أم عبد الرحمن محمد يوسف

 لقد امتلأ بيت النبي صلى الله عليه وسلم مودة ورحمة وحبًا وحنانًا، ولما لا وقد كانت أصل الرسالة التي بعث بها النبي صلى الله عليه وسلم هي الرحمة، فقال الله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} [الأنبياء: ١٠٧]، وهو القائل صلى الله عليه وسلم: (الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء) [صححه الألباني في صحيح سنن الترمذي، (1924)].

فعن عائشة رضي الله عنها قالت: لما كانت ليلتي التي كان النبي صلى الله عليه وسلم فيها عندي، انقلب فوضع رداءه، وخلع نعليه، فوضعهما عند رجليه وبسط طرف إزاره على فراشيه، فاضطجع. فلم يلبث إلا ريثما ظنّ أن قد رقدتُ، فأخذ رداءه رويدًا، وانتعل رويدًا، وفتح الباب فخرج ثم أجافه رويدًا.

فجعلت درعي في رأسي واختمرتُ تقنعت إزاري (أي لبسته)، حتى جاء البقيع فقام، فأطال القيام، ثم رفع يديه ثلاث مراتٍ، ثم انحرف فانحرفت، فأسرع فأسرعت، فهرول فهرولتُ، فأحضر فأحضرتُ (أي: فعدا فعدوت)، فسبقتُه فدخلت، فليس إلا أن اضطجعتُ فدخل، فقال: مالكِ؟ يا عائشُ حشيا رابيةً.

قالت: قلت: لا شيء، قال: لتخبريني أو ليخبرنّي اللطيف الخبر. قالت: قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمّي، فأخبرته. قال: فأنتِ السوادُ الذي رأيتُ أمامي؟ قلت: نعم، فلَهَدني في صدري لهدةً أوجعتني. ثم قال: أظننتِ أن يحيف الله عليكِ ورسولهُ؟ قالت: مهما يكتمِ الناس يعلمه الله.

ثم قال: (فإن جبريل أتاني حين رأيتِ، فناداني، فأخفاه منكِ (أي: الصوت)، فأجبتُهُ، فأخفيته منكِ. ولم يكن يدخلُ عليك وقد وضعتِ ثيابكِ، وظننت أن قد رقدتِ، فكرهتُ أو أوقظك ِ وخشيتُ أن تستوحشي. فقال: إن ربك يأمركَ أن تأتيَ أهل البقيع فتستغفر لهم). قالت: قلت: كيف أقول لهم؟ يا رسول الله. قال: (قولي: السلام على أهل الدِّيار من المؤمنين والمسلمين، ويرحم الله المستقدمين منا والمستأخرين، وإنا إن شاء الله بكم للاحقون) [رواه البخاري].

وفي هذا الحديث تظهر العديد من آداب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخلاقه، ولعل الشاهد الذي نريده هنا، هو رحمته صلى الله عليه وسلم بزوجته عائشة رضي الله عنها وأرضاها، حيث جعل ملابسه على هيئة النائم في الفراش حتى لا يشق على عائشة انصرافُه أو يوقظها من نومها، وكذلك إشفاقه على ارتجافها عند قدومه. وعذره لها حيث توقَّعت شيئًا آخر، فلم يُعرَّج على ذلك التوهُّم.

وفي حديث آخر عن أنس t قال: (أولم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بَنىَ بزينب بنت جحش فأشبع الناس خبزًا ولحمًا، ثم خرج إلى حُجَر أمهات المؤمنين كما كان يصنع صبيحة بنائه فيسلِّم عليهنّ، ويسلمنَ عليه، ويدعو لهنَّ، ويدعونَ له) [رواه البخاري].

وفي هذا الحديث مظهر أكيد من مظاهر رحمته ووده لزوجاته صلى الله عليه وسلم، وهو ود علم الود، فلما كان النبي صلى الله عليه وسلم مع زوجاته في قمة الرأفة والرحمة كن كذلك معه، فبادلنه بالرحمة رحمة وبالود ودًّا، وتلك هي المعادلة التي تحققت في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقن بها المسلمين درسًا من دروس الرحمة.

فأي عطف وأي رفق أسري يجعل الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم يذهب صبيحة زواجه إلى نسائه، ويُطَيِّب خواطرَهُنَّ بالسلام والدعاء، يعوضهن عاطفيًا، وكذلك مبادلته نفس السلوك، فأمهات المؤمنين حملهن هذا العدل واللطف على الدعاء له وتهنئته.

زوج وزوجة: هناء وسعيد:

تحركت هناء بصعوبة بالغة في أرجاء البيت وهي تعد العشاء لزوجها سعيد، فهي في الشهر السابع من الحمل، وأصبحت حركتها ثقيلة نوعًا ما، ولكنها بالرغم من ذلك، تحاول جاهدة أن تقوم على خدمة زوجها بقدر طاقتها، وبعد الانتهاء من إعداد الطعام جلست وزوجها على المائدة يتناولان الطعام سويًّا.

بدأ سعيد يتناول طعامه ويبادل زوجته هناء الابتسام ويطعمها بيده، وما إن وضعت أول لقمة في فمها حتى صاحت مستنكرة: (ما هذا؟ الملح قليل جدًّا، يبدو أنني لم أضع المقدار المناسب، ألم تشعر بذلك يا سعيد؟).

ارتسمت على وجه سعيد ابتسامة حنون والتفت إليها قائلًا: (لاحظت يا حبيبتي، ولكني لم أشأ أن أثقل عليك فأنا أعلم مقدار تعبك، فلا بأس أن تنسي الملح يومًا فلطالما أعددت لي ما لذَّ وطاب من الطعام).

أطرقت هناء رأسها وقالت لسعيد في امتنان شديد: (يا حبيب العمر، تفعل كل هذا من أجلي، سأقوم وأحضِّر لك بعض الملح).

قام سعيد في سرعة شديدة وهتف بهناء: (لا تقومي يا حبيبتي، سأقوم أنا وأحضره لك، فأنتِ تحتاجين إلى الراحة بقدر الإمكان، يكفيك ما قمت به اليوم من عمل ومجهود).

وقام سعيد بالفعل وأحضـر الملح لزوجته ووضعه على الطعام، ثم خاطب زوجته في ود: (سأقوم أنا بغسيل الأطباق هذه الليلة، فأنت يبدو عليك التعب الشديد، فنحن نحتاج إلى طاقتك وصحتك من أجل جوهرتنا القادمة بإذن الله).

أغرورقت عينا هناء بالدموع وقالت: (لا أعرف ماذا أقول لك يا سعيد، فأنت بالفعل تغمرني بعطفك وحنانك وتعرف مشاعري جيدًا، بل وتشعر بآلامي وأحاسيسي كما لو كنا شخصًا واحدًا، وتضغط على نفسك كثيرًا من أجلي، لا يا حبيب العمر، أنت متعب أيضًا من عملك طوال اليوم، وهذه الأمور من واجباتي أنا وعليَّ أن أؤديها مهما كانت حالتي).

ربت سعيد على كتف زوجته في حنان وهمس في أذنها: (أولًا يا حبيبتي نحن بالفعل شخص واحد، وثانيًا أعلم أنها من واجباتك يا حبيبتي ولكن حياتنا الزوجية هي بناء مشترك بيننا، وعندما تعجزين عن أداء ما عليك لمرض أو غير ذلك؛ فمن واجبي أن أساعدك، ثم أخبريني: ألن تقومي بمثل هذه الأمور معي إن كنت أنا المريض؟).

ابتسمت هناء من وراء دموعها وقالت: (نعم يا حبيب العمر، بل وسأحفظك بين جفوني إلى أن تقوم وأنت سليم معافى).

قال سعيد ضاحكًا: (وهذا هو ظني بك يا حبيبتي، ولا تقلقي فأنا لن أغسل الأطباق طوال العمر، إنها فترة صغيرة وتعودين بعدها لممارسة تلك الهواية المفضلة لديك).

بادلته هناء الضحكات وقالت: (جزيت عني خيرًا يا حبيب العمر، وحفظك الله لي من كل سوء، وأدام بيننا الحب والمودة، فأنت نعم الزوج ونعم الصديق) [كوكب السعادة، هيام محمد يوسف، ص(23-25)].

رحمة زوج:

(أعرف زوجة كانت في شهرها التاسع من الحمل على وشك الولادة في أي وقت، وأراد زوجها السفر، وبعد خروجه ومعه حقيبة السفر بوقت قصير رجع وقد اشترى لها عشاء جاهزًا، فلن تتصوروا مدى فرحة الزوجة برجوع زوجها، وقد ذكر لها السبب أنه خاف عليها أن تلد وهو غير موجود بجانبها، فعرفت من خلال هذا الموقف مدى حبه وحنانه عليها) [كوكب السعادة، هيام محمد يوسف، ص(33)].

استراحة زوجين: حكمة:

قال الكفويّ: (الرّحمة حالة وجدانيّة تعرض غالبًا لمن به رقّة القلب وتكون مبدأ للانعطاف النّفسانيّ الّذي هو مبدأ الإحسان) [تهذيب الأخلاق، الجاحظ، ص(24)].

قيل: (الجنّة هي دار الرّحمة لا يدخلها إلّا الرّاحمون برحمة الله) [نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم، (6/2102)].

تصافيا: كيف نطبق الرحمة في بيوتنا:

تبين لنا في هذا الحرف أن من دعائم قيام البيت السعيد، وافتقاد البيوت لها هو سبب من أسباب خرابها وحدوث المشكلات فيها، ولذا كانت هذه الروشتة السريعة نمنح فيها كل زوجين من الأسباب ما يساعدهما على بلوغ الرحمة ببعضهما البعض، فنقول:

ليسعى كل منكما في خدمة الآخر، وليحرص كل منكما على مشاعر الطرف الآخر، خاصة في فترة الدورة الشهرية للمرأة وكذلك في فترة حملها، فإن نفسية المرأة تتقلب في تلك الفترات.

أيتها الزوجة ارحمي زوجك في حالة فقره أو وقوعه في أزمة مالية أو صحية، وكوني له خير عون وسند.

أيها الزوجان، ليحترم كل منكما رأي الآخر، وليكن نقاشقما رحيمًا ودودًا مبللًا بندى العطف والشفقة، ولا تدعانه يتحول أبدًا إلى مراء أو جدال.

– همسة قبل الوداع:

وهذه همسة في أذن الأزواج قبل وداع حرف الراء، أن احرصوا على ما أودع الله بينكم من رحمة فطرية تزداد بازدياد خصال الخير، وتقل قلما قلت خصال الخير بينكم، وتأكدوا أن النفس البشرية جبلت على محبة من يحنو عليها ويعاملها بلطف، فكيف إذا كان هذا العطوف هو الزوج، أو كانت تلك الحانية هي الزوجة؟

– المصادر:

  • تهذيب الأخلاق، الجاحظ.
  • كوكب السعادة، هيام محمد يوسف.

·       نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم، أبو نعيم.

 

المصدر : مفكرة الإسلام

من admin

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *