الله أن يشفى له بصره المرمود، وبطنه الممعود، وقلبه المضطرب وقدمه المختلج و.. و.. فقال له الظريف : يا أخى بدلا من أن يرفع فيك هذا كله يأخذك ويخلق غيرك!
هذه الفكاهة التى أداروها حول المريض المسكين، ذكرتها فى نفسى عقب إلقاء عظة طويلة على المصلين فى مسجد السيدة زينب، وبعد نظرة عميقة إلى العلل النفسية والعقلية والبدنية، التى تعمل عملها فى جمهور هذه الأمة.
إن هناك كثيرين من أبناء الجيل الحاضر يعز على الإصلاح حالهم، لأنهم مصابون من نواح شتى، ولأن الالتواء الذى حدث فى نظرتهم إلى الحياة، يكاد يصبح فيهم خليقة ثانية، فأنت لا ترقع خرفا حتى يظهر لك فتق جديد..! وقديما قالت امرأة عجوز :
أضحى يمزق أثوابى ويضربنى .. أبعد شيبى يبغى عندى الأدبا ؟!
إننى أنصح بالاتجاه إلى الناشئة، والعناية بمغارسها، حتى يتم نماؤها على خير الوجوه، فإن الأجيال التى مرنت على الظلام تستغرب النور. (فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم).
—–
الشيخ محمد الغزالي – من كتاب : الإسلام والأوضاع الاقتصادية