بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين، و الصلاة و السلام على سيد المرسلين و آله أجمعين : قال الله تعالى : ” و لكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات ” (البقرة 148).
الخلق من جهة ما جعلوه قبلتهم ثلاث طبقات : عوام أهل الغفلة ، و خواص أهل كياسة ، و خواص الخواص و هم ذوو البصيرة . أما أهل الغفلة فقد قصروا نظرهم على عاجل الخيرات ، و ظنوا نعيم الدنيا هو الخير الأكبر ، و حسبوه أصل المال و الجاه ، فأقبلوا عليها ، و عدوها قرة عين لهم.
قال رسول الله (صلى الله عليه و سلم ) : “ما ذئبان أرسلا في زريبة غنم بأكثر فساد من حب الشرف و المال في دين المرء المسلم “.
لم يفرق أولئك الغافلون بين الذئب و الصيد . و لم يميزوا بين القرة و السخنة ، و اصطفوا طريقاً أعوج ، و زعموا أنه رفعةٌ . قال رسول الله (صلى الله عليه و سلم ) ينبئ بزيفهم هذا : “تعس عبد الدينار ، تعس عبد الدرهم”.
و أما الخواص ، فقد أسلمتهم الكياسة و الموازنة بين الدنيا و الآخرة أن آثاروا الآخرة على الأولى ، و هي خير و أبقى ، و الباقي أفضل من الفاني المنقضي . فمالوا عن الحياة الدنيا ، و ولوا وجوههم شطر الآخرة ، و لكن قصر هؤلاء أيضا، إذ لم يطلبوا الخير المطلق و إن قنعوا بما هو أحسن من الدنيا .
و أما خواص الخواص ، و هم أولو البصيرة ، فقد عرفوا أن ذلك ليس بالخير المطلق ، و أن كل ما دونه من الآفلين ، و العاقل لا يحب الآفل ، و دروا أن الدنيا و الآخرة مخلوقان ، و أن أكثرها شهوةً استوى فيها البهائم و الأناسي . و هذه مرتبة لا تنبغي لهم . و الله مالك يوم الدين ، و له ملكوت الدنيا و هو خالقها ، و هو خير و أعلى . و قد كشف عن هؤلاء غطاء قوله : “و الله خير و أبقى ” (طه 73) ، و اختاروا مقام “في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر ” (القمر 55) . و آثروه على مرتبة “إن أصحاب الجنة اليوم في شغل فاكهون (يس 55) ، بل أدركوا حقيقة لا إله إلا الله و عرفوا أن الآدمي عبد ما قيد به نفسه ، و أنه إلهه و معبوده “أرأيت من إتخذ إلهه هواه ” (الفرقان 43) . و مقصود كل كل نفس معبودها ، لذلك قال رسول الله صلى الله عليه و سلم : “تعس عبد الدرهم ” ، فمن كان مقصوده غير الله ، فتوحيده غير تام ، و هو من الشرك الخفي غير بريء . و قد قسم هؤلاء كل ما في الوجود قسمين متقابلين : الله ، و ما دونه . و هما ككفتي ميزان . جعلوا في قلوبهم لسانه . فلما وجدوا طبعهم يميل طوعاً مع الكفة الراجعة ، قالوا : قد ثقلت موازين الحسنات ، و ايقنوا أن ما لم يوفه هذا هذا القسطاس لا يزنه الميزان يوم الحساب .
و حال الطبقة الثانية عند الطبقة الثالثة ، و هو مثل حل الطبقة الأولى لدى الطبقة الثانية : عوام لا يفهمون قيلهم ، و لا يدرون أن من نظر إلى وجه الله تعالى بالحقيقة حسن وجهه .
و قد دعاني صدر الوزارة – بلغة الله أعلى المقامات – من المحل الأدنى إلى المرتبة العلية ، فأنا ادعوه من مقام الطبقة الأولى و هو أسفل السافلين ، إلى أعلى عليين هو مقام الطائفة الثالثة ، صلى النبي صلى الله عليه و سلم : ” من أحسن اليكم فكافئوه ” . و أنا لم أصب سبيلاً إلى جزائه و مكافأته ، فقد عجزت عن إسعافه بالإجابة . فليهيئ لي أمر السفر من حضيض درجة العوام إلى علو درجة الخواص . و الطريق إلى الله واحدة من طوس و بغداد و سائر البلاد ، و لكن بعضها أقرب من بعض . و لكن ليست تلك الطرائق الثلاث إلى الله تعالى سواء . ثم ليعرف حق المعرفة أنه لو ترك فرضاً من الفروض التي أوجبها الله تعالى ، أو ارتكب ما حظره الشرع ، أو لذ له النوم و في البلاد مظلوم واحد يتململ من السقام ، فما درجته إلا حضيض المقام الأول و هو من أهل الغفلة ، أولئك هم الغافلون ، لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون . أسأل الله تعالى أن يوقظه من نوم الغفلة لينظر في يومه لغده قبل أن يخرج من يده .
عدنا إلى حديث مدرسة بغداد ، و عذر التقاعد عن إمتثال إشارة صدر الوزارة . أما العذر فإن الخروج من الوطن لا يلتمس إلا ابتغاء زيادة دين ، أو طلب زيادة دنيا . أما الدنيا فقد زال طلبها من القلب و الحمد لله تعالى . فإذا أتوا ببغداد إلى طوس و هيأوا أسباب الملك و المملكة للغزالي ، وا أسلموها إليه ، و التفت إليها ، كان ذلك من ضعف الإيمان ، فالميل من نتائجه. و أما زيادة الدين فإنه يستحق الحركة و الاطلاب . ولا ريب أن إفاضة العلم هنالك أيسر ، و أسبابه أوفر ، و طلابه أكثر . و لكن العذر أن السفر يجيب خللاً في الدين لا تسده هذه الزيادة ، فإن ها هنا نحو مائة و خمسين محصلا متورعاً مشغولين بالإستفادة ، و نقلهم و إعداد وسائلهم متعذر ، و تركهم و كسر قلوبهم و السفر لكثرة نظائرهم في مكان آخر لا رخصة فيه ، مثل ذلك كمثل رجل يكفل عشرة أيتام ثم يعدل ليتعهد عشرين في موضع آخر و الموت و الآفات في طلبه .
ثم إنني كنت فرداً لما دعاني الصدر الشهيد نظام الملك – قدس الله روحه – إلى بغداد ، لا أهل و لا بنون ، و قد بليت بالأهل و الولد ، و لا يجوز إغفالهم و كسر قلوبهم .
و العذر الثالث أنني نذرت لما وصلت إلى تربة الخليل عليه السلام سنة 489 هجري أي قبل خمس عشرة سنة تقريباً ، ألا أقبل مالا من سلطان أو سلطاني ، و ألا أخرج للسلام على سلطان أو سلطاني ، و ألا اناظر فإذا نقضت هذا النذر ضاع الوقت و انصرف القلب ، و لم أستطع شيئاً من أعمال الدنيا و الدين . و لا بد من المناظرة في بغداد ، و لا مناص من السلام على دار الخلافة بها ، و أنا لم أمثل للسلام على أحد في بغداد منذ رجعت من الشام ، و لم أتصرف في أي شغل ، و اجتبيت الإعتزال . و إذا توليت أمراً لم استطع الحياة سالماً . فالباطن حينئذ ينكر الإنزواء .
و أعظم هذه المعاذير أنني لا أقبل مالاً من سلطان ، و ليس عندي في بغداد ملك ، و باب المعيشة موصد . و عند هذا الحقير ضيعة في طوس تكفي هذا الضعيف و أطفاله جميعاً بعد المبالغة في الإقتصاد و القناعة . و إذا غبت ، قصرت عن ذلك . و هذه المعاذير جميعاً دينية ، و هي لدي جليلة و إن ظنها أكثر الناس يسيرة .
و قد بلغت غاية العمر . و هذا – على كل حال – وقت الوداع للفراق ، لا وقت سفر العراق . أؤمل من مكارم أخلاقك قبول هذا الإعتذار .
فظن أن الغزالي قدم بغداد ، و أتاه أمر الله ، ألا يجب إعداد مدرس آخر ؟ فاعمل هذا اليوم ، و السلام . زين الله تعالى صدر العالم بحقيقة الإيمان التي هي وراء صورة الإيمان ، ليعمر العالم به . و الحمد لله حق حمده ، و ثلاث على نبيه و آله و سلم ” .