يكثِر الناسُ الحديثَ عن الأخلاق وضرورتها، وإذا وصف إنسان بأنَّه ذو خلق فإنَّه ينتشي ويشعر بالفخر أنَّه وصف بذلك. وقد سُئلت أم المؤمنين عائشة –رضي الله عنها- عن خلق الإنسان الكامل الرسول النبي –صلى الله عليه وآله وسلم- فقالت: “كان خلقه القرآن” وهذه الكلمة على وجازتها الشديدة جمعت فأوعت، فالقرآن الكريم ما ترك خُلقًا من أخلاق أهل الإيمان وأصحاب الفضل والإحسان إلا بيَّنه، وامتدحه، وحض الناس على التحلي به، وتجد ذلك شائعًا في سورٍ كثيرة، قال تعالى:﴿وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا﴾ (الفرقان:72)، ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا﴾ (الفرقان:63).
والأخلاق تجعل الإنسان متوازنًا مع نفسه، عادلًا مع أسرته، حكيمًا في مجتمعه، مفيدًا في محيطه، إذا مشى على الأرض أحبته وأحبها، فهو يمشي عليها هونًا، وإذا مرّ بالجبال حَنَتْ عليه ومالت إليه، إنَّه لا يطاولها ولا يطمع في منازلتها، فهو لا يمشي على الأرض كأنَّه يريد خرقها، فهو يعلم أنَّ الله قد قال له: ﴿وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً﴾(الإسراء:37)، فلك حجمك ومقاييسك التي تختلف عن أحجام ومقاييس الآخرين من خلق الله -جل شأنه.
وإذا كانت مخلوقات الله كلّها تستكمل ذاتيَّتها بأمور من جنسها، فإنَّ ذاتيَّة الإنسان تستكمل بالأخلاق الحسنة التي تجعل الإنسان إذا حَكم بين الناس أن يحكم بالعدل، وإذا أؤتمن على شيء أدى الأمانات إلى أهلها، لا يكذب ولا يحقد ولا يحسد ولا يبغي ولا يريد علوًا في الأرض ولا فسادًا، فالأخلاق الحسنة تنافي ذلك كله، وتمنع صاحبها من السقوط فيه؛ لذلك استحق الرسول العظيم –صلى الله عليه وآله وسلم- الذي كان خلقه القرآن أن يصفه الله -جل شأنه- بأنَّه على خلق عظيم ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾(القلم:4)؟ فقد كان -عليه الصلام والسلام- يتحرَّى الأخلاق التي أُمر الله بها، وحض القرآن عليها ويصبر على تلك الأخلاق، والصبر على مداومة الخلق الحسن قد يكون أشقّ من حالة الاتصاف بهِ ابتداءً.
والأخلاق لكي تنمو في مجتمع وتسود فيه وتصبح ثقافة وأعرافًا لمجتمع من المجتمعات تحتاج بعد تحديد ماهيَّتها وبيان حقائقها إلى جهود جبارة تبدأ من اختيار كل من الزوجين للآخر، فقد يحسن الزوج ذكرًا كان أو أنثى اختيار شريكه، فيبني أسرة تظلها الأخلاق الحسنة، وتوجه حركتها في تقلبها في الحياة مكارم الأخلاق؛ ولذلك ربما حذّر الآباء أبناءهم من أصناف من النساء وحذروا النساء من الاقتران بأزواج لا أخلاق لهم؛ لأنَّ الضرر والحالة هذه، سوف يكون ضررَ أسرة في مجتمعٍ ينعكس ذلك الضرر عليه، وقد تشيع فيه أخلاق سيئة وممارسات رديئة بمقتضى ذلك.
ومنذ القدم والأخلاق موضع نقاش حاد، واهتمام بين فصائل البشر، ولكن بقي هناك ثبات لبعض الأخلاق، وجرى تداولها بشكل لا يعطي لأحد فرصة للتدخل في حقائقها أو تغييرها، فكأنَّها ثوابت بشريَّة شاملة عامَّة، فلا أحد في البشر يمكن أن يحسِّن الكذب؛ لأنَّه سوف يوصف بأنَّه مضلل منحرف، ينفي صفات ثوابت، لا ينبغي الالتفات إليه ولا الاستماع إلى تراهته. كما أنه لا أحد يقر القتل غير المسوغ، بل القتل يعدّ جريمة لدى البشر كافَّة إلا ما استثني من قتل على سبيل القصاص، والقتلى الذين يسقطون في الحروب الذين كلما كانت الحرب عادلة كلما استحق المشاركون فيها ألقاب بطولة وفروسيَّة وترفع، لكن ممارسة القتل لأتفهِ الأسباب وأقلها شأنًا سلوك مذموم ملعون صاحبه في سائر الأديان والمذاهب والحضارات، وكذلك أمور أخرى.
وقد ابتلينا في عصرنا هذا بعمليَّة كبرى عرفت بنسبيَّة الأخلاق، والنسبيَّة تزيل صفة الثبات والإجماع البشري عن كثير من الأخلاق، وإذا زال ذلك فإنَّ الأخلاق تصبح -كما هي اليوم- أخلاقًا سائلة يتحكم فيها الناس بحسب أهوائهم وشهواتهم، فهم الذين يصنعون لأنفسهم أخلاقًا، وهم الذين يصنفون هذه الأخلاق إلى حسن وقبيح بحسب تقديراتهم، وإذا تم “تسييل” (من السيولة) الأخلاق فقد ذهبت.
وفي عصرنا هذا سادت -أيضًا- الأخلاق النسبيَّة المهنيَّة، أو أخلاق السوق، فيجري الإنسان تغييرًا في سُلَّم القيم، وحين ينجح في ذلك التغيير يعيد تحديد ما هو حسن وما هو قبيح من الأخلاق، لكن الأخلاق دائمًا تحتاج إلى مرجعيَّة ثابتة لا تتغير لتعطي للحسن منها صفاته وللسيئ صفاته، وتعين البشر على الأخذ بأحسنها، وتجنب سيّئها.
الشيخ طه جابر العلواني