بقلم | بشير العبيدي | باريس | 5 صفر 1434 | 18-12-2012
رئيس المرصد الأوروبي لتعليم اللغة العربية
السلام عليكم .. صباح الخير …. أهلا .. مرحبا .. تتكلم / ين عربي ؟؟؟ نعم .. آه .. قليلا … “شُوَيّة” كيف حالك؟ .. من أي من بلد ؟ أنت؟ .. جميل .. رائع .. مع السلامة .. تحياتي ….
هنا باريس .. هنا اليونسكو .. المنظمة العالمية للتربية والثقافة والعلوم .. هنا والآن، في رقعة صغيرة لا تتعدى مئات الأذرع المربعة من أرض باريس .. نتكلم اللسان العربي .. لا بل نتنفس الهواء العربي أيضا، ونأكل الأكل العربي ونشرب الشراب العربي ونحتفل في المحفل العربي .. ونحلم بالحلم العربي… نعم، الرقعة الصغيرة هذه التي في أروقة اليونسكو تنوب عن الأرض التي “بتتكلم عربي” .. تلك الأرض التي عناها سيد مكاوي صاحب النظارتين الكبيرتين كبر بصيرته الشامخة .. سمع سيد مكاوي الأرض تتكلم بالعربي وغنى بما سمع.. ولكن العالم سمع أيضا أن السماء تتكلم باللسان العربي المبين .. آه كم أنا أفرح بلساني العربي … إذ يحتفل به العالم …
نعم جميل كل ذلك .. ولكن، ما الذي يسعدنا أن نكون عربا أو ناطقين بالعربية في يومنا هذا، اليوم العالمي للغتنا، بينما العالم الذي “ينطق بالعربي”، أو هكذا نحسبه، تكاد تُنطق أهواله الحجر؟ أليس عالمنا العربي تتقاذفه الأهواء والنوازع والثورات والمصالح وتتداعى عليه أيدي الأكلة من كل ناحية من القصعة؟ أليس شبابه العشريني الذي يتجاوز عدده المائتين وخمسين مليونا يعيش التيه والعطالة والتبرّم والقلق وانسداد الآفاق … في عالم يوحي بالتغيّر والتبدّل والتقلّب والتشكّل؟ فلماذا نحتفل ونفرح وأي معنى لاحتفائنا بلغتنا وهي مغيبة عن ألستنا، حبيسة مشاعرنا وشعائرنا وسجينة طقوسنا ونصوصنا؟ أي معنى أن نحب لغة لا نتكلمها، وأي عنت أن نتكلم لغة لا نحبها؟ ماذا دهانا أن تنكسر خواطرنا كلما تناولنا موضوع لغتنا الفصيحة، تلك اللغة التي صارت على جباهنا بمثابة الفضيحة، بكل المقاييس ؟
رغم مرارة الأسئلة وحيرة الأفئدة، فإنه من المهم أن نذكّر العالم في احتفاليتنا بعربيتنا في يومها العالمي ذلك المثل الإفريقي الشهير : “إن كنت لا تدري إلى أين تسير فتذكر من أين أتيت” … لغتنا العربية، في نهاية التحليل، هي سرّ مكتوم في كلمة .. ورثناها من أجدادنا … والكلمة هي تلك النبتة التي تلقح فتربو، وتمتد فتنمو، وتثمر فتدنو، وتطعم فتحنو، وتيبس فتجثو، وتختمر فتغفو، قبل أن تهتز من جديد وتربو .. تماما كطائر الفينيق الأسطوري الذي يولد من عظامه النخرة مولود جديد يخلفه من أجل ربط المتقدم بالمتأخر في سلسلة من التجدد السرمدي … سنة الله في خلقه ولن تجد لسنة الله تبديلا .. لقد دفعتنا الكلمة العربية دفعا فصرنا في واجهة الحضارات البشرية ردحا من الزمن. ثم ضمرت الكلمة بضمور الإنسان المتكلّم بها فصرنا في وضع لا يحسدنا عليه الحساد. ثم بكلمة … “الشعب يريد” صرنا من جديد في واجهة عالم جديد فقد المعاني وانحطت أخلاقه حتى وصلت لقعر الجراب… وها نحن في عيد اللغة العربية في باريس نجتمع بالمئات … يحضر بيننا، في رقتنا العربية المؤقتة، المواطنون المجهولون، والسفراء والوزراء والوجهاء المعروفون، والمثقفون والمتعلمون والمتابعون المهتمّون، والأجانب المنصفون … ينقل أخبارنا الإعلام والمعلّقون… فأي رسالة نوجهها إلى العالم في هذا اليوم المشهود؟؟؟
صحيح أن المبادرات التي تم طرحها في يوم عربيتنا المشهود هي مبادرات طيبة كريمة تستأهل التنويه والتشجيع.. صحيح أن المملكتين العربيتين السعودية والمغربية قد بذلتا جهدا يقدره المنصف ويحترمه الخصم من أجل إقامة هذا اليوم. صحيح أن المتدخلين قالوا كلاما عظيما في حب اللغة العربية وتعشقّوها كما تستحق. على أننا الآن وهنا، من المهم أن نربط بين المشاعر والمشاعل، بين الطاقة والمشاعل.
لنصارح أنفسنا : إن اللغة العربية لا تنتظر منا قصائد الحبّ وقصص العشق فحسب، بل كذلك تنتظر منا عربيتنا العظيمة المنجزات الواقعية التي يمكن لكل منا أن يلمسها في حياته.
تعلمينا العربي ينتظر ثورة عنوانها “الشعب يريد إصلاح التعليم”، على أن تكون اللغة العربية هي القرار النهائي لقطع دابر ستين سنة من التردد والتذبذب والتثعبن… لا يمكننا إبداع أي شيء بلغات الآخرين ولا بعاميات تهجنت وتكلست وتقصلت وتملصت من كل قاعدة وقياس.
إعلامنا العربي ينخره الفساد ولم يتهيأ أبدا للحريات الجديدة، والمحتويات التتفيهية بلغات مشوَّهة مشوِّهة قد جعلت المشاهد يختنق بدخان اللامعنى والتضارب والتناقض والتوظيف والتخريب الممنهج للعقول تحت مسميات الحرية الإعلامية. لا يمكننا اليوم أن نواصل في طريق مسدود، وإنه من المؤسف أن القنوات ووسائل الإعلام الأجنبية التي تتكلم بالعربية أشد حرصا على اللغة القياسية الصحيحة من كثير من القنوات التي تسمي نفسها عربية …
أما البيئة العربية في الشوارع والواجهات والإدارات فهي حالة من الفوضى التي تنبئ بانتحار ثقافي جماعي. تسرب العاميات في كل مكان وخلطها بلغات أجنبية دون موجب والتعامل في الإدارات الرسمية بلغات المستعمرين السابقين بعد فوات ستين سنة على تاريخ خروج جحافل القوى الاستعمارية لا يمكن أبدا أن يتواصل.
المواقع الشبكية الافتراصية وشبكة المعلومات ولغة الشباب المستخدمة في الشابكة وهي “لغة” تركت العربية الموروثة وصارت تكتب بكلام مبتذل من رديء السقط بأحرف لاتينية وأرقام تتعكز عليها، على مرأى ومسمع من المثقفين والساسة والمتعلمين مما يُخبر بِخور يجدرُ أن نوقف دماره جماعيا، يستوى في مسؤولية ذلك حاكمنا ومحكومنا، خاصّنا وعامّنا… فليست اللغة مسألة شكلية، إنها الحياة … وإنك إذا سافرت لا تزور بلدا لكنك تزور لغة … فكيف نستقبل ضيوفنا في بيت يتكلم أهله لغة السّفاهة والسّفالة؟ لقد ضعف اللسان، فضعف التفكير وانحط التدبير، فمتى نوقف دواليب السقوط اللغوي الذي هو في حقيقته الوجه الأقبح للسقوط الحضاري؟
حين قال الأستاذ على أزارشاب من إيران، أثناء مداخلته في اليونسكو بمناسبة الاحتفالية المذكورة، وبلسان عربي فصيح : “اعطني أمّة حية، أعطيكم لغة عربية حيّة”، هزني ذلك الكلام من رجل إيراني يتقن لغتي أفضل مني، وتذكرت حينها كلمة حبلى بالمعاني لصديقي الحلبي د. ياسر المحيو، مسؤول قسم الاتصال بالمرصد الأوروبي لتعليم اللغة العربية حين قال : “إن كانت اللغة أمًّا فكم نحن عاقون ! وإن كانت اللغة وطناً فكم نحن ضياع ! وإن كانت اللغة خبزاً فكم نحن جياع ! وإن كانت اللغة علمًا ومعرفة فكم نحن جاهلون ! وإن كانت اللغة قلبًا نابضًا .. فهل نحن على قيد الحياة ؟؟
نعم يا عزيزي ياسر … نحن على قيد الحياة، لكن الحياة هي التي ليست في قيدنا. نحن أمّة عربية ننتمي لملّة إسلامية، علّمنا العالم في عصرنا هذا فنّ الموت .. وإنه والله آن الأوان أن نعلّم الدنيا فنّ الحياة. شرط أن نحفّ الحياة بالثقافة والمعرفة والعلم، وشرط أن نكسر حصار التفاهة التي تحيط بنا من كل جانب. تماماً كما كسّرت أمي حصارَ الجهل، فأرضعتني حبّ اللغة العربية وخدمتها … كانت أمي التي اجتازت عتبة الثمانين ـ حفظها الله ـ أميّة، غير أنّها كانت كلما بعثتني إلى السّماك أشترى لها السمك ـ في بلدي تونس ـ لا تترك أبدا أن تقول لي بلهجتها الجزائرية الأصيلة … يا بشير، لا تقبل أن يلفّ لك السمّاك السّمك في ورق صحيفة مكتوبة بالعربية … إنها لغة شريفة ينبغي أن نجلها عن قذر السّمك… نعم أمّاه … سمعًا وطاعة وكرامة .. العربية لغة شريفة .. وأنا سأنفذ إرادتك … لن أترك أي قذر يلطخ شرف اللغة العربية التي نطق بها الوحي والفن والجمال والعلم والإبداع. شرّفك الله يا أمّي وشرّف كل أمّ عربية وأب عربيّ أدخلا أولادهما لمملكة الشرف .. من بوابة اللسان العربي المبين ..
ن، والقلم وما يسطرون.
بقلم | بشير العبيدي | باريس | 5 صفر 1434 | 18-12-2012
رئيس المرصد الأوروبي لتعليم اللغة العربية
marsad.info@gmail.com
يمكنكم الاطلاع على المقالة في موقع المرصد الأوروبي لتعليم اللغة العربية
http://www.europarabic.org/news/947