عندما تنفصل الشعيرة عن معانيها، فإن ممارسي هذه الشعيرة لا يسقطون بالضرورة في مجرد (اللا معنى)، بل قد يحدث ما هو أكثر من ذلك، من السقوط في معنى مغاير تماماً، بل في” المعنى- النقيض” بالضبط.
يحدث ذلك مثلا مع الصلاة، التي أراد لها شارعها أن تكون إقامتها وسيلة لبناء الإنسان كي يساهم في بناء العالم وإقامته على أسس أكثر عدالة، فإذا بها تتحول، عند مفارقة هذا المعنى، إلى وسيلة لإبقاء الوضع على ما هو عليه، باعتبار أنها تكفر الذنب الحاصل بين الصلوات، حتى لو كان الذنب يشمل الحياة كلها ومعناها والطريق الذي يسير فيه الفرد المصلي..
لكن هذا الانفصال عن المعنى، المؤدي إلى السقوط في معنى نقيض، يتوضح بصورة جلية في شعيرة أخرى، هي الصيام؛ فالانفصال عن المعنى الجوهري في شعيرة الصيام، وهو معنى متضمن بوضوح في معنى الفعل صام أي (أمسك- انقطع) الذي اختفى تماما ًأدى إلى تحول الشعيرة إلى مناسبة احتفالية، يختفي فيها معنى (الانقطاع)، ويحل معه معنى يشجع على المزيد من الاستهلاك…
كيف حدث ذلك مع رمضان؟ حصل أولاً ذلك الانفصال عن المعنى – الجوهر في الشعيرة، التي عندما نجردها من تفاصيلها الفقهية، نجدها تتمحور حول الانقطاع عن الأكل والشرب والعلاقة الزوجية(=الجنس)، ولو لفترة زمنية محددة.
نلاحظ هنا أن الانقطاع هو عن الأشياء الثلاثة التي لا يمكن للجنس البشري الاستمرار من دونها، إنها الأضلاع الثلاثة التي تكون المثلث الأدنى الذي نشترك فيه مع معظم الحيوانات الأدنى في سلم مخلوقاته عز وجل، وهو المثلث الذي لا يحقق الإنسان إنسانيته إلا عبر الخروج منه.. وإلا بقي”إنساناً ببعد واحد ” – والتعبير أستعيره من هربرت ماركيوز- بينما الخروج من هذا القفص المسطح يمنح الإنسان أبعاداً أخرى يحقق من خلالها إنسانيته..
الانقطاع الشعائري هذا (الصيام) هو انقطاع يميزنا عن بقية الحيوانات (التي لا تفعل شيئاً كهذا بالمناسبة) ، وهو انقطاع في الوقت نفسه، يعلمنا الخروج من هذا القفص المثلث الأضلاع، ذي الأبعاد المسطحة، إلى أفق يكمل الإنسان فيه، بإرادته، ارتقاؤه بعيداً عن بقية المخلوقات التي تعجز أصلاً عن الخروج من هذا القفص.. الانقطاع الشعائري هنا، يذكرنا، في جوهره أن هذه الأضلاع الثلاث مجرد وسائل لا غايات بحد ذاتها، أي إننا لا نحيا لكي نأكل ونشرب ونمارس الجنس كما هو حاصل ومتحقق في المعنى الأضيق والأكثر رواجاً للحياة، على العكس من ذلك، يجب أن تكون هذه الأبعاد الثلاثة – وسائلَ – لا غايات.. وسائل من أجل صنع حياة تتجاوز هذه الأبعاد إلى تحقيق الغاية من الحياة نفسها…
عندما نقطع شعائرنا عن تلك الأبعاد، فإننا نتلمس تلك الأبعاد الأخرى غير المرئية التي يمكن لنا أن نكون من خلالها.. أبعاد تبعدنا عن البعد المادي السطحي المباشر الذي نشترك فيه مع الحيوانات.
الذي حدث ليس فقط أننا ابتعدنا عن هذا المعنى العميق (والبسيط في آن، بالمناسبة)، عبر اعتبار الصيام مجرد “هدنة مؤقتة” نستأنف بعدها الغوص حتى الأذنين في فخ الأبعاد الأكثر تسطيحاً، بل إننا انغمسنا فيما هو أسوء… فإذا كان الصيام هو انقطاع شعائري عن ضروريات الحياة، أفلا يكون من باب أولى انقطاعاً عن غير الضروريات، عن تلك الكماليات التي جعلتها ماكنة الإعلام تبدو كما لو كانت أساساً من أساسات الحياة؟..
وهكذا تحول رمضان، من شهر الانقطاع عن الضروريات المادية من أجل الخروج بالإنسان من أبعادها المسطحة إلى الأفاق المتعددة الأبعاد، إلى شهر يصير فيه الاستهلاك العلامة الأكثر تميزاً وبروزاً، وسقط الشهر الفضيل في أسر الشركات عابرة القارات، التي استثمرت الشهر لتجعله وسيلة لإنماء النزعة الاستهلاكية، مستغلة النصوص الدينية عن فرحة الصائم، التي هي فرحة خروجه من أسر الأبعاد الثلاثة، لتحجمها وتقزمها وتحولها إلى فرح سطحي عابر بمنتج ما أو سلعة تسوقها وسائل الإعلام وماكنة الدعاية، حتى صار من خارج نطاق المفكر فيه، أن نفصل رمضان، عن التسوق له، (باعتبار أن الانقطاع عن الطعام والشراب صار مجرد هدنة هدفها استجماع القوى للمزيد من الاستهلاك) أو أن نفصل العيد عن التسوق للعيد، باعتبار أن العيد لا يمكن أن يكون عيداً دون أن يتسابق الجميع لإثبات مقدرتهم الشرائية.. ومزيداً من ضخ الأرباح في جيوب وأرصدة كبرى الشركات العالمية، التي صار خبراؤها، يتحدثون صراحة عن استخدام أكثر الوسائل فاعلية من أجل (تحويل رمضان إلى موسم لعيد الميلاد) “of Ramadan “Christmasization حيث إن عيد الميلاد – الكريسمس – تحول ومنذ عقود، بواسطة سطوة الإعلام الذي تسيطر عليه المؤسسات والشركات الكبرى، إلى الموسم الأهم لزيادة الأرباح، بحجة شراء الهدايا احتفالاً بعيد ميلاد السيد المسيح !
وهكذا تم تأميم الشهر الفضيل عند البعض ، وصار موظفاً عند الشركات المصدرة للسلع (غالبها أجنبية طبعاً)، وزاد القفص ذي الأبعاد الثلاثة بعداً رابعاً هو بعد النزعة الاستهلاكية، وبعد أن كان القفص السابق يجعلنا نعيش لنأكل، ونعيش لنشرب، ونعيش لنمارس الجنس ( = أي نعيش لنمارس غرائزنا، ككل الحيوانات لا تفقه من حياتها غير غرائزها).. تم “غرس” غريزة جديدة بكل ما في ماكنة الإعلام من قوة: إنها غريزة التسوق والاستهلاك…
و هكذا صرنا، بالإضافة إلى كل ما سبق، نعيش لنتسوق..! وصار التسوق ركناً أساسياً من أركان الهوية الإنسانية الجديدة، وغريزة جديدة من غرائزنا، وصار التسوق، وامتلاك المزيد من السلع (غير الضرورية غالباً) سمة أساسية يتم بها تعريف الإنسان المعاصر.. صحيح أن هذه النزعة (غير مشتركة) مع الحيوانات، ولكن هذا (التميز) لا يمنح الإنسان رقياً عنها بالضرورة، ولا يجعله إنساناً أفضل.. لكنه بالتأكيد يجعل أرصدة الملأ الأعلى المعاصر – المتحكم بمصائر الـ 90% من العالم- في وضع أفضل ..وأكثر امتلاءً.
د.أحمد خيري العمري