أ.د.طه جابر العلواني
امتدت ردود الفعل على ما سُمِّي بـ«الفيلم المسيء» إلى رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلّم- لتعم مناطق كثيرة من المعمورة، وارتفعت نتائجها لتحصد أرواحًا، وتشعل نفوسًا بأشكال شتّى، ولي في هذا الأمر رأي؛ عسى أن يفيد..
ردود فعل الرسول على الأذى ومردودها
أود أن أبدأ أولًا بردود فعل رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- نفسه عندما كان خصومه وأعداؤه يتجرّؤون على مقامه الشريف، خاصَّة بعض غلاة اليهود والمشركين. اعتاد رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- أن يسمع اليهود يسبونه ويقولون عنه «مذمم» بدلًا من «محمد» -صلّى الله عليه وآله وسلَّم، فكان رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- يبتسم حين يبلغه ذلك ساخرًا، ويقول: “هم يسبّون مذمّمًا وأنا محمد”.. صلّى الله عليه وآله وسلَّم.
إنَّ من أهم أخلاقه –صلوات الله وسلامه عليه- أنَّه كان لا يغضب لنفسه، ولا يثأر لها، وحين حاججه سهيل بن عمرو وهو يبرم وثيقة الحديبية بينه وبين المشركين، وطلب منه أن يمحو كلمة «رسول الله» وقال: “لو شهدت أنَّك رسول الله لم أقاتلك، فاكتب اسمك واسم أبيك”، فطلب رسول الله من الإمام عليّ أن يمحو كلمة «رسول الله »، فاستثقل الإمام عليٌّ ذلك، وقال: “لا يا رسول الله لن أمحوها بيدي، تقطع يدي قبل أن أمحوها”، فقال له النبيّ الأميّ صلّى الله عليه وآله وسلَّم: “أشر لي إلى موضعها”، فأشار إلى موضع الكلمتين «رسول الله» فمحاهما رسول الله بنفسه؛ لكي يمضي في توقيع تلك المصالحة التي تحولت فيما بعد إلى فتح مبين.
ولقد هجا شعراء كثيرون من العرب رسول الله –صلّى الله عليه وسلم- وكان من بينهم ابن الزبعرى. وقد ظل ابن الزبعرى يهجو رسول الله –صلّى الله عليه وآله وسلَّم- في مواقف كثيرة، فكان يحاول أن يلتقط كلمات من القرآن ويخرجها عن سياقها ليضعها في سياق ناقد، مناقضٍ لمراد القرآن ورسول الله صلّى الله عليه وآله وسلَّم، ولكنَّه، وبعد أن أمضى عمرًا في معاداته للرسول -عليه الصلاة والسلام- لم يجد في النهاية إلا أن يؤمن به وبرسالته، بعد أن خَبِر خلقه العظيم ونفسه العالية، وصدق دعوته والنور الذي جاء الناس به، وقال بعد ذلك كثيرًا من الشعر الإيماني يكفِّر به عما كان قد قاله في جاهليَّته.
إنَّ الغضب لرسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- اليوم هو تعبير عن اعتداد مسلمي اليوم بعزّتهم وكرامتهم، ورفضهم أن يساء إلى معتقداتهم، وهو أمر مهم جدًا، ولا بد منه، وحرمة رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- بعد وفاته أوكد وأهم من حرمته في حياته؛ ولذلك فإنَّه ما من مسلم يؤمن بالله ورسوله يستطيع أن يتهاون في جريمة سبّ رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- أو الإساءة إليه، لكنَّ الله –سبحانه وتعالى- بيَّن لنا أفضل الطرق التي نعبر بها عن حبنا لرسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- وعن حبنا لله –تبارك وتعالى- فقال جلَّ شأنه: ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (آل عمران:31)، فالتعبير عن حب الله -جلَّ شأنه- مقترن بطاعته، ومنهج طاعته منبثق عن اتباع نبيّه ورسوله صلّى الله عليه وآله وسلَّم.
ما بين إساءة وإساءة
إنَّ الإساءة الأخطر لرسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- هو أن يعصي ملايين من المنتسبين إلى الإسلام اللهَ جلَّ شأنه، ويهملوا منهج رسول الله وطريقته في اتّباع كتاب الله، ويهجروا كتاب الله، ويهجروا هدي وسنَّة وسيرة ومنهج رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلَّم. وأكبر إساءة أن يفكّ المسلمون أيديهم عن الاعتصام بكتاب الله، ويفرّقوا كلمتهم؛ ثم يفرّقوا دينهم، ويصنِّفوا أنفسهم شيعًا وأحزابًا وحركات وتيارات: ﴿ … كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ﴾ (المؤمنون:53). وكذا أكبر إساءة لرسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- أن يستجدي المسلمون مصادر القوة من خصومهم وأعدائهم. وإنَّ من أكبر الإساءات لرسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- التنكُّر لأصحابه الذين مات وهو عنهم راض؛ مثل البدريّين والمبشّرين بالجنَّة وأصحاب «بيعة الرضوان» ومن إليهم، والتنكُّر لأزواجه أمهات المؤمنين، والتنكُّر لآل بيته، وتجاوز سنَّته، وتجاهل شريعته، وهجران منهجه، وهذا أمر شائع وسائد بين المسلمين اليوم. فما من رسول من رسل الله إلا أوذي.
الحريّة ما بين نفع وضرر
إنَّ times magazineالأمريكيَّة وكثيرًا من الأفلام، وخاصَّة تلك الأفلام التي يطلق عليها public filmsأي الأفلام التي أخذت من الإنجيل والتوراة، ذكرت أنَّسيدنا موسى مجرد «شخصيَّة خرافيَّة» لا وجود تاريخيّ لها. وإذا صح أنَّ له وجودًا تاريخيًّا فهو مجرد أمير قبطيّ كان ولدًا لأحد الفراعنة، وكل قصص التوراة إنَّما هي خيالات وأكاذيب، ولم يمضِ على نشر ذلك إلا سنوات قلائل حتى نشروا عن سيدنا عيسى شيئًا مماثلًا أكثر من مرة، وصدرت أفلام عديدة عنه تنكر أيّ وجود تاريخيّ له ولأمِّه؛ ذلك لأنَّ «مفهوم الحريَّة» في الغرب أسيء إليه، وأعطي صفة الإطلاق، فأصبحت الحريَّة قيمة مطلقة لا يقيّدها شيء، ومع بروز الأضرار الكثيرة وراء هذا الإطلاق؛ لكنَّهم كمن أطلق ماردًا من مردة الأساطير وعجز عن إعادته إلى موقعه فوقف حائرًا مشلول الحركة.
ونحن نسمع بين الحين والآخر أنَّ أطفالًا في بعض مدارس الولايات المتحدة اشتروا أسلحة من السوق، وقتلوا مدرسيهم أو زملاءهم في المدرسة، وهم مراهقون دون سن البلوغ ودون سن الرشد، وما تزال أمريكا ترفض منع بيع الأسلحة العلنيّ؛ كيلا تمس بـ«ـإطلاقيَّة الحريَّة»، هذا أمر بالنسبة لهم له ما له وعليه ما عليه ولا شك؛ لكنَّ هذه «الحريَّة» هي التي جعلت أعدادًا -مهما كانت قليلة- من النصارى واليهود في أوروبا وأمريكا يتحولون إلى أديان أخرى بحريَّة تامة، ومنها الإسلام؛ إذ لا يستطيع أحد ولا نظام ولا قانون أن يصادر حريَّات الناس، والدولة هناك ليس من حقها أن تصادر هذه الحريَّة.
تصور لحل يقينا فتن المستقبل
وهنا يأتي دور الهيئات الشعبيَّة والجهات الأكاديميَّة، فـ«منظمة التعاون الإسلاميّ»، و«الأزهر»، و«رابطة العالم الإسلاميّ»، و«مجمع البحوث»، و«مؤسّسة آل البيت» في الأردن، و«جامعة الزيتونة»، و«القرويين»، ومؤسّسات الدعوة والأوقاف، والمؤسّسات التي تدخل في حوارات الأديان مع الفاتيكان وغيره، تحتاج إلى أن تنشط للدعوة إلى «ميثاق شرف» بين هذه الجهات كلّها؛ بحيث توقِّع على ميثاق مشترك يرفض الإساءة إلى أي دين وإلى أي نبي أو رسول، أو كتاب سماويّ. وفي هذه الحالة ستحصل بعض الخسائر في المجالات المعرفيَّة إلا إذا حصرنا مناقشة هذه الأمور في إطار أكاديميّ مغلق لا ينزل إلى العامَّة وإلى الشارع، ويستفز مشاعر الناس!! ويمكن في إطار هذا الميثاق أن يلتزم الجميع بأن يقاطع أيّ فيلم أو عمل فنّيّ أو إعلاميّ يسيء إلى هذه الرموز أيًّا كانت. وإذا كانت إسرائيل والجمعيَّات اليهوديَّة قد نجحت في تجريم كل مَنْ ينتقد أو يشكك في صحة وقوع الهولوكوست The Holocaustفلم لا تنجح كل هذه المؤسّسات إذا ما أجمعت أمرها على توقيع مثل هذا الميثاق والالتزام به؟ وقد يشجع على هذا وجود هيئة قائمة في الوقت الحاضر في الأمم المتحدة ولها تمثيل فيها تحت عنوان «وحدة الأديان».
أظن أنَّ المجتمع المدنيّ إذا وقف هذه الوقفة الموحَّدة المشتركة فسوف يجنِّب العالم فتنًا وشرورًا قد تتعرض لها نتيجة نزوات الراغبين في إثارة الفتن وتجّار الحروب، وأعوان الشيطان، وعناصر العنف والتدمير.
وقد نضيف إلى ذلك أن يناقش المجتمعون ضرورة تجريم فعل أيَّة حكومة أو جهة رسميَّة أو استخباريَّة إذا قامت بالتشجيع على الإساءة إلى المقدسات والشعائر لدى أيَّة أمَّة أو طائفة، واعتبار ذلك عملًا يقع تحت طائلة المحاسبة والتجريم. ربما لو فعل الناس هذا لخفف ذلك من أخطار محاولات المتصيّدين في المياه العكرة، والراغبين في خلق الفتن وتدمير العلائق بين الشعوب.
لا أقول ذلك للتقليل من تلك الجريمة الشنعاء؛ فالإساءة إلى رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- إساءة للبشريَّة وللدين كلَّه وللأنبياء كافَّة، لكن على المسلمين أن يعلّموا أنفسهم كيف يحبّون رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- وكيف يتَّبعونه. وكم أتمنى أن أجد في كليَّاتنا الكثيرة بل وجامعاتنا التي تأسّست لدراسة الحديث والسيرة والتاريخ الإسلاميّ قسمًا أو أقسامًا تعلِّم أجيالنا كيف تقيم أوثق العلائق مع رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- وكيف تتعلَّم حبَّه وتوقيره وتعزيره واتّباعه، والتمسُّك بكل ما جاء به، والانتهاء عن كل ما نهانا عنه، وأن نعيد بناء أمتنا الواحدة التي بناها هو وهدمناها نحن، فذلك أجدى وأحب إلى رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- وأنفع للأمَّة من الأخذ بوسائل الاحتجاج الآنية التي تشتعل عند الأزمات، وقد تنطفئ بأسرع من الوقت الذي اشتعلت فيه.
الأولويّة..!
إضافة لما سبق، فإنَّ عمليَّات الذبح الممنهج التي تجري في سوريا والعراق وغزة وفلسطين واليمن وباكستان وسواها، أخطر بكثير من فيلم قام بإنتاجه وإعداده أهل فتنة يسعون في الأرض فسادًا، فسيدنا رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- كان ينظر أحيانًا إلى الكعبة ويخاطبها ويقول:”مَا أَطْيَبَكِ وَأَطْيَبَ رِيحَكِ! مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ! وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَحُرْمَةُ الْـمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ الله حُرْمَةً مِنْكِ؛ مَالِهِ وَدَمِهِ، وَأَنْ نَظُنَّ بِهِ إِلاَّ خَيْرًا”، فوجوه المؤمنين والمؤمنات اليوم في البلدان التي ذكرنا والبلدان التي لم نذكر، تُمرّغ في أوحال الموت جهارًا نهارًا علنًا بأقدام الشبّيحة، وجنود طبيب العيون الذي أعمى الله بصره وبصيرته، فلم يعد يرى الحق حقًّا ولا الباطل باطلًا، بل صار يرى الباطل هو الحق والحق هو الباطل. إنّ فكّ أسر هؤلاء والقضاء على معاناتهم أحب إلى رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- وأكثر اتّباعًا وغضبًا له من ممارسة احتجاجات لا تحمي ذمارًا ولا تقيل عثارًا، بل وتخالف منهجه.
ومازلت أقول لا بد من مقررات دراسيَّة تدخل في كليَّات أصول الدين والشريعة والآداب وغيرها تعلِّم الناس كيف يحبون رسول الله -صلّى الله عليه وآله وسلَّم- وكيف يعظمون أنبياء الله، وشعائر الله، فتلك أمور أصبحت في حاجة إلى كثير من الجلاء والوضوح، ولعلّ الله -سبحانه وتعالى- يفتح لنا بعض الآذان الصم لتسمع ما قلناه والأعين العمي، والله قادر على ذلك وهو الولي الحميد.
المصدر : http://alwani.net