بقلم: محمد عبده
العدل شيء جميل ومعنى عظيم، ورغم أن الجميع يتمنونه ويطمحون إليه ويرفضون الظلم بكل ألوانه وأشكاله، إلا أنه يقع بين الناس، والجَوْر أصبح سمةً في كثيرٍ من تعاملاتهم.
والعدل هو الإنصاف، وإعطاء المرء ما له وأخذ ما عليه. وقد جاءت آيات كثيرة في القرآن الكريم تأمر بالعدل وتحثُّ عليه، وتدعو إلى التمسك به.
يقول تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى﴾ (النحل: من الآية 90).
ويقول تعالى: ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾ (النساء: من الآية 58).
والعدل اسم من أسماء الله الحسنى وصفة من صفاته سبحانه.
والعدل له قدره ومنزلته عند الله تعالى؛ فأهل العدل والقسط يحبهم ويودهم ﴿وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (الحجرات: من الآية 9)، وإذا تحقق العدل والإنصاف بين الناس شاع الأمان وانتشرت الطمأنينة بينهم؛ فالعدل والإنصاف يوفران الأمن والأمان للضعفاء والفقراء الذين لا ناصرَ لهم إلا الله، وتُشعرهم بالعزة والفخر، وتزيل من نفوسهم الإحساس بالنقص.
والعدل والإنصاف يمنعان الظالم عن ظلمه، ويُحيلان بين الطمَّاع وجشعه، ويحفظان حقوق الناس وأموالهم وأعراضهم فتظل مُصانةً محفوظةً.
لماذا الإنصاف من أخلاق الكبار؟
لأن النفس قد تميل إلى الهوى والظلم، وتحتاج إلى قوةٍ كبيرةٍ لمنعها من ذلك، ولا يقدر على ذلك إلا الكبار أصحاب النفوس الكبيرة الذين ملكوا أنفسهم وتحكَّموا فيها.
ولأن الإنصاف في بعض الأحيان قد يكون مطلوبًا من نفسك التي قد تُضيِّع حقوق الآخرين أو تجور على ممتلكاتهم، وهذا أيضًا ما لا يقدر عليه إلا الكبار الذين يمتلكون الشجاعة والقوة أن ينصفوا الناس من أنفسهم.
ولأن للإنصاف والعدل منزلة عظيمة ودرجة عالية لا يُرتقى إليها بسهولة؛ فالعادل في ظل الله يوم لا ظلَّ إلا ظله، وهذه المنزلة بالتأكيد لا يصل إليها إلا الكبار الذين أقاموا العدل والإنصاف على نفوسهم، وأخذوا أنفسهم بالعزيمة.
إنصاف النفس وظلمها
الكبار أول ما يُعطون من حقوق ويؤدون من أمانات تكون تجاه نفوسهم، والإنصاف من النفس هو المحافظة عليها طائعةً لله، ملتزمةً بأوامره منتهيةً عن نواهيه؛ ذلك أن الكبار يعلمون أن ظلم النفس يورد المهالك ويَحرِمها الجنة ﴿وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (البقرة: من الآية 57).
الكبار يعلمون أن ظلم النفس قد يصل بالإنسان إلى غضب الله ومقته وإنزال العقوبة واستحقاقها والتعجيل بها في الدنيا ﴿فَكُلاً أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ (العنكبوت: 40).
العدل في الغضب والرضا
الكبار تستوي أحكامهم حال الرضا وحال السخط؛ فالرضا لا يدفعهم إلى المجاملة، والسخط لا يدفعهم إلى الانتقام أو الظلم، وتلك هي أعلى مراتب العدل؛ لأنها اختبار حقيقي للنفس وقدرتها على كبح جماحها؛ لأن الإنسان قلَّما يقدر على التحكم في نفسه، خاصةً إذا تمكَّن من خصمه؛ ولهذا كان العدل في ذلك الوقت من المنجيات، فقد أخبر- صلى الله عليه وسلم- أن من المنجيات “العدل في الغضب والرضا” (سلسلة الأحاديث 4/416 الحديث 1802 “حسن”).
الإنصاف حتى مع العدو
البعض يظنون أن العدل لا يُقام إلا مع الصديق دون العدو، ومع القريب دون الغريب، أو المسلم دون غيره، فيستحلوِّن أموال غير المُسلمين أو الجَوْر عليهم أو التعدي على خصوصياتهم بحجة أنهم أهل كفر، بل إن البعض من المتدينين الملتزمين قد يظلم بوقوفه بجوار أخيه على الطريق، ولو كان ظالمًا على الرجل العادي بحجة عدم التدين أو الفجور لدى الطرف الآخر.
أما الكبار فيُقيمون العدل والإنصاف على العدو قبل الصديق، ويعدلون بينهما كما يعدلون حال الرضا والسخط، مسترشدين في ذلك بالتوجيه القرآني ﴿وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ (المائدة من الآية: 8).
النصر والعدل
الكبار على يقين بأن النصر لا يمكن تحقيقه على أرض الواقع ما لم يواكب السعي إليه تحقيق العدل والإنصاف في الصف المسلم، تحقيق العدل فكرًا وسلوكًا، شعارًا وواقعًا؛ فالأمة لن يشفع لها إسلامها في تحقيق المعية الإلهية إذا كان الظلم سائدًا بين أفرادها وفي مؤسساتها.
تعجَّبتُ يومًا من حال الأمة ولماذا تأخر النصر في النزول رغم كل ما يُبذل من جهود؟!، فبادرني مُعلمي بسؤال: ماذا لو كنت مكان بائع الخبز؟!، وقد كان الخبز في ذلك الحين بحق يُمثل أزمةً في الحصول عليه، فلكي تحصل على ما يكفيك ويكفي أسرتك لا أكون مبالغًا إذا قلت إنك قد تقف بالساعات وقد تحصل على ما تريد أو لا تحصل!!.
استكمل معلمي السؤال قائلاً: ماذا لو كنت مكان البائع وجاءك أحد أقاربك وسط هذا الزحام الشديد؟؛ هل ستُبديه على غيره أم ستلتزم بالدور؟.
فوجدت ميلاً واقعًا في نفسي أني سأحاول مجاملته وأن أكفيه مئونة هذا التعب، وقد أدخله إلى داخل المخبز لإراحته من الوقوف في الشمس أو الطابور.
وعلى هذا قِسْ في جميع المؤسسات والهيئات؛ إن المجاملة لا تتوقف، والتعدي على حقوق الغير لا ينتهي.
لهذا فالكبار هم الذين يُقيمون الحق والعدل على أقاربهم وغير أقاربهم، وعلى هذه الحقيقة يؤكد ابن تيمية- رحمه الله-: “إن الله يُقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة، ولا يُقيم الدولة الظالمة وإن كانت مؤمنةً” (1).
خوف الكبار
الكبار لا يترددون في تطبيق العدل وإقامة الحق؛ لأن رغبتهم في نيل ثواب إقامة العدل يوازي خوفهم من الوقوع في عقاب الظالمين أو الاصطدام بدعوة المظلومين؛ فمَن له طاقة حتى يتجرَّأ على معاداة الله بظلمه للناس “اتَّقُوا دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ؛ فَإِنَّهَا تُحْمَلُ عَلَى الْغَمَامِ، يَقُولُ اللهُ جَلَّ جَلالُهُ: وَعِزَّتِي وَجَلالِي لأَنْصُرَنَّكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ” (2).
الكبار يخافون التحذير الإلهي ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ﴾ (إبراهيم: 42).
بيد أن التحذير من عاقبة الظلم ومصير الظالمين والانتقام الإلهي منهم كان حائلاً وسدًّا منيعًا يحول بين الكبار وظلمهم للآخرين، وكيف لا وقد جاءت الأحاديث تؤكد على ذلك؟!.
يقول- صلى الله عليه وسلم-: “إن الله لُيملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفلته” (3)، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ﴾ (هود: 102).
الواسطة
الكبار لا يعترفون بالواسطة إذا كانت ستُجير على حقوق الآخرين وتقضي على أحلام الطامحين الذين يعتمدون على أنفسهم وقدراتهم لا نفوذهم وسلطانهم.. الواسطة التي مَنعت البعض من دخول الكليات التي يرغبون بها، والتي حرمت الأكْفاء من تولي الوظائف التي يستحقونها.. الواسطة التي استشرت في المجتمعات وباتت تؤرقه وتنشر الضغينة، وتبثُّ الكراهية في النفوس.
جاء أسامة بن زيد يستشفع في المرأة المخزومية التي سرقت وعزم رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على قطع يدها، فقال له:”أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ”، ثُمَّ قَامَ فَاخْتَطَبَ ثُمَّ قَالَ: “إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ وَإِذَا سَرَقَ فِيهِمْ الضَّعِيفُ أَقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ.. وَايْمُ اللهِ.. لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا” (4).
ضياع الأمانة
الكبار يحفظون الأمانة ويُراعون الله فيما ائتمنوا عليه، ومن صور ذلك أنهم يضعون الرجل المناسب في المكان المناسب؛ فمن أكبر الظلم أن يُسند إلى الضعيف إمارة، أو غير الكفء مسئولية؛ فأحيانًا ما يُولَّى الرجل لكونه أحد أقارب من بيده القرار وهو غير مؤهل، فيظلم الناس بجهله، ويضيِّع حقوقهم بعدم كفاءته، أما الكبار فهم يصارحون الضعفاء ولا يُجاملونهم خوفًا عليهم من المساءلة، وحفظًا للأمانة من الضياع.
يَقُولُ أَبَو ذَرٍّ: نَاجَيْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةً إِلَى الصُّبْحِ فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ.. أَمِّرْنِي. فَقَالَ: “إِنَّهَا أَمَانَةٌ وَخِزْيٌ وَنَدَامَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلا مَنْ أَخَذَهَا بِحَقِّهَا وَأَدَّى الَّذِي عَلَيْهِ فِيهَا” (5).
من علامات الساعة
إنَّ من علامات الساعة أن يُظلم الناس وتضيع الأمانة بينهم بإسناد الولاية لمَن لا قدرةَ له عليها، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَجْلِسٍ يُحَدِّثُ الْقَوْمَ جَاءَهُ أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: مَتَى السَّاعَةُ؟. فَمَضَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُحَدِّثُ فَقَالَ: بَعْضُ الْقَوْمِ سَمِعَ مَا قَالَ فَكَرِهَ مَا قَالَ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ بَلْ لَمْ يَسْمَعْ حَتَّى إِذَا قَضَى حَدِيثَهُ قَالَ: “أَيْنَ أُرَاهُ السَّائِلُ عَنْ السَّاعَةِ؟”. قَالَ: هَا أَنَا يَا رَسُولَ اللهِ قَالَ: “فَإِذَا ضُيِّعَتْ الأَمَانَةُ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ”. قَالَ: كَيْفَ إِضَاعَتُهَا؟. قَالَ: “إِذَا وُسِّدَ الأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ” (6).
العدل مع الأبناء
الكبار يعدلون بين أبنائهم ولا يُفرِّقون بينهم في العطايا والهبات؛ حتى لا يكره أحدهم الآخر، وحتى لا توقد بينهم نار العداوة والبغضاء كما حدث بين يوسف وإخوته.
جاء في الحديث عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: أَعْطَانِي أَبِي عَطِيَّةً فَقَالَتْ عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. فَأَتَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي أَعْطَيْتُ ابْنِي مِنْ عَمْرَةَ بِنْتِ رَوَاحَةَ عَطِيَّةً، فَأَمَرَتْنِي أَنْ أُشْهِدَكَ يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: “أَعْطَيْتَ سَائِرَ وَلَدِكَ مِثْلَ هَذَا؟” قَالَ: لا. قَالَ: “فَاتَّقُوا اللهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلادِكُمْ” قَالَ: فَرَجَعَ فَرَدَّ عَطِيَّتَهُ” (7).
العدل في الميزان
الكبار يعدلون في ميزانهم ويدققون المكيال ولا يبخسون الناس أشياءهم، إن الناس قد لا يُلقون بالاً عندما يُطففون ميزانهم ويُنقصون حقوق الناس، أما الكبار فلا يأخذون أكثر من حقهم إذا اشتروا، ولا يُنقصون الناس إذا باعوا لهم؛ فهم يسمعون قول ربهم ويُرددونه﴿وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ﴾ (المطففين) وقوله تعالى ﴿وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾ (الرحمن: 9).
الإنصاف في الحكم على الآخرين
إن من أشد الظلم الذي يحدث أحيانًا بين الناس هو عدم إنصاف بعضهم البعض عند الحكم؛ فالمتنازعان قلَّما يذكر أحدهما محاسن خصمه، بل تكون المعائب متصدرة لأحاديث كلا الطرفين.
إن تدخُّل الهوى والميل القلبي أثناء الحكم على الناس أو تقييمهم، أو إبداء الآراء حولهم لَمِن أشد الأشياء التي تُفسد الحكم وتخرجه عن نزاهته وحيادته.
الكبار ينطلقون في حكمهم على الناس من فهْم راقٍ يعكس نضوجهم الفكري والفقهي؛ فالكبار متيقنون أنه قلَّما يسلم إنسان من خطأٍ صغيرٍ كان أم كبيرًا، ومن هذا المنطلق فالخطأ لا يمحو الإحسان السابق أو المعروف الذي مضى.
فيهم وفيهم
الكبار لا يصدرون أحكامًا عامةً على الآخرين أو حتى على شخصٍ واحد بالكلية؛ فكل مجموعةٍ من الأفراد أو أي تجمِّعٍ إنساني فيه وفيه؛ فيه الحسن وفيه القبيح، فيه الظالم وفيه العادل.
لذا فالكبار ينأون عن التعميم في أحكامهم؛ خشيةَ أن يُلحقوا النقيصة بالأبرياء الشرفاء، وعلى هذا كان القرآن يُربِّي أفراد هذه الأمة.
انظر معي أخي القارئ إلى قوله تعالى في معرض حديثه عن أهل الكتاب، وهم قوم على غير الملة، ويمكننا وصفهم بالأعداء.. انظر معي كيف وصفهم القرآن: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ (آل عمران: 75).
إن القرآن لم ينفِ أن منهم الأوفياء الأمناء كما أن منهم المماطلون، وهكذا يجب أن نكون منصفين في حكمنا على الآخرين، ولا يحملنا الاختلاف معهم أو حتى عداوتهم أن ننقصهم حقَّهم أو ننعتهم بما هم منه براء، فإذا كان هذا- أخي القارئ- مع الأعداء والمخالفين لنا في العقيدة، فماذا عن حكمنا على مَن اختلف معنا في الرأي أو الفكر من بني جلدتنا؟!.
إنه لا بد من الإنصاف وألا تُعمينا أنفسنا عن العدل وقول الحق ﴿وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ (المائدة: من الآية 8).
انصر أخاك
للكبار فهْم عميق في كيفية تحقيق النصر لإخوانهم على الطريق؛ فهم أبدًا ينصرونهم في الحق والباطل؛ ينصرونهم إذا كانوا ظالمين كما ينصرونهم إذا كانوا مظلومين، ولكن كيف؟.
وعلى هذا يُجيب المصطفى- صلى الله عليه وسلم- ويُربِّي الكبار كيف ينصرون أخاهم ظالمًا “انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا”. فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ.. أَنْصُرُهُ إِذَا كَانَ مَظْلُومًا، أَفَرَأَيْتَ إِذَا كَانَ ظَالِمًا كَيْفَ أَنْصُرُهُ؟. قَالَ: “تَحْجُزُهُ أَوْ تَمْنَعُهُ مِنْ الظُّلْمِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ” (8).
هكذا تكون النصرة أن تأخذ على يد أخيك إذا ظلم، فتمنعه من ظلمه حتى لا يقع في الحرام، وهو فهْم راقٍ يزرع في النفس الإنصاف، ويُقيم على الأرض العدل.
السلام والعدل
السلام لا يمكن تحقيقه إلا تحت مظلة العدل والإنصاف، ونهوض الأمم وتقدُّمها مرهون بتحقيقهما؛ فمتى أصبح العدل قائمًا بين الناس والإنصاف بات سمةً من سماتهم ترقَّب النصر في أي وقت كان.
وأعظم العدل درجةً ومكانةً أن تنصف الناس من نفسك، وأن تكون معهم عليها حتى إن لم يكونوا مسلمين؛ فالمجتمع الذي يتحقق فيه العدل والإنصاف هو المجتمع القادر على تحقيق التقدم والازدهار؛ ذلك أن العدل والإنصاف متى ساد في مجتمع ستتكافأ فيه الفرص، ويأخذ كل ذي حقٍّ حقه، فتنتهي الأحقاد ويزول الحسد ويُقضَى فيه على الضغائن.
ومتى تحقق العدل والإنصاف بين الدول ساد الهدوء وتحقَّق السلام وحدث الاستقرار، أما عندما تستطيل الأمم بعضها على بعض، وتستحلُّ لنفسها خيراتِ البلاد المجاورة فتحتلها وتستولي على مقدراتها، وتعبث في مقدساتها دون أن تجد رادعًا عادلاً يحكم بالحق وبه يعدل، أو إذا لم يجد المظلوم من يُنصفه ويُساعده على استرداد حقه المغصوب وأرضه المسلوبة، فإن الفوضى ستكون هي الحل، ودوافع الانتقام ستزداد وحدوث الفُرْقة والاختلاف.
ففي غياب العدل سيحاول المظلوم الانتقام والتشفي، ليس فقط من ظالمه، ولكن أيضًا من كل مَن سانده.
منزلة عظيمة
الكبار يطمحون دائمًا أن يكونوا في الصدارة والمقدمة؛ فقد جعلوا الجنة هدفًا لهم؛ لذا فهم لا يألون جهدًا في تحقيقه والاقتراب منه، ﴿اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾ (المائدة: من الآية 8).
يقول الأستاذ سيد قطب- رحمه الله-: “ومن الميثاق الذي واثق الله به الأمة المسلمة القوامة على البشرية بالعدل؛ العدل المطلق الذي لا يميل ميزانه مع المودة والشنآن، ولا يتأثَّر بالقرابة أو المصلحة أو الهوى في حالٍ من الأحوال؛ العدل المنبثق من القيام لله وحده بمنجاة من سائر المؤثرات، والشعور برقابة الله وعلمه بخفايا الصدور..”.
والكبار يسمعون حديث رسول الله- صلى الله عليه وسلم- الذي وضح فيه منزلة المقسطين العادلين المنصفين فتقوى عزائمهم، وتُشحذ هممهم، فلا تهدأ نفوسهم ولا يرتاح بالهم؛ حتى يكون لهم حظ من تطبيق طرف منه إن لم يكن كله.
* “إِنَّ الْمُقْسِطِينَ فِي الدُّنْيَا عَلَى مَنَابِرَ مِنْ لُؤْلُؤٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بَيْنَ يَدَيْ الرَّحْمَنِ بِمَا أَقْسَطُوا فِي الدُّنْيَا” (9).
* “إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ- سبحانه وتعالى وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ- الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا” (10).
وهذان الحديثان يبينان الفضل الكبير والمنزلة العظيمة لكل عادل منصف في حكمه.
حقًّا.. إنها أخلاق الكبار
حُقَّ لنا- نحن المسلمين- أن نرفع رءوسنا فخرًا وشرفًا بهذه الشريعة العادلة المنصفة، ولكن لا تعجب؛ تلك هي الأخلاق التي يتربَّى عليها الكبار؛ شريعة لا تُفرِّق بين مسلم وغير مسلم، شريعة تزن الناس بميزان واحد.. إنه ميزان الحق والعدل، لقد نزل قرآنًا يُتلى من فوق سبع سماوات ليحكم في قضيةٍ كاد يهوديٌّ أن يُؤخذ فيها ظلمًا وعدوانًا.. تخيل أن القرآن نزل ليبرِّئ اليهودي ويُدين المسلم الأنصاري.
اليهود الذين لم يألوا جهدًا في إلحاق الضرر بالمسلمين، والأنصار الذين آووا رسول الله ونصروه، ولكن لا تعجب أخي القارئ؛ إنه الميزان الذي يتساوى فيه الجميع؛ الشريف والوضيع، الصغير والكبير، المرأة والرجل، الغني والفقير.
دعنا نسرد لك القصة كما جاءت في تفسير صاحب الظلال الشهيد سيد قطب رحمه الله.
يقول تعالى: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللهُ وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرْ اللهَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلا تُجَادِلْ عَنْ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنْ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنْ اللهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنْ الْقَوْلِ وَكَانَ اللهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَاأَنْتُمْ هَؤُلاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109) وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرْ اللهَ يَجِدْ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدْ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)﴾ (النساء).
هذه الآيات تحكي قصةً لا تعرف لها الأرض نظيرًا ولا تعرف لها البشرية شبيهًا، وتشهد- وحدها- بأن هذا القرآن لا بد أن يكون من عند الله؛ لأن البشر- مهما ارتفع تصورهم، ومهما صفت أرواحهم، ومهما استقامت طبائعهم- لا يمكن أن يرتفعوا بأنفسهم إلى هذا المستوى الذي تشير إليه هذه الآيات إلا بوحيٍ من الله.
هذا المستوى الذي يرسم خطًّا على الأفق لم تصعد إليه البشرية إلا في ظل هذا المنهج، ولا تملك الصعود إليه أبدًا إلا في ظل هذا المنهج كذلك.
إنه في الوقت الذي كان اليهود في المدينة يطلقون كل سهامهم المسمومة التي تحويها جعبتهم اللئيمة على الإسلام والمسلمين، والتي حكت هذه السورة وسورة البقرة وسورة آل عمران جانبًا منها ومن فعلها في الصف المسلم.
في الوقت الذي كانوا فيه ينشرون الأكاذيب، ويؤلِّبون المشركين، ويشجِّعون المنافقين، ويرسمون لهم الطريق، ويطلقون الإشاعات، ويضللون العقول، ويطعنون في القيادة النبوية، ويشككون في الوحي والرسالة، ويحاولون تفسيخ المجتمع المسلم من الداخل، في الوقت الذي يؤلِّبون عليه خصومَه ليهاجموه من الخارج.
والإسلام ناشئ في المدينة ورواسب الجاهلية ما يزال لها آثارها في النفوس، ووشائج القربى والمصلحة بين بعض المسلمين وبعض المشركين والمنافقين واليهود أنفسهم تمثِّل خطرًا حقيقيًّا على تماسك الصف المسلم وتناسقه.
في هذا الوقت الحرج، الخَطِر، الشديد الخطورة، كانت هذه الآيات كلها تتنزل على رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وعلى الجماعة المسلمة لتُنصِفَ رجلاً يهوديًّا اتُّهم ظلمًا بسرقة؛ ولتدين الذين تآمروا على اتهامه، وهم بيت من الأنصار في المدينة.
والأنصار يومئذ هم عُدَّة الرسول- صلى الله عليه وسلم- وجنده في مقاومة هذا الكيد الناصب من حوله ومن حول الرسالة والدين والعقيدة الجديدة.
أي مستوًى هذا من النظافة والعدالة والتسامي؟! ثم أي كلام يمكن أن يرتفع ليصف هذا المستوى؟! وكل كلام وكل تعليق وكل تعقيب يتهاوى دون هذه القمة السامقة التي لا يبلغها البشر وحدهم، بل لا يعرفها البشر وحدهم إلا أن يقادوا بمنهج الله إلى هذا الأفق العلوي الكريم الوضيء؟!.
والقصة التي رُويت من عدة مصادر في سبب نزول هذه الآيات أن نفرًا من الأنصار- قتادة بن النعمان وعمه رفاعة- غَزَوَا مع رسول الله- صلى الله عليه وسلم- في بعض غزواته.
فسُرقت درعٌ لأحدهم (رفاعة)، فحامت الشبهة حول رجل من الأنصار من أهل بيت يقال لهم “بنو أبيرق”، فأتى صاحبُ الدرع رسولَ الله- صلى الله عليه وسلم- فقال: إن طعمة بن أبيرق سرق درعي. (وفي رواية: إنه بشير بن أبيرق) (11).
مقاضاة في محكمة الكبار
وتأكيدًا على هذا المعنى العظيم الذي تربَّى عليه الصحابة الأجلاء، واستنادًا إلى ميزان العدل الذي يحكمون به والذي لا يُمليه حب أو بغض، ولا يتأثر بعصبية أو قرابة، ولا تؤرجحه الأهواء والمصالح الشخصية، ولا يتذبذب أو يهتز ويميل إلى جانب رفقاء الدرب وشركاء العقيدة على حساب الآخرين من المخالفين.
يُحكى أن عليًّا بن أبي طالب- رضي الله عنه- افتقد درعًا كانت عزيزةً عنده فوجدها عند يهودي فقاضاه إلى قاضيه شريح، وعليٌّ يومئذٍ هو الخليفة أمير المؤمنين، فسأل شريح أمير المؤمنين عن قضيته فقال: الدرع درعي، ولم أَبِع ولم أهب، فسأل شريح اليهودي: ما تقول فيما يقول أمير المؤمنين؟، فرد هذا متلاعبًا: الدرع درعي، وما أمير المؤمنين عندي بكاذب- يريد أن يمسك العصا من منتصفها- فيلتفت شريح إلى أمير المؤمنين: هل من بينة؟!.
إنه هكذا العدل: البينة على مَن ادعى، وهذه دعوى إلى القضاء لا بد فيها من البينة وإن تكن مرفوعةً من علي رضي الله عنه، الذي لم يُعرف عنه كذب قط، والذي لا يعقل أن يكذب على الله من أجل درع، وهو المستعلي على كل متاع الأرض، ولكن جواب علي رضي الله عنه كان أروع، قال: صدق شريح.. ما لي بينة.
هكذا في بساطة المؤمن المتجرد: “ما لي بينة”.. لم يغضب، لم يقل للقاضي: كيف تطلب البينة وأنا صاحب رسول الله؟!.
وكان موقف شريح موقفًا رائعًا كموقف أمير المؤمنين.. لقد حكم بالدرع لليهودي لعدم وجود البينة عند المدعي أمير المؤمنين، وأخذ الرجل الدرع ومضى وهو لا يكاد يصدق نفسه، ثم عاد بعد خطوات ليقول: يا الله.. أمير المؤمنين يقاضيني إلى قاضيه فيقضي عليه؟!. إن هذه أخلاق أنبياء.. أشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله. الدرع درعك يا أمير المؤمنين، خرجتَ من بعيرك الأورق فاتبعتها فأخذتها. فيقول علي رضي الله عنه: أمَّا إذا أسلمت فهي لك (12)!!.
قصة أخرى
ابتاع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- فرسًا من رجل من الأعراب ودفع له ثمنه ثم ركب فرسه ومضى به، لكنه ما كاد يبتعد بالفرس طويلاً حتى ظهر فيه عطب عاقه عن مواصلة الجري، فانثنى به عائدًا من حيث انطلق، وقال للرجل: خذ فرسك؛ فإنه معطوب، فقال الرجل: لا آخذه يا أمير المؤمنين وقد بعته منك سليمًا صحيحًا. فقال عمر: اجعل بيني وبينك حَكَمًا، فقال الرجل: يحكم بيننا شريح الكندي، فقال عمر: رضيت.
فاحتكم عمر أمير المؤمنين وصاحب الفرس إلى شريح، فلما سمع شريح مقالة الأعرابي التفت إلى عمر وقال: هل أخذت الفرس سليمًا يا أمير المؤمنين؟. فقال عمر: نعم. فقال شريح: احتفظ بما اشتريتَ يا أمير المؤمنين أو رُد كما أخذت.
ماذا كان موقف عمر عند ذلك؟؛ هل زمجر في وجهه وقال: كيف تحكم على أمير المؤمنين أو شيئًا من هذا القبيل؟!.. كلا، ولكن قال: وهل القضاء إلا هكذا؛ قول فصل، وحكم عدل؟!” (13).
الإنصاف والعمل الدعوي
ذكرنا فيما سبق أن الإنصاف لا بد أن يكون قائمًا داخل أي حركة إسلامية تسعى لإقامة شرع الله وتطبيقه وإقامته بين الناس؛ فلا للأحكام العامة التي تصدر ضد أفرادها، ولا للإقصاء والتهميش لمجرد الاختلاف في الرأي؛ ذلك أن- كما أسلفنا- أي إنسان فيه وفيه؛ فيه جوانب الخير والعطاء والإيجابية وفيه بعض الأنَّات والسقطات والسلبية، والأولى لا تمحو الثانية بالكلية، كما أن الثانية لا تُلغي الأولى بالكلية.
هذه الاختلافات ستتحوَّل إلى أزمة ثقة بين القيادة والجنود، وبين الجنود والقيادة، ستكون أزمةً متبادلةً؛ فالأخطاء لا تُنسي الكبار حسنات إخوانهم على الطريق أبدًا، ولا يفعلون مثلما يفعل أصحاب النفوس الصغيرة عندما تعميهم سقطات إخوانهم عن إنجازاتهم وعطاءاتهم.
ومما يلحق بهذا الباب: التجاوز عن أخطاء البعض في حق الآخرين تحت مسمَّى الحفاظ على هيبتهم ومكانتهم، أو حتى لا تهتز صورتهم أمام الآخرين، خاصةً إذا كان هؤلاء من المسئولين القائمين على رأس أي عمل، والاكتفاء بتوجيه اللوم لهم في الغرف الجانبية.
إن هذا اللوم وبهذا الأسلوب لا يُقام به العدل أبدًا، ولا يتحقق من خلاله الإنصاف إطلاقًا، ألا فليعلم الجميع أن المعالجة بهذه الطريقة لا تحفظ لمسئولٍ هيبته، ولا تصون لشخصٍ مكانته؛ فالجميع يجب أن يقفوا تحت مظلة العدل والإنصاف.
ورحم الله الخليفة الراشد الصديق أبي بكر رضي الله عنه حين قال “والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له حقه من القوي”.
————
1- مجموع فتاوى ابن تيمية 28/146.
2- المعجم الكبير للطبراني ح 3630.
3- رواه البخاري ح (4318).
4- رواه البخاري ح (3216).
5- مسند أحمد ح (20536).
6- صحيح البخاري ح (57).
7- صحيح البخاري (2398).
8- صحيح البخاري ح (6438).
9- مسند الإمام أحمد ح (6197).
10- صحيح مسلم ح (3406).
11- تفسير في ظلال القرآن للشهيد سيد قطب.
12- رجال أنزل الله فيهم قرآنًا، ص 39 بتصرف.
13- صور من حياة التابعين، ص 34 بتصرف.