يعيش المسلمون اليوم تدهورا في جل مجالات الحياة من أهم أسبابه تدهور العلاقة بالقرآن الكريم الذي مثل مرجعيتهم الأساسية منذ نزوله. فرغم الاهتمام بتلاوته وترتيله وسماعه وحفظه، لا تزال روح القرآن غائبة على مستوى السلوك الفردي والجماعي وعلى صعيد الأمة الحضاري، رغم أنه كان في القرون الأولى للإسلام مؤثرا في سلوك المسلمين ومحركا أساسيا للحضارة الإسلامية…
فكيف نحول فهمنا للقرآن اليوم إلى هداية على مستوى الفرد وإلى نهوض حضاري؟
القرآن الكريم هو أساسا كتاب هداية : “إن هذا القرآن يهدى للتي هى أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا”.(1)
إن توجيه قراءة القرآن نحو هذه الهداية لا بد أن يتم من خلال المستويات التالية: الهدف من هذه القراءة، ومنهجيتها وعلاقتها بمحيط الإنسان التالي لكتاب الله.
فعلى مستوى الهدف والغاية، لا بد إن يكون الهدف الاساسي من التلاوة هو تحقيق الهداية الشاملة المؤدية إلى الفلاح في الدنيا والآخرة، فإذا اعتبر المسلم القرآن أساسا كتاب بركة أو لربح الحسنات، حول الهدف الأساسي لكتاب الله وحجب نفسه وقلبه عن المعاني الأساسية للقرآن والمقاصد التي أنزل من أجلها ولم يحقق من تلاوته إلا البركة والحسنات التي تلاه من أجلها. لذلك فإنه من الضروري استحضار نية البحث عن الهداية في كل تلاوة وتدبر للكتاب الحكيم.
أما على مستوى المنهجية فلا بد أن يكون منهج التلاوة على سبيل التلقي أي أن ينزل المسلم على قلبه آيات القرآن كأنها تنزل عليه أول مرة ” إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد”(2)
“وتلقي القرآن بمعنى استقبال القلب للوحي، على سبيل الذِّكْرِ؛ إنما يكون بحيث يتعامل معه العبد بصورة شهودية، أي كأنما هو يشهد تنـزله الآن غضا طريا! فيتدبره آيةً، آيةً، باعتبار أنها تنـزلت عليه لتخاطبه هو في نفسه ووجدانه، فتبعث قلبه حيا في عصره وزمانه! “(3)
ومن ثمرات هذه التلاوة إبصار حقائق الآيات القرآنية وتنزيلها على علل النفس فيقع تطهير القلب من أمراضه وعلله وأدناسه وهو ما ينعكس على الجوارح فيحدث التخلق بالقرآن وهي أعلى درجات الهداية.
و حتى تكون هذه الهداية شاملة ، لا بد أن تكون قراءة القرآن مرتبطة ومقترنة بقراءة كتاب الله المنشور وهو الكون بمختلف ابعاده و مكوناته، إذ أن هذا الكون وفق الرؤية القرآنية هو مجال تطبيق الهداية البشرية ومحور الاستخلاف والتعمير الذي يهدف إليه الهدى القرآني .
“وهذه القراءة تكون ابتداءً من الإنسان، فهو الذي لابد له من قراءتهما معاً لتوجد لديه المعرفة العمرانيَّة الكاملة التي تمكن الإنسان من الوفاء بالعهد والقيام بمهام الاستخلاف، وأداء حق الأمانة، والقيام بمقتضيات العمران. والنجاح في اختبار البلاء. وهي معرفة لا تقوم على التلقي والتلقين وحدهما، بل على الأخذ عن الغير أيضاً من سابقين ولاحقين بالمراجعة والمطالعة وقراءة الكتب وكتابتها وتناقل الخبرات والمعارف بين البشر وعدم الزهد في المعرفة من أي وعاء خرجت، والتعامل المنهجي معها.”(4)
فكل قراءة للوحي منفصلة عن العلوم الكونية ستؤدي إلى الانفصام بين الدنيا والآخرة وبالتالي إلى تعطيل مهمة الإنسان في الكون ألا وهي الاستخلاف فتكون الهداية المحصلة منغلقة عن الذات، أنانية ، مخالفة للهداية القرآنية المنفتحة التي تعطي ثمارها الطيبة للإنسانية جمعاء .
“أما إهمال القراءة الثانية في الكون والطبيعة المسخرة أي إهمال قراءة الوجود والكون والاقتصار على قراءة الوحي وحده منقطعا منبتا عن الوجود، فإنه يؤدي إلى نفور من الدنيا، واستقذار لها ولما فيها، يشل طاقات الإنسان العمرانية والحضارية، ويعطله عن أداء مهام الخلافة والأمانة والعمران، ويحول بينه وبين التمتع بنعمة التسخير، ويعطل فكره وينتقص من قيمة فعله، بل قد يلغي فلا يرى الإنسان نفسه فاعلا في شيء ولا يرى لوجوده في الحياة معنى، وكل هذه الأفكار منافية تماما لمنهج القرآن العظيم”(5) .
يقوم القرآن الكريم إذا تلوناه حق تلاوته بإعادة تشكيل وعي الإنسان وتحويله من مجرد كائن يعيش على هامش الكون إلى الخليفة المسؤول عن هذا الكون ، إذن فبتحقيق الهداية الفردية، نكون بنينا الإنسان الصالح المهتدي بآيات الله المسطورة والمنظورة والمسؤول على الكون وهو الإنسان الذي يستحق لقب ومهمة الاستخلاف في الكون . هذا الإنسان يمثل اللبنة الأولى من لبنات الحضارة. إذ أن الحضارة تتكون حسب المفكر مالك بن نبي من ثلاث مكونات أساسية : الإنسان ، التراب والوقت وإذا اردنا أن نبني حضارة فإننا نحتاج “أن نصنع رجالا في التاريخ مستخدمين التراب والوقت في بناء أهدافه”(6)
فالحضارة إذن هي نتاج تفاعل الإنسان مع الكون ومع الزمن ، والقرآن في جل آياته يتحدث عن هذا التفاعل: عن كيفيته ، ومنهجه ، مؤسسا لرؤية كونية قائمة على الوسطية والتوازن بين الحرية والمسؤولية بين الخصوصية الفردية و الروح الجماعية ، بين الروحانية والمادية. هذه الرؤية إذا تدبرها وعمل بها المسلمون فسوف تكون نتيجتها حضارة عالمية تتجاوز محدودية وقصور رؤية الحضارة الغربية المعاصرة والتي تؤدي إلى كوارث على مستوى الفرد والمجتمع والبيئة على الرغم من التطور العلمي والرفاهية الذي وفرته للإنسان.
تقوم الحضارة بالإضافة إلى الرؤية على مجموعة من الدوافع والأسس.
على مستوى الدوافع يمثل وجود التحدي دافعا أساسية لقيام الحضارات، إذ يعتبر عالم الاجتماع أرنولد توينبي : أن قيام الحضارات تقوم وتصعد استجابة لتحديات محددة سواء كانت هذه التحديات مادية او اجتماعية…
ولكي يكون التحدي محفزا إلى نهوض حضاري يجب أن يكون هذا التحدي معتدلا، أي أن لا يكون شديد الصعوبة ولا شديد السهولة، فإذا كان شديد العسر أدى إلى الإحباط وإذا كان شديد السهولة أدى إلى التراخي والجمود. التحديات في القرآن كثيرة : أهمها على المستوى الفردي الحصول على رضا الله ودخول الجنة وعلى السبيل الجماعي الاستخلاف في الكون وتحقيق الأمة الشهيدة على الإنسانية… على المستوى الفردي وضع القرآن حدودا حتى يكون التحدي مناسبا وحافزا للفعل عبر الوعد والوعيد كما يبين ذلك المفكر الجزائري مالك إبن نبي :
” والواقع أنَّ القرآن قد وضع الضمير المسلم بين حدَّين هما: الوعد والوعيد، ومعنى ذلك أنَّه قد وضعه في أنسب الظروف الَّتي يتسنَّى له فيها أن يجيب على تحدٍّ روحيٍّ في أساسه . فالوعيد هو الحد الأدنى الذي لا يوجد دونه جهد مؤثر، والوعد هو الحد الأعلى الذي يصبح الجهد من ورائه مستحيلاً، وذلك حين تطغى قساوة التحدي على القوة الروحية التي منحها الإنسان.
وبذلك نجد أن الضمير المسلم قد وضع بين حدي العمل المؤثر، وهما الحدان اللذان ينطبقاًن على مفهوم الآيتين الكريمتين:
(أ) {فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ} [الأعراف: 7/ 99].
(ب) {إنه لا ييئس إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: 12/ 87].”(7)
أما على مستوى التحدي الجماعي فإن القرآن يبين لنا من خلال تجارب الانبياء أن الفساد مهما بلغ مداه فإن الإصلاح يبقى ممكنا ويدعو الإنسان إلى أن يسعى إليه إلى آخر رمق في حياته : “إن قامت الساعة وبيد أحدكم فسيلة فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسها فليفعل”(8) ويبين لنا في المقابل أن الإصلاح مهما بلغ مداه فإن الفساد يتربص بنا إذا وقع التراخي والخمول .
من ناحية أخرى وعلى مستوى الأسس الحضارية يبين القرآن السنن التي وضعها الله في هذا الكون وهي قوانين مطردة تحكم نظام الكون أخبرنا بها الله في كتابه لترشدنا حول منهجية الاستخلاف العامة ، وتركنا أحرارا في اختيار الوسائل والطرق. من هذه السنن قانون التغيير “لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم”(9) وقانون التدافع : ” ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين”(10) وقانون التداول : ” وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء والله لا يحب الظالمين“(11)
إن البحث عن هذه السنن في كتاب الله المخلوق والمنشور ضرورة قرآنية ودافع لتحقيق النهوض الحضاري، فهي تبين قوانين التغيير والتطور وعوامل صناعة الحضارات وأفولها: “فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلا”(12).
يقول الإمام محمد عبده في تفسير هذه الآية: “ونظام المجتمعات البشرية وما يحدث فيها هو نظام واحد لا يتغير ولا يتبدل، وعلى من يطلب السعادة في المجتمع ان ينظر في اصول هذا النظام حتى يرد اليه اعماله، فإن غفل عن ذلك غافل، فلا ينتظر الا الشقاء، وان ارتفع في الصالحين نسبه او اتصل بالمقربين سببه”.(13)
إن المسلمين مطالبون حتى يخرجوا من واقعهم الرديء ، بتلاوة القرآن حق تلاوته وهو ما سيمكنهم من تحقيق ما أراده الله من خلقهم، وهو التوحيد والتزكية وعمران الكون ، وسينتج عن ذلك مباشرة بناؤهم لحضارة عالمية ذات رؤية كونية متوازنة ومتكاملة ، تنسي الإنسان ما ذاقه من ويلات المادية المفرطة والرأسمالية المتوحشة.
شمس عروة
———————
المراجع:
1- سورة الاسراء الآية 9
2- سورة ق الآية 37
3- فريد الأنصاري : مجالس القرآن، دار السلام، الطبعة الأولى 2009, صفحة 66
4- طه جابر العلوني : الجمع بين القراءتين، مكتبة الشروق، القاهرة 2006 الطبعة الأولى، صفحة 20 و21
5- طه جابر العلوني : الجمع بين القراءتين، مكتبة الشروق، القاهرة 2006 الطبعة الأولى، صفحة 25 و26
6- مالك بن نبي: شروط النهضة، دار الفكر دمشق، الطبعة الرابعة، 1987، ص82
7- مالك بن نبي: ميلاد مجتمع، دار الفكر دمشق، الطبعة الثامنة، 2010 ، صفحة 24 و25
8- رواه أحمد (12512)
9- سورة الرعد الآية 11
10-سورة البقرة الآية 251
11-سورة آل عمران الآية 140
12-سورة فاطر الآية 43
13- الاعمال الكاملة للإمام محمد عبده ، دار الشروق القاهرة ، الطبعة الاولى، 1993 جزء 3 صفحة 303