32567

أحمد شاب يحب لغته، ويقرأ كثيراً في كتاب الله، وتوصل جراء قراءته لكتاب الله إلى ملاحظة بسيطة مفادها أن الحروف في كتاب الله تهيئ للحروف.. وأن الحرف ذا الزخم القويّ يكون سبباً في إتيان كلمة أخرى تحمل ذلك الحرف سواء قبله أو بعده..
جاءه ابن عمّه خالد يناقشه فيما يزعمه، فلنستمع لحوارهما:

خالد: هل من الممكن أن تأتي لي بمثال أخي أحمد على زعمك أن الحرف في الكلمة يكون سبباً في إتيان كلمة أخرى تحمل نفس الحرف..
أحمد: بكل تأكيد، خذ على سبيل المثال قوله تعالى:
“عينا فيها تسمّى سلسبيلا” فتسمّى لها مرادف وهو تدعى، ولكن جاءت تسمّى _ والعلم عند الله_ لكون الكلمة التي بعدها ( سلسبيلا) فيها أكثر من سين، مما جعل تسمّى أنسب هنا من تدعى لأنّها تحتوي على حرف السين، ولعلمك يا خالد لم تذكر كلمة ( تسمّى) في كتاب الله كلّه إلا مرّة واحدة، هي هذه المرّة!
خالد: ولكن ما الفائدة من هذا؟ لماذا يكون الحرف سبباً في إتيان حرف يشبهه ضمن كلمة أخرى؟
أحمد: ألم ييسر الله كتابه للذكر؟ ومن التيسير جعل الكلمات يذكر بعضها ببعض، ويمسك بعضها برقاب بعض.. فإن تنوّع وكثرة الحروف والمعاني والألفاظ مظنّة التشتيت، وعدم التركيز، وهذا من أسباب الهدوء النفسي الذي يشعر به المستمع لكلام الله، حتى لو كان أعجميّا لا يفهم ما يقال، فالحروف فيه غير متضاربة، والكلمات منسقة تنسيقاً.. خذ هذا المثال، يقول تعالى:”.. كان مزاجها زنجبيلا” انظر إلى حرفي الزاي والجيم في مزاج، وهما أميز حروف (مزاجها)، تجدهما قد انعكساً في الكلمة المجاورة ” زنجبيلا”! فترتاح النفس لإتيان الزنجبيل بعد مزاجها.. وكأن الكلمتين كلمة واحدة..
خالد: معذرة أخي أحمد، وماذا تقول عن قوله تعالى :” إن الأبرار يشربون من كأس كان مزاجها كافورا”؟ فالزاي والجيم موجودة في المزاج هنا، ولكنّ لا وجود لهما في الكافور..
أحمد ضاحكاً: كنت سآتي بهذه الآية قبل أن تسألني عنها، انظر للآيتين قبلها وستكتشف شيئا! يقول تعالى قبل هذه الآية:” إنّا هديناه السبيل إما شاكراً وإمّا كفورا * إن أعتدنا للكافرين سلاسل وأغلالا وسعيرا” ألا تلاحظ شيئا؟
خالد: للأسف لا!
أحمد: ألا تلاحظ وجود مادّة ك ف ر بوفرة؟ فكفوراً والكافرين كلاهما يحتويان على مادّة ك ف ر، وهي موجودة في كلمة كافور!
خالد: إذن؟
أحمد: فكان الأنسب هنا لوجود مادّة ك ف ر في كفور وكافرين أن يكون المزاج هنا كافور لا زنجبيل.. فالكافين والفائين والرائين في الكفور والكافرين أقوى من الزاي والجيم في المزاج فهيّئا لإتيان كافور!
خالد: هل لديك مثال آخر؟
أحمد: أمثلة كثيرة، أخي خالد ما رأيك بكلمة أمشاج؟
خالد: ماذا تعني؟
أحمد: هل تسمعها بكثرة؟
خالد: لا..
أحمد: إذن هي كلمة مميّزة؟
خالد: نعم مميّزة..
أحمد: كلامك صحيح، لدرجة أنّها لم تذكر في كلام الله إلا مرّة واحدة، في قوله تعالى: ” إنّا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه، فجعلناه سميعاً بصيرا”..
ما رأيك في حرف الشين، أهو كثير الاستخدام أم قليله؟
خالد: لا أدري..
أحمد: بل تدري، هل تستخدم حرف الشين مثل استخدامك الألف واللام والميم..
خالد: لا طبعاً، هو متوسط الاستخدام..
أحمد: جميل، لدينا هنا كلمة نادرة الاستخدام ( أمشاج) فيها حرف نادر أو متوسط الاستخدام ( حرف الشين).. ذكرت في الآية الثانية من سورة الإنسان.. لنرى ما هو تأثيرها!
خالد: ما هو؟
أحمد: لقد تكرر حرف الشين في سورة الإنسان 17 مرّة!
خالد: كم آيات السورة؟
أحمد 31 آية..
خالد: ربما تكون النسبة معقولة!
أحمد: لو تلاحظ أن سورة المرسلات وهي السورة التي تلي سورة الإنسان ليس فيها سوى سبع شينات، مع أن عدد آياتها خمسين آية! وسورة القيامة وهي التي تسبق سورة الإنسان وعدد آياتها أربعون آية لم تذكر فيها الشين سوى مرّة واحدة فقط!
خالد: عجيب! هل تريد أن تقول أن شين أمشاج كان لها أثر في كثرة ورود الشينات في سورة الإنسان؟
أحمد: هذا ما أريد قوله.. أريدك أن تتأمل: كلمة زوال لم ترد في القرآن كلّه إلا مرّة واحدة، وكلمة تزول لم ترد في القرآن أيضاً إلا مرّة واحدة..
خالد: وماذا في ذلك؟
أحمد: ومع هذا فقد وردتا في سورة واحدة! هي سورة إبراهيم..
خالد: طبيعي، فكلمتي الزاني والزانية على سبيل المثال لم ترد في القرآن كلّه إلا ستّ مرّات كلّها في سورة النور، بل في آيتين متواليتين، لأن السياق يحتّم ذلك، الله يتحدّث عن الزاني، والحديث عن الزاني لم ينته فلزم منه تكرار اللفظ..
أحمد: عزيزي أنت ذكي، ولكن كلمة زوال غير كلمة تزول هذا شيء، ثم الكلمتين ذكرتا في سياقين مختلفين تماما، اسمع:
” أولم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال”
“وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال”
الأولى الآية رقم 44 والثانية رقم 46، والسياقان كما ترى مختلفان تماما.. أفلا تظن أن زوال الأولى هيأت ومهّدت لمجيء تزول الثانية؟
خالد: لا أدري، ولا أستطيع الجزم..
أحمد: حتى أنا لا أستطيع الجزم، ولكن ألا ترى أن هذا شيء يستدعي التأمّل..
خالد: نعم، هات مثالاً آخر..
أحمد: كلمة تزد، لم ترد في كتاب الله غير مرّتين كليهما في سورة نوح! أيضاً كلمة مزيد لم ترد سوى مرّتين كليهما في سورة ق! والآيات ليست متتالية!
خالد:عزيزي أحمد، تذكرت، لديّ موعد مع أحدهم هل تأذن لي بالانصراف؟
أحمد: لا بأس خذ المثال الأخير:
يقول تعالى في سورة القمر الآية الرابعة : ” ولقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر” كلمة مزدجر غريبة، لم تتكرر في القرآن في غير هذا الموضع، فيأتي في الآية التاسعة قوله تعالى: “فكذبوا عبدنا وقالوا مجنون و….” في غير القرآن نستطيع أن نقول: وانتهر، وضرب، وكذّب، ولكن الله تعالى يقول :” وازدجر”! فلماذا أتت وازدجر على وجه التحديد؟ قد يكون هناك حكم من إتيانها، ولكن ألا تظن أن من الأسباب وجود ( مزدجر) قبلها بأربع آيات..
خالد: وكم مرّة وردت ( ازدجر) في القرآن؟
أحمد: أيضاً مرّة واحدة..
خالد: عجيب..
أحمد: فكّر فيما قلته لك جيّداً..وتأمّله بهدوء، وتدبّر الكثير من الآيات وستلاحظ هذه الملاحظة..
خالد: بإذن الله.. أستأذنك الآن..
أحمد: بالتوفيق..

أخي الكريم: ما رأيك فيما قاله أحمد؟

صنع الحوار :علي جابر الفيفي

 المصدر: علي جابر الفيفي

من admin

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *