كثيرا ما تكون للخير طبيعة الزهرة الفواحة عندما تنفح العطر وتثير المحبة.
إن الإنسان الصالح المستقيم له إشعاع ينم عنه ويعلق الآخرين به! بيد أن أحوال الدنيا وخلائق الناس لا تنتظمها هذه الأحكام السريعة، ولا تتمشى مع سنن الفطرة على هذا النحو اليسير.
من السهل أن تمتد يد لقطف الزهرة ورميها تحت الأقدام!!
من السهل أن يصنع البعض حولها دخاناً يزكم الأنوف أو يحجب الرؤية… إن ذنب ابن آدم القتيل أنه كان رجلاً صالحاً، والفاسدون يرون الصلاح تحدياً لهم، ويرون التقوى مشعلة لغضبهم.
وفي صدر التاريخ البشري قتل أنبياء دون جريرة، وعجزت رسالات سماوية عن المضي في طريقها لأن الخاطئين اعترضوها، وسرقت شعوب متنامية الأعداد، فاختفت وراء الشمس لأن الأقوياء شاءوا ذلك، ألم تبق مصر والشام وغيرهما في حوزة الرومان قروناً عدداً، لأن السلاح الأقوى فرض نفسه وأملى إرادته.
إن الحق كي يستديم وجوده ويحمي ذاته لابدَّ له من قوتين:
إحداهما عقلية: تبسط حجته وتنفي عنه تهمة الشراسة والعدوان.
والأخرى مادية: ترد الهجوم وتؤدب الذين يعيشون على القضم و الهضم!! لا يكفي أن يكون الحق وسيماً يستحق الإعجاب، ينبغي أن يكون كذلك دارعأً يتحمل العراك وينجو من غوائل الخاطفين والقاطعين.
ويشاء الله أن تكون القوة العقلية للحق أسبق وأبرز لتثبت جدارته بالحياة.
ولا بأس في هذه المرحلة أن يتحمل ضربات الجهال، وأن يقع تحت وطأتهم، وقد تختنق أنفاسه فترات يتعرض فيها للموت، لكن عليه أن يصابر ويقاوم حتى يتأذن الله بالفرج.
كنت أشعر بهذه المعاني وأنا أتلو الآيات المقارنة لنزول الوحي واستقبال متاعب الدعوة.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يحس أنه أمام عبء فادح، وعمل مرهق، وكان الوحي النازل يؤكد هذه الحقيقة، إن تغيراً كونياً يوشك أن يقع، إن تحولاً في تاريخ الإنسانية يوشك أن يبدأ، فليستعد الإنسان المختار لاستقبال قدره، لا راحة ولا دعة بعد اليوم: [إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا] {المزمل:5}.
أهو ثقيل لما يتضمنه من حقائق يقاومها الملحدون والمجرمون، وعبيد الهوى والغي؟
إن الآيات الأخرى النازلة مع أول الوحي تشير إلى ذلك، تدبر قوله تعالى:[إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ القُرْآَنَ تَنْزِيلًا فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ…] {القلم:48}. تجلد وقاوم وشُقَّ للحق طريقه الوعر:[فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آَثِمًا أَوْ كَفُورًا] {الإنسان:24}.
إن عدم الطاعة هنا ليس له إلا معنى واحد، أن لا اعتراف بالباطل بوجه من الوجوه، لابدَّ من تعريته وكشف زيفه، ولما كان الكلام في بدء الدعوة، وبدء تنزل الحق، فالمراد دمغ الباطل عقلياً، ودحض كل الشبهات التي راح بها يوماً.
وتكمل بقية السياق التي يتم بها المنهج المرسوم لصاحب الرسالة: [وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ العَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا] {الإنسان:25-27}.
إن محمداً صلى الله عليه وسلم داعية التوحيد الأول في تاريخ العالم، وهو أطول الأنبياء أنفاساً في الحديث عن الله وإسقاط الشركاء المزعومين، وتجريد العقيدة من أوهام الأميين والكتابيين على سواء، وغرس الإحساس بالوحدانية في أعصاب البشر حتى لا تكون نظرية مجردة أو خيالاً عابراً.
من أين له هذه القدرة؟ من ديمومة الذكرى في حياته! اذكر اسم ربك بكرة وأصيلاً، ليلاً ونهاراً، إنه ذكر لا ينتهي، إن ضياءه له لا يخبو، إن الطاقة التي تمده بالصحو النفسي والفكري دوارة بلا توقف.
وربما ظن الناس أن إقبال الليل يمنحها فرصة استجمام! لا: [وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا] {الإنسان:26}.هنا مكمن العظمة المحمدية وسر إشراقها الدايم، إنها موصولة بالله نور السموات والأرض، على نحو لا تقطّع فيه ولا فتور.
وفي تدبّري للآيات التي صاحبت نزول الوحي في مراحله الأولى استيقنت من هذه الحقيقة.
اقرأ ما جاء في سورة المزمل موضحاً هذا المعنى:[وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا رَبُّ المَشْرِقِ وَالمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا] {المزمل:8-9}. ماذا ترى هنا؟
الإنسان المكلف بهداية العالم بدءاً من عصره إلى آخر الدهر يحتاج إلى قدرة غير عادية كي ينهض بهذا العبء، فمِمّن يستمد هذه القدرة؟ لقد قيل له: انقطع إلى ربك انقطاعاً، ثم تحدث باسمه، وخذ عنه! وعندما تضيء المشارق والمغارب بدينه فاهتف له وحده، وتوكل عليه وحده، فما عداه وهم.
إنني من أفق الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم أنظر إلى أعدائه فأعجب لغبائهم أو لافترائهم، وأُسائل هؤلاء السكارى: أتدرون ما يقول؟ ألا تسمعون نغمة العبودية في حديثه؟ ألا تحسون تشبثه الشديد بربه وخشيته البالغة منه؟ مَنْ مِنَ الفلاسفة والمصلحين البشريين يجري على لسانه هذا الكلام؟
[قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ المُسْلِمِينَ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلِ اللهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ…] {الزُّمر:11-15} .
أهذا حِوار دَعيٍّ يمثل دور النبوة؟ فمن بعده يحمل أمانات البلاغ؟ ومن غيره يخرج الناس من الظلمات إلى النور؟ وماذا يقوله الرسل الحقيقيون إذا كان هذا الكلام النقي الطهور تكلفاً وافتعالاً؟!
لقد طالعنا حياة محمد صلى الله عليه وسلم وتابعنا سيرته منذ دعا إلى أن قضى، فوجدنا إنساناً وثيق اليقين بربه، قوي الاعتماد عليه، صادق الوصف له، بلغ في تنزيهه المدى، وكان سخطه هائلاً على المفترين والمشركين، يمحو ضلالهم بقوة، ثم يسوق الصواب في حشد من الأدلة المورثة لليقين، والباعثة على حب الله والإنابة إليه سبحانه.
ونريد أن نتأمل ـ لحظات ـ في الحياة الباطنة للنبي صلى الله عليه وسلم، أعني في سريرته، وخليقته وتيار الشعور الدافق في فكره وعمله!
لقد ذكرنا في مكان آخر أن القرآن الكريم كان لباب هذا الشعور المنطلق، وأنه أساس الحياة الداخلية التي تصحبه: نائماً ويقظان!
وقضايا القرآن منوعة، فقد تكون وصفاً للكون، أو مشهداً من مشاهد الحساب الأخير، أو فصلاً من تاريخ الماضين، أو حديثاً عن العظمة الإلهية، أو بياناً لأحكام شرعية، أيّاً ما كان الأمر فإن فؤاد النبي صلى الله عليه وسلم كان معموراً بهذه القضايا، أو كانت شغله الشاغل، فما يظفر غيرها إلا بالقليل من انتباهه.
قد يراه الناس بينهم يوِّجه ويعلّم، وينصح ويقود، وهذا وذاك مظهر تدبره للقرآن وعيشه في جوه، وسبحه في آفاقه، ولنضرب مثلاً لما نعنيه بهذا الكلام.
سورة هود من القرآن الذي نزل بمكة، بدأت ببيان سريع لطبيعة البلاغ الذي يقوم به النبي الكريم:[الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آَيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ] {هود:1-2}.
ولا نستطيع إجمال المقدمات التي سبقت السرد التاريخي لقصص الأولين، ولا المعاناة التي كان يلقاها صاحب الرسالة من جمهور المنكرين، ونشير فقط إلى ما جاء في هذه السورة من أخبار الأوائل، والغاية منه، سواء لمتلقي الوحي أو لسامعه.
في هذه السورة قصة نوح مع قومه، وهود مع عاد، وصالح مع ثمود، ولوط مع قومه، وشعيب مع مدين، وموسى مع الفراعنة…. إن هذه المرويات القديمة كانت تحل مشكلات جديدة وتفرج أزمات حادثة، ذلك أن سنن الله الكونية واحدة وصارمة في المجتمع البشري، كما هي واحدة وصارمة في العلوم المادية والهندسية.
نعم إذا كانت هناك قوانين مقررة في علوم الرياضة والفيزياء فهناك قوانين تساويها كل المساواة في الحياة الإنسانية مثل: [إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ] {الرعد:11}. [وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الأَرْضِ] {فاطر:44}. [تِلْكَ الدَّارُ الآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلَا فَسَادًا] {القصص:83}. [إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ المُحْسِنِينَ] {يوسف:90}.
ونشرح الآن بايجاز شديد كيف كان السرد القديم يحل مشكلات جديدة، ويبصر الزائغين بمصير أسلافهم لعلهم يتعظون ويرعوون!
بعد قصة نوح عليه السلام يقول الله لنبيه: [تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ العَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ] {هود:49}.
وفي أثناء القصة يفجؤك هذا التساؤل الرائع: [أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ] {هود:35}.
يكاد الماضي والحاضر جميعاً يكونان قصة واحدة، فلا غرابة إذا كانت النتيجة واحدة.
وفي هلاك ثمود يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: [فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ القَوِيُّ العَزِيزُ] {هود:66}.
الخطاب لمحمد صلى الله عليه وسلم كما ترى وفي طياته تهديد لعرب مكة فالقضية واحدة…
ووحدة القضية هي التي جعلت نبينا صلى الله عليه وسلم يستدرك على لوط قال لقومه:[قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آَوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ] {هود:80}.
إن النبي العميق الحس بربه الشديد التوكل عليه يقول في أدب جم:(رحم الله لوطاً، لقد كان يأوي إلى ركن شديد).
وبعد تمام هذا السرد يقول الله سبحانه لنبيه صلى الله عليه وسلم:[ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ القُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ] {هود:101}.
ثم يتجه الخطاب مرة أخرى إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الإنذار المقلق:[فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آَبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ] {هود:109}.
إن توفية هذا النصيب تعني هلاك العرب كما طاح آباؤهم من قبل! هذا نذير مزعج ! ألا تلمح وراء ذلك تفسيراً لما جاء في الصحاح (شيبتني هود وأخواتها)
إن الخوف على مستقبل قومه جعل الشيب يتسلل إلى رأسه صلى الله عليه وسلم ! ما يرضى لهم هذه المصاير المشئومة.
ومن ثَم فهو يستنفد الجهود لنصحهم وإنقاذهم، بل إن الأمر في معرض الجلال الإلهي، وافتقار العباد طرّاً إلى عفو الله يجعله يصيخ في خشوع إلى هذا التأديب:[فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ…] {هود:113}.
قلت آنفاً: إن القرآن الكريم هو سريرة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته، فهل ألقيت شعاعاً على هذا القول؟
إن الناس قد يرون النبي صلى الله عليه وسلم الإنسان يمشي على الأرض، ويمر بالأسواق، لكن الوحي الذي نزل عليه، لكن القرآن الذي خُصّ به جعل فكره يتنقل في ومضات خاطفة بين الأزل والأبد، بين المعاش والمعاد، بين الدنيا والآخرة، بين العالمين ورب العالمين… [وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلَا الإِيمَانُ] {الشُّورى:52}.
إنه مع الناس بجانب واحد من نفسه، ومع الله بجوانب كثيرة، أي أن مقام الإحسان أدنى منازله صلى الله عليه وسلم.
من هذا المنطلق بنى صاحب الرسالة الخاتمة خير أمة أُخرجت للناس، أُمة شارتها الأولى الربانية، فهي تصحو من منامها لتصلي، ولا تأوي لفراشها إلا بعد صلاة، ومن انفلاق الصبح إلى جنح الليل تكدح لربها، وتتحرك وتتوقف بأمره و نهيه.
وهي تعرف الغاية من وجودها، فإذا كانت الحضارة الحديثة تستحث الذكاء الإنساني لمزيد من الرفاهية، أو لمزيد من الدمار، وإذا كانت هذه الحضارة تجعل الإنسان عابد نفسه، وخادم هواه، فإن الحضارة التي أنشأها الإسلام شديدة التعلق بالله، حثيثة السعي لمرضاته، ولأمر ما كان شعارها العالي (الله أكبر) وما عداه هباء.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يربي الجيل الذي يستمع إليه تربية خاصة! كيف؟ إنه مرسل للناس كافّة، ومرسل لبني آدم ما بقي على ظهر الأرض منهم واحد، لا نبوة بعد بعثته!
وهو صلى الله عليه وسلم يدرك أنه لن يُعَمَّر حتى يطوف القارات ويهدي العصور المتطاولة، فسبيله إلى إبلاغ رسالته أن يربي قادة يرثون الكتاب ويضيئون به المكان والزمان، ويؤدون عنه متطلبات العموم والخلود في رسالته.
والمعلم الذي يهدي جماعة من الحيارى محدود الجهد دون غمط لفضله، ولكنه دون المعلم الذي يصنع أساتذة، وينشء نجوماً حيّة.
والمنصفون يقولون: حسب محمد شرفاً أن ينشء من الأميين شعباً راقياً واعياً ! فكيف وقد أنشأ منهم أمة حركت الرواسي وأتت بالعجائب!
من كان يخرج الرومان من مستعمراتهم التي احتلوها قروناً عديدة؟
من كان يحاكم مواريثهم الفكرية والروحية التي فرضوها بالحديد والنار؟
من كان يقدر على تقليص ظلالهم وكسر كبريائهم بعدما هزموا الفرس، واحتكروا الأرض ذات الطول والعرض؟
لقد قدر على ذلك الرجال الذين صلوا وراء محمد في مسجده المتواضع بالمدينة وسمعوا القرآن فحفظوه لم يسقطوا منه حرفاً، ونقلوه إلى من حولهم وإلى من بعدهم في دقة لم تعرف الكتب السابقة على أيدي حفظتها من قبل.
من روح محمد القائد العابد الداعي إلى الله على بصيرة، انطلق قادة عباد صوب المشارق والمغارب، ما أُثر عنهم اعتداد بجنس، ولا اشتهاء لعرض، ولا إخلاد لأرض، ولا تكسل عن آخرة، فإذا حضارة جديدة تقوم، هتافها الدائم أذان يتكرر من الفجر إلى العشاء يدعوهم لأداء واجبهم نحو رب العالمين.
إن محمداً صناعة إلهية لم تتكرر، فسبحان من أبدع محمداً
وإذا كان السلف الأول قد أحدث خوارق تاريخية لأنه أحسن التأسي والتعلم والوفاء، فرجال محمد في عصرنا يقدرون على مثل ذلك، إذ الوسائل بين أيديهم لا تزال قائمة، لا الكتاب انتهى…ولا السنة اختفت…
المهم أن يكون الاتصال بالروح لا بالشكل…ففساد الأديان يجيء من تحولها إلى رسوم جسوم.
وكم من رسم خلال من المعنى !
وكم من جسم حلّت به حقيقة مارد، وإن بدا للناس في صورة عابد
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
الشيخ محمد الغزالي رحمه الله
—————————————————-
المصدر: الكتاب التذكاري للمؤتمر العالمي الرابع للسيرة والسنة النبوية والمؤتمر العاشر لمجمع البحوث صفر 1406 نوفمبر1985