ولد العلامة الجليل سماحة الشيخ محمد بن الطيب عباس بمدينة تونس 1899م وبعد أن حفظ نصيبا من القرآن الكريم وتعلم مبادئ اللغة العربية والعلوم الإسلامية التحق بجامع الزيتونة المعمور حيث تتلمذ على نخبة من علماء عصره نخص بالذكر منهم :
العلامة الشيخ محمد بن يوسف وسماحة الأستاذ الإمام محمد العزيز جعيط وقد أخذ عن شيوخه مختلف العلوم الشرعية من فقه وأصول وتفسير وحديث إلى أن أحرز شهادة التطويع ثم اجتاز على التوالي بنجاح مناظرة التدريس من الطبقة الثانية ومناظرة التدريس من الطبقة الأولى ولبث مدرسا بالجامع الأعظم مدة سنوات عديدة وقد تخرجت عليه جموع غفيرة من الطلبة الذين شغلوا أعلى المناصب في التربية والتعليم والقضاء .
القضاء ومشيخة الإسلام :
عين الشيخ محمد عباس حاكما بالمجلس المختلط ثم تولى خطة قاض حنفي سنة 1945 وفي سنة 1947 اختير ليتولى منصب شيخ الإسلام الحنفي بالمجلس الشرعي وهو أعلى رتبة دينية فكان مثال الرجل الصالح النزيه يسير على خطى السلف فتقلدها بأمانة فكان شيخ إسلام بحق يذب عن الإسلام ومبادئه السمحة .
وبقي في هذا المنصب إلى أن تم حل المجلس الشرعي وتوحيد القضاء إ ثر الإستقلال فقدم استقالته وتفرغ إلى إلقاء دروس الوعظ والإرشاد بجامع الزيتونة المعمور .
رئاسته للمؤتمر القومي الزيتوني الثالث :
ترأس سماحة الشيخ محمد عباس المؤتمر القومي الزيتوني الثالث المنعقد أيام 1 ـ 2 ـ 3 من سنة 1955م بالحي الزيتوني والمخصص لبحث القواعد الأصلية التي يجب أن يقوم على مقتضاها التعليم القومي الزيتوني والخطوط الرئيسية لمناهجه وفي حفل الإفتتاح ألقى سماحته خطابا قيما بين فيه دعوة الإسلام إلى العلم والمعرفة إذ أن أول ما نزل من القرآن الكريم كان يدعو إلى القراءة والكتابة وفي ذلك دليل على المنزلة الخاصة التي يحظى بها العلم في الإسلام ودعا رحمه الله إلى التزود من مختلف العلوم إذ العلم المطلوب في القرءان هو جميع العلوم التي توصل إلى معرفة الله وتقود إلى رغع المستوى العقلي والوجداني عند الإنسان وقد أوكل الله مهمة تبليغ
هذه العلوم إلى العلماء الذين هم ورثة الأنبياء وحملهم مسؤولية ذلك.
وأشار رحمه الله بعد ذلك إلى المراحل التي مر بها التعليم بالقطر التونسي منذ عهد عقبة بن نافع رضي الله تعالى عنه إلى السنوات الأخيرة من العصر الحديث مع بيان الأطوار التي مر بها التعليم بجامع الزيتونة المعمور وفترات الإزدهار التي شهدها خاصة في عهد الدولة الحفصية والدولة الحسينية وختم خطابه بالدعوة إلى إدخال إصلاحات جديدة على برامج التعليم الزيتوني حتى يواكب العصر .
تفرغ الشيخ محمد عباس بعد الإستقلال لإلقاء دروس منتظمة بجامع الزيتونة المعمور خصصها للعامة حتى يتفقهوا في أمور دينهم عملا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم : ” من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين ” وكان درسه مشوقا يشد السامع إليه ويفهمه الخاص والعام لما تميز به من سلاسة في التعبير وقدرة في الإبلاغ فيحاول قدر الإمكان أن يرسخ المعلومة في ذهن السامع بأسلوب ميسر سهل .
ولم تقتصر دروسه في جامع الزيتونة على الرجال فقط بل كان يلقي درسا خاصا بالنساء إيمانا منه بأن طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة ومن أجل ذلك كسب شيخنا رحمه الله حب الناس لتفانيه في خدمة الإسلام والمسلمين .
الإمامة :
تولى إمامة جامع القصبة مدة سنوات طوياة إلى أن أعفي من هذه المهمة سنة 1960، وقد عرف منبر الجامع الحفصي خطبه ومواعظه البليغة وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر ودعوته إلى الله تبارك وتعالى وتوجيه المسلمين وإرشادهم إلى ما يضمن لهم السعادة في الدارين فحظي بمحبة المصلين واحترامهم والتزامهم بأحكام الله التي يدعوهم إليها .
خلقه وصلاحه :لقد اتصف الشيخ محمد عباس بدماثة الأخلاق وبتقوى الله والثبات على المبدإ لا تأخذخ في الله لومة لائم كما تميز بنشاطه الديني المكثف وكثرة خطاه إلى المساجد وتعلقه ببيت الله الحرام فقد زار البقاع المقدسة ست مرات وقد أهلت هذه الصفات الرفيعة والأخلاق الحميدة شيخنا ليكون محبوبا من جميع الناس وعلما من أعلام الإسلام البارزين في بلادنا .
وفاته :
انتقل الشيخ محمد عباس إلى جوار ربه تعالى في السادس من شهر جويلية سنة 1979م ودفن بمقبرة الزلاج وقد أبنه العلامة الشيخ محمد الشاذلي النيفر عميد الكلية الزيتونية للشريعة وأصول الدين آنذاك .نسأل الله سبحانه وتعالى أن يتقبله بالرضى والمغفرة وأن يجزيه عن الإسلام والمسلمين خير الجزاء إنه سميع مجيب.
كانت لي كثير من الجلسات مع شيخنا العالم الجليل محمد عباس رحمه الله وكان عندما يريد ان يعتمر يطلب ممن يريد ان يبلغ سلامه الى رسول الله ان يكتب اسمه على ورقة يوزعها الشيخ على الحاضرين في مجلسه ثم ياخذ الصحيفة وكان يجلس امام الواجهة الشريفة في المدينة المنورة ويرفع الى جناب رسول الله صلى الله عليه وسلم اسماء من بعث بالسلام الى سيد الانام عليه السلام
رحم الله شيخنا الكريم وجمعنا به في اعلى عليين مع سيد الاولين والاخرين سيدنا ومولانا محمد عليه من الله افضل الصلاة والتسليم صالح الابيض
مما يبعث على فخري ان شيخنا الجليل تتلمذ على يدي جدي المؤدب علي رجب الخياري خلال العشرية الاولى من القرن العشرين.وقد شرفنا بزيارته ولقائه بوالدي رحمه الله حرصا منه على ربط الصلة بعائلة مؤدًبه .تغمد الله الجميع برحمته وغفرانه