hedi

أدرك جيدا ـ بمثل ما يدرك غيري وأكثر منه ـ أن العنوان السلفي عنوان مضلل بحسبانه حمالا لمدلولات تظل تتشعب حتى يصل بعضها إلى نقض بعض.

العنوان السلفي فكريا وسياسيا هو عنوان صنعته محنة الفتنة الكبرى ـ وهي إسم على مسمى بحق وعدل ـالتي أطاحت بالخلافة الراشدة بل أطاحت بجزء غير يسير من إرث النبوة.

تشترك السلفية ـ على غير معهود الجامدين من كل طائفة وتوجه ـ مع الشيعة في أمر مهم مؤداه أن كلاهما سرعان ما تحول من توجه فكري بسبب خلاف فقهي أو من توجه سياسي بسبب تقدير إجتهادي إلى ” تشيع تلون فيه المذهب باللون الطائفي ثم تلونت فيه الطائفة باللون السياسي ” والأمر نفسه في الحالة السلفية التي تحولت إلى “سلفية طائفية”.

مؤدى ذلك أن المشكلة ـمع التشيع المذهبي ومع السلفية الفكرية  ليست في الإختلاف الأصولي المذهبي الفكري السياسي إذ أن ذلك ضربة لازب لا بد للبشرية منها قدرا من عنده سبحانه مقدورا إبتغاء إمضاء قانون الإبتلاء
ومن ثم الحركة. إنما المشكلة مع ذينك المكونين ومع أي مكون ينحو النحو الطائفي ذاتهـ هي مشكلة متعلقة بوجود الأمة التي تتهددها الإنقسامات المدمرة بسبب ذلك فإن لم يكن الأمر مشكلة وجود فهو مشكلة تجدد تعضل الأمة أن تلبي حاجاتها وتنتقي خياراتها وتصرف ضروراتها وذلك بحسبان الأمة قيومة على البشرية جمعاء قاطبة إذ لا يتصور إنصلاح البشرية دون قيام الأمة الإسلامية.
العنوان السلفي ـ غابره وحاضره سواء بسواء ـ كان دوما عنوان الإنقسام ولا أظن أن عاقلا أريبا يجحد خطر الإنقسام على الأمة. لو كان العنوان السلفي ـ من يوم صفين والنهراوين وما جاء من بعدهما ـ عنوان إختلاف عقدي أصولي فقهي فكري سياسي يدين بالولاء والطاعة للسقف الفكري العقدي السياسي العام الواحد للأمة لما كان في قفص الإتهام يوما إذ أن ذلك هو المطلوب الذي لا مناص لنا من توفيره لو تخلف. أولو الألباب يميزون بين الأمرين تمييزا صحيحا ودقيقا.
كما أدرك جيدا ـ كما يدرك غيري وأكثر منه  أن السلفية صنيعة هذا الثلاثي : التدين  وليس الدين والتاريخ والواقع. أما التدين ففيه فسحة الإختلاف والتنوع والتعدد ولا حرج في ذلك ولا تثريب ولو كان ذلك مقدحا لأصاب الجيل القرآني الأول الفريد في مقتل ولكن ذلك لم يزدهم  إلا توهجا وتوقدا وحسن تدين وعمارة.
وأما التاريخ فلا يجدر بنا سوى حسن فهمه بل لا يجدر بنا من قبل ذلك سوى حسن إعادة كتابته إذ فيه الذي فيه من الكتابة الرسمية التي عمل على فرضها الأمويون والعباسيون وغيرهم وأصابوا من ذلك الذي أصابوا ولست من أنصار هذه القالة المخدرة : تاريخنا المفترى عليه.

في تاريخنا مواضع إفتراء بمثل ما فيه من مواضع الصحة بل إن مواضع الإفتراء لم تكن دوما من ” الآخر” بل إن بعض الإفتراء منا نحن. تاريخ الفتنة الكبرى في حاجة متأكدة وماسة إلى إعادة نخل وتوثيق.
الذي يهمنا هنا هو أن التاريخ صنع السلفية صنعا بمثل ما صنع التشيع صنعا وكم في حياتنا الحاضرة من عواصف هوجاء تهددت وجودنا وإنما تنفخ فيها أكاذيب التاريخ التي عادة ما نتلقفها دون نخل ولا غربلة. وأما الواقع الذي ساهم هو بدوره من بعد التدين والتاريخ في صنع السلفية أو الطائفية السلفية بالتعبير الأدق  فليس هو سوى أيامنا العجاف هذه التي نحياها أي بدء من سقوط الخلافة العثمانية حتى المنقلب التاريخي الذي نحن فيه اليوم مرورا بما نعلم من منقلبات تاريخية خطيرة جدا.
ذلك يعني أن معالجة العنوان السلفي لا تكون مجدية صحيحة إلا بمعالجة المركب الثلاثي الذي صنعها أي التدين والتاريخ والواقع. مما زاد الطين بلة اليوم أن الأطباء الذين يعالجون هذه القضية وغيرها ليسوا هم سوى الإعلاميين والمحللين والمحبوسين في المربع السياسي بصفة عامة ولا أظن أن المعالجة السياسية تفضي إلى نتيجة بل إن المعالجة السياسية مهما حوت من الحكمة فإنها تبث قطرات من الزيت على النار المشتعلة.

ألا ترى أن معالجاتنا اليوم أكثرها سياسية أو أمنية في هذه القضية وفي غيرها وهو إتجاه سياسي خطير جدا وأي خطر أشد دهامة علينا من إستبعاد المعالجات الفكرية سواء أوغلت في الأبعاد الفلسفية البعيدة والعميقة أو ترفقت بنا تحليلا للتاريخ والواقع ومناهج التدين ونخل الأسباب والسنن بمثل ما يفعل الأطباء بالتمام والكمال.
تلك مقدمة مركزة مختصرة بين يدي هذا الموضوع. هذا الموضوع يؤرقني أكثر من اللزوم. سبب الأرق هو أنه عندما يرتب المرء ما يحيط بالثورة العربية الحاضرة من أصدقاء وخصوم وأعداء في عالم الأسباب والسنن وإمتداداتهما لا يلفى سوى أن العنوان السلفي تحديدا السلفي الجهادي يسير في الإتجاه المعاكس للثورة. هناك من يسير معه في ذاك الإتجاه المعاكس ذاته ولكن ناكية النواكي هي أنه عندما يلطم المرء نفسه بيده فيدمي نفسه
بنفسه يكون الجرح مضاعفا أي جرحا ماديا نازفا وجرحا قيميا معنويا أشد نزفا وإدماء.

العنوان السلفي بكل إتجاهاته العلمية والجهادية وغير ذلك ـ هو جزء منا وبضع منا وليس نحن هم الذين إختاروا ذلك ولكن التاريخ والدين والواقع هم الذين إختاروا ذلك. عندما تكون المعركة مع الغرب الفلسفي الفكري المادي
بمدرستيه الجدلية المندثرة والرأسمالية المتعولمة يكون لتلك المعركة طعم الحياة الشهي اللذيذ سواء إنتصرنا أو إنهزمنا إذ الإنتصارات والإنهزامات نسبية حتى في عالم القيم الذي يحكم عالم المادة فما بالك في عالم
المادة الفاني. أما عندما تكون المعركة مع أنفسنا  أي مع العنوان السلفي بأي إتجاه من إتجاهاته فإنه لا مناص لنا من الهزيمة إذ لا يزعم منتصر داخل الأمة لنفسه النصر كلما كانت المعركة داخلية.
المعركة الداخلية عنوانها الهزيمة حتما. ذلك ظني الذي لي عليه من العقيدة ألف دليل ودليل.
هذا الموضوع يؤرقني وينغص علي حياتي بأتم معنى الكلمة لتلك الأسباب ولا يعزيني في ذلك أن السلفية اليوم ومضة من ومضات التاريخ أو لطمة شيطانية عابرة وسرعان ما تطويها الأيام وتضعها بين قوسين كما وضعت سلفها الخارجي أيام الإمام علي عليه الرضوان. ذلك عزاء دون ريب ولكنه لا يعزيني. أظن أن الغلواء السلفي اليوم بلغ أوجه الذي لم يبلغه في التاريخ الغابر. كيف والروايات الصحيحة صوتا وصورة تترى إلينا اليوم من سوريا
وليبيا وغيرهما بل في تونس في جبل الشعانبي حاملة أبشع عنوان عرفته الأمة بل البشرية دون أدنى مبالغة ومفاده سلفيان من هذا التيار يقيدان سلفيا من ذاك التيار ويذبحانه بالمدية بمثل ما يذبح الواحد منا أضحيته في يوم العيد وبأريحية نفسية وإستعداد لتوثيق الأمر بالصوت والصورة وإرساله عبر الأثير ليصل في لحظات فحسب شرق الأرض وغربها في الآن نفسه.

الأرق الذي يستبد بي في هذه الأيام العجاف وهو عجف ما زادته الثورة إلا نكاية  هو أن ذلك المشهد الذي تأباه العجماوات وتفر منه البكماوات لفرط وحشيته أضحى مألوفا في الشبكة العنكبوتية والفايس بوك. يطلع عليه هذا
وذاك أي ملايين مملينة من شتى الأديان والنحل والطوائف والملل والمذاهب والألوان. مشهد أضحى فينا أليفا معتادا  نشيعه بالحوقلة ثم تجري الحياة في أعنتها لا تلوي على شيء. عندما يضحى فينا ذاك المشهد مألوفا لمدة زمنية محددة فإن الأثر النفسي فينا لن يكون إلا شد الرحال إلى الغاب حيث ينقض السبع الكاسر على فريسته فيمزقها إربا إربا. لا أجد خطرا تربويا علينا اليوم أشد من ذاك.
قبلنا بالإقتتال السلفي السلفي بمثل حالة سوريا وليبيا وقبلنا بالقتل بالنار أي رميا بالرصاص وقبلنا بأن يكون هذا خصما وحكما ومنفذا في الآن نفسه وقبلنا بالتكفير بالتفصيل وبالجملة وقبلنا بالتفجير بالتفصيل وبالجملة ولكن أنى لنا أن نقبل بمثل ذلك المشهد :مشهد الذبح بمدية من حديد لآدمي مسلم مؤمن من لدن مسلم آدمي مؤمن والسبب إختلاف فرعي في الحياة أو في الدين. مشهد موثق من لدن أصحابه بالصوت والصورة.
مشهد مبثوث يبغي التبرج وليس الستر. هل هناك سحيق أشق من ذلك ننظره حتى نهون على أنفسنا أننا لم نصل بعد إلى ذلك السحيق الدارك. لا أظن. لا قطعا.

الذي أظنه بل أعتقده أن تلك لحظة أشرفت عليها البشرية سيما الأمة الإسلامية فإن لم تتب منها توبة جماعية وليس الأمر بمحرك سلفي فحسب  فإن ساعة الأمة أزفت ومن خلفها ساعة البشرية. لا تقل لي ثورة.
لا. وألف ألف لا. لا تقل لي ثورة. إذا كانت تلك هي الثورة فأشهدوا جميعا بأني أول الكافرين بالثورة وأشدهم بها كفرا. هل ثار الثوار ـ إذا كانوا قد ثاروا حقا ليذبح بعضنا بعضا بمدية من حديد.
دعنا الآن من الأرق فلعله لا سبيل له عليك. دعنا من الأرق وتعال إلى لب الموضوع.

لب الموضوع هو أن العنوان السلفي اليوم بكل مكوناته كما سيتبين من بعد ذلك هو أكبر عنوان يجرم الأمة أنها ثارت ضد المستبدين والمستكبرين فيها. لا يسير العنوان السلفي في ذلك الإتجاه المعاكس للإسلام نفسه بله الجبلة والفطرة والسنن الغلابة ومنها سنة الحرية .. لا يسير وحده بل معه رفقاء. هل نحن في زمن هذه القالة : اللهم عليك بأصدقائي أما أعدائي فسأتكفل بهم. دعك من بناية القالة وركز إهتمامك على إتجاهها وفيه
الذي فيه من الموضوعية. عندما يكون العنوان السلفي اليوم في الإتجاه المضاد للثورة فلا معنى لذلك سوى أن الثورة يأكل بعضها بعضا. عقيدتي في الحياة تقول لي بأن البيت الذي يتهاوى لا يميز بين ساكن وآخر. هل رأيتم سقفا خر فأصاب هؤلاء وأشفق على أولئك. هل رأيتم نارا مستعرة أكلت بعض الحطب وإدخرت بعضه الآخر. معنى ذلك هو أن معالجة القضية إنما يكون بعينين : عين على الداخل أي معالجة جامعة وقاعدتها المعالجة الفكرية ومنطلقها الإرث الديني والتاريخي والواقعي. وعين على ما نسميه نحن اليوم الشاهد الدولي.

الشاهد الدولي اليوم ليس شاهدا محايدا بل هو عدو متربص أو خصم فجور وفي كل الأحوال سبع يتربص بثروات الأمة لينقض عليها إنقضاضا بمثل ما فعل بوش الأبن ـ سفاح العصر بإمتياز شديد ـ مع الثروة النفطية العراقية. أما
العين الأولى فهي تشتغل فينا ولكنها لا تعالج القضية فكريا أي أنها تعتمد ترقيعات سياسية وأمنية وإجتماعية وهي ترقيعات تؤجل السقوط ولا تمنعه. وأما العين الأخرى فنحن عنها غافلون أي أكثرنا غافل عن ذلك. لا أكتم أحدا أن تفكيري في المسألة أوحى إلي بهذا : إذا كانت العناوين التي تعمل على توهين الثورة كثيرة ومنها ذاتي ومنها خارجي فإن العنوان السلفي اليوم هو أشدها فتكا بنا وما ذلك سوى لأنه يجمع بين أمرين خطيرين جدا : الأمر الأول هو أنه من داخل البيت ولا تستوي ضربة من داخل البيت مع ضربة من خارج البيت. والأمر الثاني هو أنه يستخدم القوة المادية التي تنشر الخوف وتبث الهلع وتنشئ اليأس والقنوط سيما عندما ننحدر إلى ذلك المشهد الأشد إيلاما أي مشهد الذبح في إحتفاء وأبهة وتبرج. هناك أمر ثالث ذكرته الآن ـ هو أيضا مهم جدا ـ وهو أن العنوان السلفي لا يفضي بعمله ذاك إلا إلى نتيجة واحدة عنوانها حتمية التدخل الأجنبي وليس عسكريا إذ التدخل العسكري أضحى اليوم تقليديا ولكنه التدخل السياسي والإقتصادي أي الإفضاء إلى الإحتلال المعاصر أي الإحتلال الإقتصادي غير المباشر وهو أشد ألف مرة ومرة من الإحتلال العسكري المباشر.

هناك نتيجة أخرى كانت محتملة ولكنها اليوم إختفت لصالح الإحتلال وهي نتيجة الإنقسام الوطني الداخلي ولكن الإحتلال الذي يحركه الشاهد الدولي المتوثب كفيل بالأمرين معا وفي ضربة واحدة : الإنقسام الداخلي المدمر من جهة ونهب الثروات وسلب المقدرات وتأخير النهضة وإجهاض الثورة وإعادة الإستبداد من جهة أخرى.
العنوان السلفي اليوم يعمل في تلك الكتيبة وأغلبه لا يشعر بأنه يعمل جنديا حازما مطيعا في تلك الكتيبة. الذي يحجزه عن ذلك هو تركيبه الفكري الموزع بين الجزئية بدل الجماع وبين الموضعية بدل الموضوعية وبين النصية بدل المقاصدية وبين الآنية بدل الإستراتيجية وبين العاجلة بدل الآجلة وبين الدينية بدل الإسلامية وبين مظاهر أخرى من مظاهر ضمور الوعي الإسلامي المطلوب دينا ودنيا.

بعضنا يتعاطف مع ذلك تعاطف السذج بإسم الإخلاص ولكن الذي توحي به إلي عقيدتي هي أن الإخلاص الذي يورث صاحبه ذبح آدمي بمدية من حديد ـ كائنا من كان المذبوح وكائنا ما كانت الجريمة ـ لا وجود له في ذلك الفؤاد. الإخلاص ليست سلعة رخيصة عنده سبحانه حتى يمن بها على مثل أولئك الذين تفر منهم السباع المفترسة والوحوش الكاسرة. عقيدتي تقول لي بأن من حرم الحكمة لا دين له كائنا ما كانت مظاهر تقواه. هل جمع الإسلام بين الكتاب وبين الميزان أم فرق بينهما وهل جمع بين الحق وبين الحكمة أم فرق بينهما وهل جمع بين الدين والدنيا أم فرق بينهما. عجب عجاب ورب الكعبة. ليس هناك ـ على خلاف ما نهرف بما لا نعلم ـ ورع مجرد عن الحكمة في الإسلام وليس هناك تقوى لا تثمر الحكمة والميزان إعتدالا ووسطية فإن وجدت فهي مظاهر مزيفة لا شأن لها بالتقوى. ليس هناك جهاد إلا من أهله وفي محله وليس هناك إجتهاد إلا من أهله وفي محله وليس هناك جهاد مفروق عن الإجتهاد فإن وجد شيء من ذلك فهو الكذب وهو الهراء.

دعك من أقوال الألسنة وكلمات الأقلام ومظاهر التدين. تلك أعراض وصور والإسلام علمنا أن الله لا ينظر إلى صورنا ولا إلى أجسامنا ولكن ينظر إلى قلوبنا.
تلك جريمة السلفية الجهادية فما بال السلفيات الأخرى. السلفيات الأخرى دورها هو دور قول الحق وبيانه بل دورها هو المقاومة دون حصول مثل ذلك. أليس يصيبك الدوار الذي لا بلسم له عندما تعلم ـ وقد علمنا جميعا ـ أن حزب النور السلفي في مصر يقف إلى جانب سفاح مصر الجديد السيسي في حربه الشعواء الضارية ضد مصر وما تحمله مصر من قيم وتاريخ ومكانة عربية وإسلامية وهي تتاخم العدو الأكبر اليوم أي الكيان اللقيط المحتل للأرض والسالب للعرض. دوار وأي دوار.
أكثر السلفيات اليوم لم نسمع لها ركزا حيال الجريمة النكراء البشعة التي ترتكبها السلفية الجهادية في سوريا وليبيا وتونس ومواضع أخرى كثيرة في الأرض شرقا وغربا. هل هي مسرورة بذلك أم يعز عليها مقاومة سلفية سليلة منها.
المعول عليه هم مشايخ تلك السلفيات الذين يتحدثون إما عن حياة البرزخ بإطناب مسهب لا يقدم ولا يؤخر وفيه الذي فيه من الإسرائيليات فإن لم تكن كذلك فهي مرويات مدخولة منخولة تبعث اليأس في الناس من الحياة والقنوط من الحركة والزهد في المقاومة وإما عن تزكياتهم للغدارين من المستكبرين. إذا كانت العبرة بالغالب الأعم فلا أظن سوى أن أكثرهم كذلك والفطن الكيس فيهم قليل من قليل أو هو مكتوم الصوت تزهد فيه الفضائيات.

دعنا من ذلك كذلك وتعال بنا إلى كلمة سواء.

1 ـ السلفية عنوان من عناوين الأمة تدينا وتاريخا وواقعا وليس المطلوب شطب ذلك العنوان إذ الشطب ليس ممكنا أبدا البتة ولكن المطلوب هو حسن الفهم مقدمة لحسن المعالجة.
2 ـ السلفية سلفيات متعارضة باليقين من مثل تعارض سلفية القاعدة بزعامة المرحوم بن لادن ومن معه في ذلك أي نظرية التكفير بالجملة والتفجير بالجملة مع السلفية المدخلية التي حبرت كتبا لو سقطت على واحد منا لفعلت به ما فعلت كتب الجاحظ بالجاحظ وكلها كتب تجمع الفتاوى التي تحرم الخروج على الحاكم أي تحرم الثورة تحريما قطعيا بمثل حرمة شرب الخمر وأكل الربا. الذي أعلمه ـ وأظن أن الناس كذلك ـ أن الشيء إذا بلغ من التضاد مثل ذلك أضحى محلا للإحتمال وما داخله الإحتمال لا يصح به الإستدلال بل هو ساقط لا يعتد به. هل هناك نظرية في الأرض بلغت مثل ذلك التضاد ثم أضحت محل حرمة في الناس. التنوع ضربة لازب علينا ولكن
التضاد بمثل ذلك تحت سقف نظرية واحدة لا يعكس سوى قرفا وهرفا وهذرا.
3 ـ السلفية وجب معها التمييز فما كان سلفية تنوع وتعدد من جهة أو كان سلفية لا تشق السقف العقدي الفكري السياسي العام للأمة ـ حتى في غياب الخليفة الواحد ـ من جهة أخرى .. ما كان من ذا أو من ذاك فمرحبا
به وأهلا وسهلا وهو مكون من مكونات الأمة تدينا وتاريخا وواقعا ولكن عندما تكون السلفية ـ أو غيرها ـ مخرقة لذلك السقف السياسي العقدي الفكري العام للأمة حتى في غياب الخليفة الواحد بما لا يعود على الأمة الواحدة إلا
بالإنقسام الطائفي المدمر فإن الواجب لم يعد واجب تمييز بين سلفية وأخرى ولكن الواجب ـ وهو واجب الوقت بتعبير العلامة إبن القيم كما يرى العبد الفقير إلى ربه تعالى وحده ـ هو شن المواجهة وإعلان المقاومة ولكنها مقاومة جامعة سياسيا وفكريا وأمنيا وهنا يأتي تنفيذ قوله سبحانه :“ وإن طائفتان من المؤمنين إقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيئ إلى أمر الله فإن فاءت فاصلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا”. كيف نتهيب من ذلك التشريع الصحيح الصريح في مثل هذه الحالة ـ أي مع السلفية الجهادية القائمة على التكفير بالجملة والتفجير بالجملة ـ ولا نتهيب من مشاهد الذبح بمديات من حديد تترى إلينا صباح مساء
ليل نهار ونحن عاكفون في بيوتنا مشدوهين أمام عدسات الفضائيات.
4 ـ لنكن مختلفين عقديا ـ أي فروعيا وليس أصوليا داخل الأمة ـ ولنكن مختلفين أصوليا ولنكن مختلفين مذهبيا وفقهيا وفكريا وأدبيا وفنيا .. لنكن كل ذلك وأكثر من ذلك مادام السقف العالي يؤوينا ولم تكن الأمة من قبلنا ـ من عهده هو عليه الصلاة والسلام حتى يومنا هذا ـ إلا مثل ذلك دون نكير. لنكن مثل ذلك وأكثر منه عندما يحملنا أديم واحد. لنكن مثل ذلك وأكثر منه بذينك الشرطين : سقف وأديم ولا غضاضة علينا ولا تثريب من بعد ذلك أبدا البتة فمن أنكر علينا ذلك منا أو من غيرنا عددناه خبا. ألم يضمن لنا الإسلام مثل ذلك وأكثر منه. ألم تضمن لنا السنة والسيرة معا مثل ذلك وأكثر منه. ألم تضمن لنا الخلافة الراشدة المهدية الأولى مثل ذلك وأكثر منه. ألم يضمن لنا التاريخ مثل ذلك وأكثر منه. أليس ذلك هو المشهود تاريخا وواقعا في الأمم من حولنا شرقا وغربا. أليس ذلك هو معيار من أكبر معايير النهضة والتقدم من حولنا. لم الذبح من بعضها لبعض إذن.
5 ـ لم لا نعقد مؤتمرا عربيا أو إسلاميا عاما جامعا تدعى إليه قيادات السلفية المؤثرة من كل إتجاه سلفي لنبحث الأمر بروية وعقلانية وأدلة. لم لا نوطئ لمثل ذلك بلقاءات محلية وإقليمية وفي الحقول مثار الخلاف المدمر : الحقل العقدي والحقل الأصولي والحقل الفكري الفقهي الكفيل بالإستنباط والتحليل والفهم والتدبر والحقل المآلي التنزيل وحقول أخرى. ذلك أدعى إلى حقن الدماء المسلمة. ألم يفعل ذلك علي عليه الرضوان عندما أرسل إلى الخوارج حبر الأمة عليه الرضوان فعاد بزهاء الثلث منهم. كثير من السلفيين ـ سيما من غير الإتجاه الجهادي ـ بل ربما أكثرهم وليس كثيرا منهم فحسب .. كثير منهم أو أكثرهم إنما هم أتباع وإمعات حقنهم التعصب الطائفي المذهبي الفكري حقنا مكثفا مركزا فأذهب عنهم الفطنة والذكاء والعقلانية التي بها أناط سبحانه الفهم والفقه بل أناط به سبحانه الإيمان نفسه. لم لا نؤلف في القضية تأليفات معاصرة مؤصلة تأصيلين : تأصيلا دينيا شرعيا عقديا أصوليا فكريا وفقهيا وتأصيلا واقعيا معاصرا.

لم لا نترجم ما لا بد له من ذلك في الإتجاهين. تلك أدوات السياسة الفكرية لترشيد السلفية ولكن الأدوات كثيرة وهي كلها أدوات فنية. ألست معي في أن الفن كفيل بالأكثر بالتغيير والإصلاح أكثر من السياسة ومن القانون ومن غيرهما مما نتبع نحن اليوم ونقتفي. لو لم يكن الفن مؤثرا ناجعا فعالا لما إعتمده الكتاب العزيز قصة إحتلت منه الثلث بل أكثر من الثلث ولما إحتل منه المثل مثل ذلك بله تضاريس الكون التي تملأ ذلك الكتاب. أليس ذلك هو الفن.
ما الذي أريد قوله. أريد قول كلمة واحدة مؤداها أن السلفية ـ لا الجهادية فحسب وإن كانت هذه تحمل السفاحة في خصر الأمة ـ مسؤولة عن تعويق الثورة العربية الحاضرة. تهمني مسؤولية السلفية لأنها مني وأنا منها ولا تهمني التعويقات الصادرة عن غيرها لأنها منتظرة بسبب قانون التدافع وإن كان ذلك القانون يسري حتى بيننا وبين السلفية.
تعويق الثورة عندي تعويق للإسلام نفسه وللأمة نفسها وللنهضة نفسها ولفرائض التجديد والإجتهاد التي أمر بها الإسلام أمرا صحيحا صريحا. إنما تفعل السلفية ذلك لجهلها وليس بمضمور سيئ ولكن الدنيا مبناها الحكمة وليس مبناها الإخلاص الذي هو عماد الآخرة.

الذي أريد قوله يلخصه حديث نبوي صحيح عند الحاكم وبعض أهل السنن :“ يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله : ينفون عنه تحريف الغالين وإنتحال المبطلين وتأويل الجاهلين “. أي أن الأمة متركبة من أربع طبقات : طبقة السلفية المغشوشة المزيفة ومبناها التحريف في مثل قضية الجهاد إفراطا في إستخدامه والإجتهاد تفريطا فيه وطبقة العلمانية المنتحلة تهدم السقف من داخله وهؤلاء في إنقراض دائم وسريع والقانون فيهم هو :“ لن يضروكم إلا أذى “. والأذى محتمل ولا داعي لصرف المقاومات فيه أكثر مما يستحقه. أكثرنا اليوم يقدر أن الخطر القديم خطر المنظومة القديمة أو الدولة العميقة هو الأولى بالمقاومة وأنا على الضد من ذلك ليس تقليلا لذلك الخطر ولكن بحساب الأولوية أعتبر أن الخطر السلفي سيما الجهادي منه أولى بالمقاومة لأنه في إمتداد بينما خطر الدولة العميقة في إنكماش من جهة ومن جهة أخرى  وهذا هو المهم  لا تترك له موجات الحرية الهابة
منداحة دون إذن من أحد أي إمكانيات جدية للإنتعاش. وطبقة الجهلى الهارعون إلى التأويل بغشمة حاشرين أنوفهم فيما لا يحسنون منه شيئا. تلك طبقات ثلاث لا تترك لوحدها يحفر كل واحد منها مما يليه في سقف الأمة وأديمها بمثل ما يحفر الفأر لتخر المنسأة يوما ما. تلك طبقات ثلاث لا بد منها تصريفا لقانون التدافع ولكن الطبقة الأخرى ـ الطبقة الرابعة بل هي الطبقة الأولى ـ أي طبقة العدول لا بد منها ضرورة وجود الملح في الطعام أن
يفسد ويأسن. فينا اليوم عدول دون ريب ولكن عددهم قليل جدا من ناحية وصفهم مبعثر من جهة أخرى. خمدت أصواتهم ولزموا مهاجعهم إلا قليلا منهم.
الذي أريد قوله : أين أنتم يا عدولا أناط الله بكم ترشيد الطبقات الثلاث الأخرى. وأين أنتم يا سلفية. أليس أحرى بنا أن نتداعى إلى كلمة سواء نحفظ بها أديم الأمة وسقفها ومن بعد ذلك لكل واحد منا أن يتدين كما يشاء ويغير كما يشاء ويصلح كما يشاء. إذا كانت الكلمة السواء لازمة من لوازم الحياة بيننا وبين أهل الكتاب من يهود ونصارى والخلاف العقدي بيننا وبينهم على أشده فهي بيننا نحن وإياكم أشد إذ المقصد من الكلمة السواء هو
تشييد جسر التواصل بالكلمة وليس حفر الخندق لنواري فيه جثث الذين نذبحهم بمديات من حديد لخلاف فرعي نشب بيننا.
الذي أريد قوله هو : أيها السلفيون ـ كل منكم فيما يليه ـ أنتم مسؤولون معنا ومع غيرنا جميعا على حاضر الأمة ومستقبلها أن تفترسها الذئاب. الذئاب متربصة بنا وبكم جميعا على تخوم الحدود. إقرؤوا التاريخ لتعوا ذلك بالأجود. لم سقطت الأندلس وكيف ومن ورثها. لم سقطت بغداد وكيف ومن ورثها. لم سقطت الخلافة الراشدة المهدية على منهاج النبوة وكيف ومن ورثها. التاريخ خير مرآة وخير مدرسة.

لنختلف شر إختلاف ما لم يكن ذلك على حساب وحدة الأمة وعواصمها العظمى. لنختلف شر إختلاف ولكن بشرط ألا يفضي ذلك لا إلى تدخل خارجي متربص لنهب الثروة البترولية والذهب الأحمر ولا إلى إنقسام داخلي حاد وقاتل لأن قوتنا في وحدتنا ولا وحدة لنا إلا بالإعتصام بأمرين : الإسلام في محكماته وليس في متشابهاته والأمة في سقفها السياسي وأديمها الفكري. أي بالله وبالجماعة. أي عموديا وأفقيا. كل عمل منكم أو منا أو من غيرنا وغيركم لا يخدم إتجاه الإعتصام والوحدة هو محبط إحباطا لا ينفع منه إخلاص.
ذلك هو ندائي لكم والله وحده يعلم ما يؤرقني ورب الكعبة أرقا ربما لم أشهده طول حياتي بسبب مشاهد الذبح التي تكاد تكون مألوفة إلفنا الأكل والشرب. ذلك هو ندائي فإن أصاب منكم عقلا وفؤادا فالحوار بيننا وسيلة قرآنية قحة لإعادة تشييد المحكمات وفسح المجال للإختلاف في المتشابهات وهي الأكثر والأكثر قطعا وقطعا وإن كانت الأخرى ـ ولا أظنها ـ فالمآل هو تحكيم الشريعة التي جاءت في سورة الحجرات وآخر علاج الكي.
ندائي إليكم أن تقرؤوا التاريخ وتعيدوا قراءة التاريخ ففيه من العبر للحاضر ما لا يحصيه حاص.

والله أعلم
الهادي بريك ـ تونس

من admin

لا توجد أراء حول “نداء إلى السلفيين”
    1. لا يا سيدي ، هذا مقال يدعو لإصلاح بعض الجوانب لدى تيار عقدي وفكري (وليس سياسي) التي تشكل خطرا على المجتمع وفق ما يراه الكاتب… هذا يدخل في باب النصيحة ولا علاقة له بالتجاذبات وبتصفية الحسابات مع هذا التيار أو ذاك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *