إعداد: الجيلاني بن التوهامي مفتاح
الجامعة الإسلامية العالمية – ماليزيا

لا مناص في نهاية هذا البحث من الالتفات إلى الوراء ومدّ الخيط طوليا للإمساك برؤوس مسائل البحث الأساسية والنظر إليها في الختام وهي متجاورة ومتقاربة في إطار كلي مصغر إذ إنّ ذلك من شأنه أن يساعد في استجماع الفكر وتركيزه وتوجيهه إلى ما يعتقد أنّه منافذ وآفاق مستقبلية.
إنّ أولى هذه المسائل ونواة البحث الأساسية -التي استُغرِقَ في بلورتها الفصل الأول من البحث هي إرجاع ابن خلدون علّة التخلف إلى فساد معاني الإنسانية، وقوله بتوقف معالجة هذا التخلّف على تحقيق معاني الاستخلاف من خلال منهج تربوي متكامل، مما يدفع إلى التساؤل عن مدى نجاحه في صياغة منهج تربوي ضمن إطار مفهوم الاستخلاف عنده. وقد احتيج للإجابة عن هذا التساؤل إلى الفصول الخمسة اللاحقة.

تناول الفصل الثاني في القسم الأوّل منه التعريف بابن خلدون من حيث نسبه وشيوخه ومراحل حياته وملامح شخصيتّه التي اتسمت بالجرأة على الأحداث وحبّ المغامرات وعلوّ الهمّة وسعة العلم والحنك في السياسة وقوّة الإرادة والصبر على الشدائد. أمّا القسم الثاني من هذا الفصل فقد خصّص لمناقشة مفهوم التربية والتعليم والتأديب عند ابن خلدون، وقد تبيّن أنّ التربية عند ابن خلدون هي مفهوم شامل يتناول الإنسان في كلّ أبعاده الماديّة والعقليّة والروحيّة منذ ولادته إلى آخر لحظة من حياته وهي إطار المجتمع وأداته التي من خلالها يحدّد نوعية الإنسان المراد إنتاجه. كما تبيّن أنّ التعليم جزء من التربية مختصّ بتعليم الصنائع ونقل الخبرات ويتأثّر قوةّ وضعفا بنوعية العمران والحضارة اللذين ظهر فيهما. أمّا التأديب فهو نوع من التعليم مختص بنقل الآداب الحسنة.

وقد تناول الفصل الثالث تقييم المناخ التربوي السائد في عصر ابن خلدون ثمّ أعقبه بتقييم آخر لمناهج التعليم. فأمّا الأوّل فقد بيّن فيه ما ساد من فساد سياسي وأخلاقي وإداري وشيوع الفوضى وانعدام الأمن والاستقرار وما تركه من آثار تربوية سيّئة على الفرد والمجتمع آنذاك، حيث فَقَدَ الإنسان في ظلّ هذا المناخ التربوي الموبوء كلّ مقوّمات الإنسانيّة وأصبح مسلوب الإرادة وأداة طيّعة بيد الساسة الفاسدين لإشباع حاجاتهم الغريزيّة ومآربهم الشخصيّة بعيدا عن أي ضابط أخلاقي أو قانوني. وأمّا الثاني فقد بيّن فيه ما أدّى إليه هذا الظلم من مسخ للفرد وتعطيل لطاقاته وما نتج عنه من خراب للعمران وأفول الحضارة وفساد التعليم وانقطاع سنده واندثار الصناعات إلاّ بقايا لها في مصر لما اتسمت به من استقرار سياسي واحترام نسبي لإنسانية الإنسان. ثم تعرّض بعدها لنقد ما ساد في عصره من مناهج للتعليم حيث ركّز فيها على ثلاث نواح مهمّة: أوّلا، هيكلة المناهج من حيث ترتيب موادّها، وقد انتهى به القول إلى ضعفها وعجزها عن تلبية حاجات المتعلّم. ثانيا، صياغة المواد المدرَّسة نفسها، وقد أظهر جمودها وعدم علميّتها من ثلاثة وجوه: الاهتمام الزائد بالعلوم الوسائل على حساب العلوم المقاصد، وكثرة الاختصارات التي صعّبت العلم وحالت دون اكتساب ملكته، وكثرة التأليف التي شتّتت ذهن الطالب وصدّته عن بلوغ مبتغاه. ثالثا، طرق التدريس ومدى مراعاتها للأسس النفسية والتربويّة، وقد بين قصورها من أربعة أوجه: أولا، عدم مراعاة التدرج في التعليم وإلقاء الغايات منذ البدايات مما يؤدّي إلى استصعاب المتعلّم العلم وهجره. ثانيا، عدم الالتزام بالمقرّرات الدراسية، وخلط المسائل بعضها ببعض ممّا يؤدّي إلى انطماس فكر المتعلّم ويأسه من التحصيل. ثالثا، الاعتماد على الحفظ كأساس للتعلّم، وإهمال بقية الوسائل مما يورّث الطالب قصورا في ملكته العلميّة. رابعا، استعمال الشدّة مع المتعلّم وقهره مما أدّى إلى فساد معاني الإنسانيّة لديه وارتكاسه إلى أسفل سافلين. هذا هو الإطار التربوي في عصر ابن خلدون وما أدّت إليه مؤسساته السياسيّة والتعليميّة من تخريب لإنسانية الإنسان وتعطيل قدراته وطاقاته.

أما مفهوم الاستخلاف عند ابن خلدون الذي يمثل فلسفته التربوية أي رؤيته لنوعية الإنسان المراد إنتاجه، فقد تناوله الفصل الرابع في نقاط ثلاث:

أولا: ما هية الإنسان الخليفة، وقد بيّن أنّ الإنسان هو جزء من الطبيعة منها نشأ وإليها يعود، وأنّه في حقيقته حيوان من جملة الحيوانات ونوع من أنواعها، يشاركها في الحس والحركة والحاجة إلى الغذاء والكنّ والجنس والراحة وغيرها من شروط البقاء. ومع أنّه من أقلّها قدرة على تلبية حاجاته منفردا فإنّ الله قد استخلفه عليها وميّزه عنها بخصائص. وهذه الخصائص نوعان:
أحدهما ما يتعلّق بالنفس البشريّة، ومن أهمّها خاصيّة الضعف والتي تعدّ دافع الإنسان للتعاون وطلب الكمال. وخاصيّة الفطرة أي حيادتها واستعدادها للتشكل حسب ما يرد عليها من الواردات مما يفتح باب التربية على مصراعيه. وخاصيّة التفكير وهي القدرة على إدراك الكليّات وهي مجرّدة من المحسوسات وإيقاع أفعاله وفق نظام الأسباب والمسبّبات، وعلى قدر تربيتها وإخراجها من القوّة إلى الفعل يكون تحقّق إنسانيّة الإنسان. وخاصيّة القياس والمحاكاة وهي القدرة على تصنيف الحوادث والتنبؤ بمآلاتها ونقل تجاربها. وخاصيّة المرونة وهي قابلية النفس البشريّة للتربية والتعوّد والانتقال من حال إلى آخر وفق مبدأي المسؤوليّة والاختيار.
ثانيهما ما يتعلّق بالنفس الإنسانيّة، وهي خاصيّة الملك التي تمثّل أعلى مراتب الإنسانيّة فهي الحافظة على الإنسان اجتماعه الذي به حفظ حياته وتحقيق حاجاته والشعور بأمانه وإشباع لقيمتي النظام والعدل اللتين بهما كماله، وخاصيّة السيادة الشخصيّة التي تعبّر عن حريّة الإرادة والاختيار في الفعل والمسؤوليّة عنه بما يؤكّد حقّا أنّه خليفة الله في أرضه، وخاصيّة الرمز وهي القدرة على تحويل أفكاره وأحاسيسه وتجاربه ومشاهداته إلى لغة يمكن تبادلها ونقلها وتعليمها للآخرين.

ثانيا: علاقة الإنسان الخليفة بالطبيعة، وتناول فيه علاقة التأثّر والتأثير بين الطبيعة والإنسان. فأمّا علاقة تأثّر الإنسان بالطبيعة فهي نوعان: ما لا يمكن للإنسان تغييره غير أنّه لا يؤثّر في مهمّته الاستخلافيّة كلون بشرته. وما يؤثّر في مهمّة الإنسان الاستخلافيّة مثل أثر المناخ والأغذية في أخلاق النّاس وطبائعهم وأبدانهم وأفكارهم غير أنّ هذا ممّا يمكن للإنسان تعديله والتحكّم في نتائجه. وأمّا علاقة تأثير الإنسان في الطبيعة فتقوم على ثلاث ركائز وهي: الأمانة وتعني استئمان الإنسان على هذه الطبيعة والحفاظ عليها وعدم التفريط فيها، والتسخير ويعني حق الإنسان في الاستفادة من هذه الطبيعة واستخدامها في أداء مهمّته وفق مبدأي الرفق والارتفاق، والإعمار ويعني وجوب تطوير وتنمية موارد هذه الطبيعة.

ثالثا: الإنسان الخليفة والمجتمع، تسعى التربية من منظور استخلافي إلى إنتاج إنسان يتمتّع على المستوى الشخصي ببعدين اثنين، البعد المعاشي ، والبعد الأخلاقي. أمّا على المستوى الجماعي فإنّه لكي تتم له المعاونة مع الآخرين، لا بدّ له من التحلّي كذلك ببعدين آخرين وهما المفاوضة ثم المشاركة، فهذا هو الإنسان الخليفة النموذج الذي بشّر به ابن خلدون وهو الفرد الصالح في أخلاقه ومعاشه علما وعملا.

أما أثر مفهوم الاستخلاف في نظرية المعرفة عند ابن خلدون، فقد تناوله الفصل الخامس، وقد تبيّن -تماشيا مع نظرته الاستخلافية- قوله بإمكانية معرفة حقيقيّة عن عوالم حقيقية خارج أذهاننا، عالم الحسّ وعالم النفس وعالم الأرواح وهولم يجعل حدّا لما يمكن للإنسان الخليفة معرفته بل الوجود كلّه شاهده وغيبيّه ممكن معرفته والتعامل معه إذ إنّ حصول النفس على كمالها مرهون عنده بحصول هذه المعرفة لأنّها هي التي تقوده لمعرفة صفات موجده وآثاره فيها. وتنقسم المعارف من وجهة نظره الاستخلافية إلى معرفة حسّيّة ومعرفة غيبيّة. فأمّا المعرفة الحسيّة عنده فهي معرفة أساسيّة وضروريّة لا يتمّ وجود الإنسان الخليفة إلاّ بها. أما حصولها فيكون عبر آليات منها: الحسّ الظاهر، ويعني به الحواس الخمس، والحسّ المشترك، وهو قوّة تدرك المحسوسات مُبصَرَة ومسموعة وملموسة وغيرها في حالة واحدة. والخيال، وهو قوّة تمثّل الشيء المحسوس في النفس كما هو مجرّد عن الموادّ الخارجة فقط، والواهمة، وهي قوّة لإدراك المعاني الجزئيّة، والحافظة، وهي قوّة مهمّتها حفظ المدركات. والفكر، وهو القوة التي تقع بها حركة الرؤية والتوجه نحو التعقّل نتيجة لوجدان حركة للنفس في البطن الأوسط من الدّماغ وهو ثلاث درجات: العقل التمييزي والعقل التجريبي والعقل النظري.
أمّا الإنتاج للمعرفة فيكون من الاستقراء أولا، ثمّ التركيب ثانيا ثمّ الاستناط والتعميم والتنبؤ آخرا. وأمّا المعرفة الغيبيّة فهي لا تكون إلاّ بالغيبة عن الحس وهي ثلاثة أقسام: أولا، ما يحصل بالفطرة وهي إما يكون الانسلاخ فيها كاملا من غير اكتساب ولا استعانة ولا تكون إلاّ للنبيّ. وإمّا أن يكون الانسلاخ فيها ناقصا وهذا يحصل للكهّان ومن على شاكلتهم. وثانيا، ما يحصل بالنوم، وهو إمّا أن يكون في أول النوم عند مفارقة اليقظة، وهو خاصّ ببعض الناس ولا يقع لهم إلاّ في مبادىء النوم عند مفارقة اليقظة وذهاب الاختيار في الكلام؛ فيتكلّم الواحد منهم وكأنّه مجبور على النطق؛ وغايته أن يسمعه ويفهمه. وإما يكون بالرؤيا عند النوم، حيث تطالع النفس الناطقة في ذاتها الروحانيّة لمحة من صور الواقعات. وثالثا، الموت وهو أحد الطرق المؤديّة إلى المعارف الغيبيّة، وهو إمّا أن يكون حقيقيّا كموتى الحوادث والإعدامات فإذا اتفق وسئلوا بعد موتهم مباشرة عن بعض الأمور الغيبيّة أو المستقبليّة فإنّهم يجيبون أحيانا عن بعض ذلك. وإمّا أن يكون موتا صناعيا، وهو نوع من تعطيل القوى الحسيّة وإخمادها ببعض الطرق كالجعل، والرياضة السحرية، والرياضة الصوفيّة. غير أنّه على الرغم من اعترافه نظريا بوجود كلّ هذه المعارف فإنّه لا يعتدّ منها عمليّا وفق نظرته الاستخلافيّة إلاّ بما يعين الإنسان في دينه ودنياه، فالمعارف كلّها غيبيّها وحسّيّها خاضعة لهذه القاعدة “لأن الأفعال إنما أباح لنا الشارع منها ما يهمنا في ديننا الذي فيه صلاح آخرتنا، أو في معاشنا الذي فيه صلاح دنيانا.” بهذا التصوّر لما يهمّ المستخلف من المعارف نصل إلى الفصل الذي يبيّن رأيه في المنهجيّة التي يمكن اعتمادها في تعلّم هذه المعارف.

أما الفصل السادس فقد تناول مفهوم الاستخلاف وأثره في مناهج التعليم عند ابن خلدون، وقد تبيّن أنّ الأهداف التربويّة لمنهاج التعليم عنده هي أهداف تتناول الإنسان بأبعاده الثلاثة وهي الأبعاد الروحية وتتضمّن الإيمان بالله سبحانه وتعالى، والإيمان بالنبيّ محمّد صلى الله عليه وسلّم الذي يعدّ طريقنا الوحيد لما يريده منّا مُستَخلِفنا (الله سبحانه) من التعاليم والضوابط الوضعيّة التي فيها سعادتنا، والإيمان بأنّ وجودنا في هذه الدّنيا هو وجود عبوري زائل إلى وجود حقيقي دائم، فعلينا أن نتزوّد من عاجلنا لآجلنا. والأبعاد الخلقيّة وتشمل غرس المسؤوليّة الأخلاقيّة في المتعلّم وجعلها جزءا من مكوّناته الشخصيّة، بحيث يشعر لكونه خليفة الله في أرضه، أنّه مسؤول خلقيا مسؤولية مباشرة أمام مستَخلِفِه (الله سبحانه). وغرس مفهوم الأمانة الشمولي في المتعلّم، بحيث يعي بأنّه –أخلاقيا- مستأمن على ما استخلف عليه بالرعاية والحفظ والإعمار والتنمية وفقا لتعاليم وضوابط الاستخلاف، وغرس مفهوم العدل في المتعلّم، بحيث يعي كمستخلَف أنّ العدل هو أساس الفضائل وينبوعها الذي بدونه يختلّ الوجود ويخرب العمران. والأبعاد المعاشيّة وتشتمل على ترسيخ مبدأ التعاون لدى المتعلّم على أساس أنّه شرط لا يمكن للفرد العيش بدونه، وهو الطريق الوحيد لإشباع حاجاته وحفظ حياته وتحقيق إنسانيته وبلوغ كماله. وترسيخ مبدأ النظام بمفهومه الشمولي، بحيث يصبح مفهوم النظام جزءا من شخصية المتعلّم وركنا أساسا في تركيبته النفسيّة والفكريّة والعمليّة.
أمّا العلوم التي ينبغي أن تحتويها مناهج التعليم فقد صنّفها إلى تقسيمين؛ عموديٍّ وأفقيٍّ. فأمّا في التقسيم الأوّل فقد نظر إليها من حيث مصدرها وهي عقليّة مصدرها العقل في تفاعله مع الواقع، ووضعيّة مصدرها النقل عن الواضع الشرعيّ ولا مجال فيها للعقل إلا في إلحاق الفروع من مسائلها بالأصول. وقد بيّن أنّ تقديمه العقليّ على النقلي له دلالاته التي منها أنّ في تقديم العقلي على النقليّ إشارة إلى تقدّمه زمانيّا إذ إنّ تعلّم الإنسان طرائق العيش والتعامل مع محيطه سابق في الزمان على تعلّمه الشرائع والقوانين. وأن في تقديم العقلي على النقلي إشارة إلى ضرورة الأول دون الثاني للوجود الإنساني، لأنّه لا يمكن تصوّر وجود مجتمع إنساني بدون وجود الأوّل ولكن يمكن تصوّره بدون الثاني. وأمّا في التقسيم الثاني؛ فقد نظر إليها من حيث وظيفتها وهي علوم مقصودة بالذات، كالتفسير والحديث والفقه من الشّرعيات، وكالطبيعيّات والإلهيات من الفلسفة. وعلوم آلة وهي وسيلة لغيرها، كالعربيّة والحساب والمنطق.
ثمّ تطرّقنا بعد ذلك إلى الطرق التي يمكن اتباعها في صياغة المناهج التعليميّة وما تحتويه من مواد يُراعَى فيها سنّ المتعلّمين وقدراتهم واستعداداتهم النفسيّة والعقليّة وذلك بالاعتماد على مبدأي التدرّج والتطوّر الهرمي. ثمّ تطرّقنا بعدها إلى شروطه في التعليم وإفادته وهي متنوّعة فمنها ما يتعلّق بالمتعلّم وهي ثلاثة: الإرادة والرحلة ولزوم المعلّم، ومنها ما يرجع إلى المعلّم، وهي القدوة الحسنة والحذق في العلم. ومنها ما يتعلّق بطرق التدريس وتشمل طرقا عقليّة، وهي تلك الوسائل والأساليب التعليميّة التي تراعي في إيصال المعلومات وتبليغها مبادىء العقل ومراحل تطوّره، وطرقا نفسيّة، وهي تلك الوسائل والأساليب التعليميّة التي تراعي في إيصال المعلومات وتبليغها مبادىء النفس ومراحل تطوّرها ومن أهمّها القياس والمحاكاة والتكرار وحمل المتعلّمين وتحفيزهم على طلب العلم قدر الاستطاعة.

نتائج البحث:

لقد استطاع الباحث في هذه الدراسة أن يصل إلى النتائج الآتية:

1- إنّ هناك تشابها كبيرا يصل إلى حدّ التطابق بين أعراض أزمة المسلمين في عصر ابن خلدون وبين أعراض أزمتنا الراهنة. فالأزمتان تشتركان في مرض واحد وهو فساد إنسانية الإنسان وضياع قيمته بما ناله من أذى الحبس والقتل والتشريد والعسف والقهر والإذلال. فهذا المناخ التربوي الموبوء قد أدّى في كلتا الحالين إلى سلسلة من النتائج المترتّب بعضها على بعض؛ ففساد إنسانيّة الإنسان أدّى إلى انتشار العجز والكسل والبطالة والتواكل والغش والكذب والنفاق الاجتماعي، وقد أدّت هذه الأعراض إلى تفكّك المجتمع واختلال العمران وانتشار الفقر والبطالة والصراعات الداخليّة، وقد أدّى هذا بدوره إلى فتح الباب على مصراعيه للقوى الخارجيّة للاستهتار بنا قديما وحديثا والتدخّل في شؤوننا واستغلالنا وإذلالنا فالأندلس مثال للماضي، وفلسطين والعراق وأفغانستان أمثلة للحاضر. فطبيعة الأزمة تتلخّص في سوء التربية، وجذورها تعود إلى فساد المؤسسة السياسيّة.

2- بما أنّ الأزمة في عمقها هي أزمة تربية فإنّ حلّها يتوقف أوّلا وقبل كلّ شيء على صلاحية وشموليّة التصوّر التربوي لنوعية الإنسان المراد إنتاجه، وإنّ أنسب التصوّرات وأفضلها وأشملها لأبعاد الإنسان الماديّة والرّوحية والخلقيّة هو مفهوم الاستخلاف الإسلامي.
3- إنّ الفهم الاستخلافي لطبيعة المعرفة ومصادرها وأنواعها وتحديد ما يهمّ المستخلَف منها، وما ترتّب عنه من تصنيفٍ للعلوم وتحديدٍ للعلاقة بينها قد حلّ لنا إشكالية من أعوص الإشكاليات التي شغلت المسلمين قديما وحديثا وهي مسألة علاقة الشرعي الوضعي بالطبيعي العقلي حيث بيّن أنّ لكلّ واحد منهما مصدره الخاص به ومجاله الذي لا يتعدّاه وأنهما متكاملان في الوظيفة لا متعارضان.

4- إنّ الفهم الاستخلافي لطبيعة التعليم ووظيفته وأهدافه التربويّة وطرق بناء مناهجه وطرق توصيلها وتقييمها وغيرها من المسائل التي وردت في ثنايا البحث تعدّ -معظمها إن لم نقل كلّها- أمورا رائدة في مجالها وسابقة لزمانها ودالّة على عبقريّة صاحبها.

توصيات البحث:

1- مواصلة البحث في فكر ابن خلدون التربوي وتعميقه -وهذا أمر لا شك في أنّه يحتاج إلى جهود متضافرة، وموجَّهة، وتسلّح فكري، ومادي ومعنوي واطلاع وإلمام عميق بالتراث التربوي الإسلامي عموما، والخلدوني خصوصا- من أجل إعادة صياغته صياغة جديدة تتناسب مع لغة التربية المعاصرة وذلك من خلال مقارنة ما يتوصّل إليه من نتائج بالنتائج التي توصّل إليها البحث التربوي المعاصر في الموضوعات المختلفة.

2- إنّ أهمّ ما يمكن أن يستفاد من جهود المفكرين الغربيّين هي قدرتهم على توليد الأفكار وتعميقها وتفعيلها. لهذا فإنّ الباحث يدعو المهتمين بالتراث الإسلامي عموما والخلدوني خصوصا إلى تركيز أبحاثهم وتوجيهها إلى بعض القضايا المحدّدة ومحاولة تطويرها وتفعيلها في فهم ومواجهة قضايانا التربوية والمعرفيّة والنفسيّة والتعليميّة كمسألة مفهوم التربية والتعليم وعلاقتهما بالسلطة والحضارة والعمران، ومفهوم الاستخلاف وقضايا المعرفة وتقسيم العلوم وعلاقة بعضها ببعض والعادة والملكة وأقسام الفكر والتدرّج وغيرها من المسائل الكثيرة التي مرّ ذكرها في ثنايا البحث.

3- دعوة أصحاب القرار من الساسة والتربويين في عالمنا الإسلامي إلى العناية بالتراث التربوي الإسلامي عموما والخلدوني خصوصا وذلك من خلال إقامة مؤتمرات ومراكز بحوث متخصّصة تعنى بدراسة تراثه دراسة واعية وهادفة، وجعله المصدر الأساس في بناء مناهجنا التربويّة والتعليميّة باعتباره الأنسب لمكوّناتنا الثقافيّة والحضاريّة والدينيّة بدل الاعتماد على المناهج المستوردة التي لا تزيدنا إلاّ انبتاتا عن فكرنا وحضارتنا وتبعيّة في أخلاقنا وسلوكنا.

هذه هي النتائج والوصايا التي أردت إثباتها في نهاية هذا البحث، علّها تكون معالم وإشارات ولبنات صالحة تفيد المهتمين بفكر وآراء هذا العالم العبقري الجليل (ابن خلدون) التي ما زالت تحتاج إلى جهود جبارة ومخلصة سلاحها العلم ورايتها الحق وغايتها خدمة الأمة والبشرية جمعاء. وأخيرا هذا هو جهد المقلّ وأحمد الله على ما وفَّقَ وأسأله المغفرة فيما قصّرتُ فيه وأسأله العون والتوفيق فيما يأتي إنّه نعم المولى ونعم النصير.

من admin

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *