كان لأراء ابي حنيفة السياسية المؤيدة للعلويين تأثير على علاقته بالسلطة الحاكمة ، إذ كانت تحتاط منه وتضيق عليه لما تعرف من تأثيره في الناس، وقد وصل هذا إلى حد التعذيب والسجن .
في عهد الدولة الاموية، وقع ضربه بمائة وعشرة سوطا لرفضه تولي قضاء الكوفة في عهد يزيد بن عمر. أما في عهد الدولة العباسية ، فلم تكن الأمور أفضل بكثير إذ بلغ التوتر أشده بين ابي جعفر المنصور
والإمام بسبب مساندة هذا الأخير الصريحة لمحمد النفس الذكية الذي أعلن الثورة على العباسيين . وحتى يجبره على الولاء ، عرض المنصور على الإمام منصب القضاء إلا أنه رفض . عندئذ ، وقع سجنه وضربه بالسوط ضربا شديدا رغم تقدمه في السن ، وقد توفي رحمة الله عليه بعد خروجه من السجن بأيام .
أثر المناخ الاستبدادي السائد (والذي كان وراء محنة ابي حنيفة) في فقهه، إذ كان فقها يساند حرية الإنسان وارادته الكاملة ويندد بكل أشكال الوصاية فأقر حق المرأة في تزويج نفسها و حق العاقل البالغ التام في التصرف في ممتلكاته وأمواله ، ومنع الحجر على المدين.
يقول المفكر عبد الحكيم الصادق الفيتوري :
” وفي هذه الأجواء الاستبدادية شق الإمام أبوحنيفة طريقه إلى إعادة قيمة الحرية واحترام الرأي الأخر إلى سيرتها الأولى من خلال الأصول القرآنية والتطبيقات النبوية.وانطلق الإمام يرتاد حلقات العلم وأسواق المال في بلاده،حيث جمع بين طلب العلم والتجارة.وقاده ذلك إلى اجتهادات كبيرة في التعاملات المالية،واحترام حقوق الأخرين،فكان لا يرى قتل المخالف وإن كان مرتدا عن الدين،وأفتى بحق تولى المرأة كل الوظائف القضائية والسياسية بلا استثناء، ومساواة المرأة مع الرجل في عقد النكاح وغيره،كذلك رفع من قيمة العقل والتفكير وأبداء الرأي واحترام الأخر.حتى أنه كان يكثر ترديد شعاره المفضل(اللهم من ضاق بنا صدره،فإن قلوبنا قد اتسعت له).” (1)
كما يقول الإمام أبو زهرة :
“كان أبو حنيفة رجلا حرا يقدر الحرية في غيره كما يريدها لنفسه لذلك كان في فقهه حريصا كل الحرص على أن يحترم إرادة الإنسان في تصرفاته ما دام عاقلا، فهو لا يسمح لأحد أن يتدخل في تصرفات العاقل
( الخاصة به ولا لولي الأمر الذي يمثلها أن يتدخل في شؤون الأحاد الخاصة …” (2).
كما كان الإمام أبو حنيفة شديد الإنكار للظلم في آرائه وفي فقهه إذ أقام جملة من الحيل الفقهية حتى لا يؤدي تطبيق الأحكام الفقهية إلى المظالم ، كما كان أشد نقدا لتطبيق الأحكام التي تؤدي إلى مظالم من الفتاوي التي يراها خاطئة ” إذ يكون تألمه من الظلم مذكيا لحرارة اللوم ” (3)
أما تأثيرهذه المحنة على المذهب الحنفي عامة ، فقد أدى القمع الذي تعرضه له مؤسس المذهب إلى تجنب الخوض في المسائل السياسية من قريب أو من بعيد وإشتغال فقهاء المذهب بالفروع وفروع الفروع . فاصبح تراث المذهب غنيا في ما يخص العبادات والمعاملات والأحكام الشخصية إلا أنه بقي ضحلا في مجال السياسة الشرعية و تنظيم علاقة الحاكم بالمحكوم .
المراجع :
1- عبد الحكيم الصادق الفيتوري : أبو حنيفة ضحية الفكر التأثيمي
2- أبو زهرة : أبو حنيفة : حياته وعصره
3- أبو زهرة : أبو حنيفة : حياته وعصره
شمس عروة