هذه الآية شدتني شدا (إنما يستجيب الذين يسمعون. والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون). جاءت ردا على خفقان فؤاده عليه السلام وهو يرى إعراض الناس عن الهدى. أليس هو من قيل له (فلا تذهب نفسك عليهم حسرات) و (لعلك باخع نفسك). أليس هو المبعوث (رحمة للعالمين). وهو (عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم). لا يمكن أن يتصور متصور رحمة فؤاده عليه السلام بالإنسان. قال له ربه وفؤاده يخفق أسفا عليهم ألا يؤمنوا ليسعدوا (فإن إستطعت أن تبتغي نفقا في الأرض أو سلما في السماء فتأتيهم بآية). ثم أكد له تعزية لفؤاده الكسير أن الإستجابة رهينة شيء واحد. ألا وهو السمع.
لنعترف بكبرنا إذ قليل منا فحسب من يتواضع فيسمع.
أكثرنا يسمع ـ ولا يستمع ـ. بل يجامل تظاهرا بالسمع ولا ينصت. لذلك قال سبحانه في شأن القرآن الكريم (وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا). الإنصات من الإستماع كالقسط من العدل. هناك السمع وهناك الإستماع وهناك الإنصات. ليس هذا مع كلام الله فحسب بل أكثرنا كما قال حكيم غربي : يسمع لا ليفهم بل ليعدّ ردّه ويفحم صاحبه ويبيّن له خطأه. وعندما نفعل مثل هذا مع الكلام الذي لا ريب فيه نكون قد فوّتنا على أنفسنا فرصة السعادة. الكبر يحجزنا أن نستمع إلى الناس سيما إذا كانوا خصوما أو غير مرغوب فيهم.
الإستماع وحده بتواضع ورغبة في العلم يضمن الإستجابة.
ذلك هو الذي جرى في عهده عليه السلام فمن تواضع وجلس يستمع إلى هذا الكلام آمن ونجا ومن تكبر فأعرض هلك. جاءت روايات صحيحة أن كثيرا من المشركين إعترفوا لما سمعوا لهذا القرآن أنه خطاب عقلاني مقنع ولكن خانتهم الشجاعة الأدبية الكافية ليتخذوا قرار الإيمان سيما إذا كانوا في أقوامهم قادة. هي معركة الحرية : من يخوضها بنجاح ليحكّم عقله فحسب سعد وأسعد ومن شغب عليه كبره شقي وأشقى. إبن الخطاب مثال بارز على ذلك إذ أن الرجل معتدّ بنفسه وهو قوي في قومه من طينة الصعاليك الذين لا يخشون أحدا في قبائلهم بل تهابهم قبائلهم. فلمّا جلس الرجل في هدوء وإستمع إلى هذا الكلام الجديد آمن بيسر وسهولة. ليس الإسلام نظرية فكرية فلسفية متأبية عن الفهم. بل هو رسالة مبيّنة يسيرة سهلة تقنع العقل عندما تخاطبه فيستمع إليها آمنا من أي سلطان آخر يمكن أن يتسلط عليه فيؤذيه أو يحقره. من يؤمن هو الإنسان الحر فعلا أي الذي يستخدم حريته بلا سلطان يهابه وأن من يؤمن هو الإنسان المتواضع الذي يستمع وربما يناقش ويسأل ولا مانع في ذلك إذ لكل سؤال جواب في هذا الدين الذي سجل أسئلة كثيرة سئلت له بل نقل حوارات لا حصر لها شارك فيه الشيطان والمنافق والكتابي والمشرك وغيرهم.
الذين يسمعون بآذانهم ثم يحكمون أفئدتهم.
السماع هنا كناية عن سماع الفؤاد وليس سماع الأذن إذ لو قلنا كذلك لما آمن أصمّ في الدنيا. إذ أن ما ينتهي إلينا من أبصارنا ومن أسماعنا نحوله تلقائيا إلى الأفئدة لتحلله ثم تأخذ فيه القرار المناسب فهذا نكذبه وذاك نصدقه وذلك نتجاهله إلخ ..
أنظر إلى عجائب التعبير القرآني الباهر.
من يقرأ هنا فلا يسجل بلسانه وقفا عند قوله (يسمعون) يعرّض نفسه ومن يستمع إليه إلى خلط هو في غنى عنه. لذلك تجد علامة وقف لازم (م) في حفص. ثم يستأنف ليجد قوله ( والموتى يبعثهم الله). من هم الموتى؟ الموتى المقصودون هم الذي لا يسمعون أي لا يسمعون بأفئدتهم حتى لو سمعوا بآذانهم. يريد أن يقول لنا أن الموت الحقيقي هو الإعراض عن الإستماع والإنصات. ذلك أروع فقه بآلة السياق. إذ لو قصرنا الموتى هنا على المعنى المادي الصريح ـ لا تجوزا ـ لكان البعث مقصورا عليهم هم ولا يشمل (الذين يسمعون).
هي حقائق عظمى علينا بالجدية فيها.
1 ـ إذا حدثك محدث فاستمع إليه بعناية وأعره فؤادك بإخلاص فإن كان في كلامه ما يفيدك علما أو خيرا فبها ونعمت وإلا فجامله وإحتضنه وأشعره أنه صاحب قدر ووزن وقيمة إلا في حالات نادرة من مثل كلام بذيء فاحش أو فيه سخرية أو حط من الإنسان أو هزؤ بالمقدسات أو غير ذلك. كان الناس في عهده عليه السلام يكثرون عليه من النجوى وكثير منها فارغ وهو لفرط حيائه وشدة تواضعه يظل يستمع إلى كل ذلك ففرض عليهم سبحانه صدقة ـ أي مالا ـ يؤدى لمن يريد مناجاته وبذلك يعسر على كل من يريد أن يعطله عليه السلام عن أداء مهمته حتى لو كان بحسن نية إذ لا يقبل على دفع المال إلا صاحب حاجة.
2 ـ يجب أن نعترف أن أكثر مشاكلنا وإختلافاتنا إنما مردها إلى إزدراء بعضنا بعضا فلا يستمع الواحد منا إلى غيره إلا قليلا بقدر ما يشحذ أسلحة الرد النارية ثم يقاطعه وينهال عليه ولذلك قلّت حواراتنا وساءت. ومن يثبت في مكانه صامدا لا يغادره في حلقة نقاش ـ تحولت إلى حلبة صراع ـ يعتبر بطلا حقا. ولو إستمع بعضنا إلى بعض دون أحكام مسبقة في تجرد وإخلاص لقدرت ـ أي ضاقت ـ مساحات بيننا ومسافات.
3 ـ لذلك نزل إلينا كلامه سبحانه بلسان عربي مبين ميسّر يتلى في الصلاة الجهرية وهو مدون في كتب ومصاحف ومحفوظ بإرادة إلهية عظمى لا يشغب عليه شاغب ولا يأتي أحد بمثله. كل ذلك لنستمع إليه وننصت ولقد أثبتت التجربة قديما وحديثا ـ وستثبت ذلك كذلك حتى يوم القيامة ـ أن من إستمع وأنصت بتواضع متجردا من أحكامه المسبقة حرا في قبول هذا الكلام أو رفضه .. من فعل ذلك هدي بحوله ومن تكبر أو إستعلى فلم يستمع بفؤاده أو إستمع هازئا أو لم يكن حرا حرية تامة ليقول ما يريد هو في هذا الكلام ـ لا أن يدع الناس يفكرون له نيابة عنه ـ فقد شيّد بينه وبين سعادته جدارا سميكا.
——————–
الهادي بريك ـ مدنين ـ تونس