بقلم الدكتور عصام البشير

أولا: مفهوم التعددية

تعني التعددية السياسية في الرؤية الإسلامية فيما تعني التنوع والتمايز والاختلاف في إطار الوحدة، وهي تعني في جوهرها: التسليم بالاختلاف؛ التسليم به واقعا لا يسع عاقلاً إنكاره، والتسليم به حقا للمختلفين لا يملك أحد أو سلطة حرمانهم منه.

و”التعددية”: تنوع مؤسس على “تميز وخصوصية”، ولذلك فهي لا يمكن أن توجد وتتأتى -ولا حتى تُتصور- إلا في إطار “الوحدة والجامع”، ولذلك لا يمكن إطلاق “التعددية” على “التشرذم والقطيعة” اللذين لا جامع لآحادهما، ولا على “التمزق” الذي انعدمت العلاقة بين وحداته، وأيضا لا يمكن إطلاق “التعددية”على “الواحدية” التي لا أجزاء لها.. فبدون الوحدة الجامعة لا يتصور تنوع وخصوصية وتميز، ومن ثم تعددية.

والتعددية (بمعنى الاختلاف) في أنواع الخلق، وبين أفراد كل نوع من حقائق الإبداع الرباني المسلّمة، وليقرأ من شاء قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} (الأنعام: 98 –99) أو قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ} (فاطر: 27- 28).

والتعددية في نوع الإنسان وانتمائه، ومستوى أدائه لواجباته وممارسته لمكانته أجلى وأوضح، وليقرأ من أراد قوله تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} (الروم: 22)، أو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} (الحجرات: 13)

وفي هذه الآية يعبر القرآن بلفظي: أكرم، وأتقى، وهما يدلان -لغة- على وجود التقي والكريم ؛ أي يدلان على أن الاختلاف حقيقة واقعة، وأن التعدد في المراتب تقدير رباني لا يعني قبول أهل مرتبة واحدة منها دون سائر المراتب؛ أعني مراتب التقى والكرامة، المترتبة على صدق الإيمان ووضوح اليقين.

وللتعددية مستويات يحددها “الجامع.. الرابط” الذي يجمع ويوحد أجزاءها، فعلى المستوى العالمي مثلا هناك تعددية الحضارات المتميزة، والقوميات المختلفة المؤسَّسة على تعدد الشرائع والمناهج والفلسفات واللغات والثقافات، وبينها جميعا جامع الاشتراك في الإنسانية التي لا تمايز فيها ولا اختلاف.

وعلى مستوى كل حضارة من الحضارات هناك تعددية في المذاهب ومدارس الفكر وفلسفاتها، وتيارات السياسة وتنظيماتها، وقد تكون في بعض الحضارات تعددية في القوميات واللغات والأوطان مع اجتماعها في رابط الحضارة الواحدة وجامعتها.

والتعددية، ككل الظواهر والمذاهب الفكرية، لها “وسط – عدل – متوازن”، وله طرف “غلو”، أحدهما “إفراط” والآخر “تفريط”، و”وسطها -العدل – المتوازن” هو الذي يراعي العلاقة بين “التميز.. والتنوع.. والتعدد” وبين “الجامع… والرابط.. والوحدة”،بينما يمثل التشرذم “غلو القطيعة والتنافر” الذي لا جامع له … كما تمثل “الوحدة”، المنكرة للخصوصية، “غلو القهر” المانع من تميز الفرقاء واختصاصها.

وإذا كانت “الوسطية الجامعة” في التصور الإسلامي هي خصيصة من خصائص الأمة الإسلامية، “َوكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا” فإن التعددية الموزونة بميزان الإسلام، لا بد وأن تكون تميزا لفرقاء يجمعهم جامع الإسلام، وتنوعا لمذاهب وتيارات تظللها جميعا وتحكمها مرجعية التصور الإسلامي الشامل، وخصوصيات متعددة في إطار ثوابت الوحدة الإسلامية .. فوحدة الأمة: فيما هو معلوم من الدين بالضرورة – أي فيما يدركه الكافة بالفطرة دون نظر وبلا خلاف فيه – هي فريضة إلهية “إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ” (سورة الأنبياء: 92) لا تعدد فيها ولا افتراق .. أما فيما هو فروع وموضوعات للاجتهادات، فإن التعددية فيها واردة، يجمع فرقاءها ومدارسها واجتهاداتها. “المؤمنون والمسلمون، من قريش وأهل يثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم أمة واحدة من دون الناس”، “وأن يهود أمة مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم”؛ “وأن يهود ينفقون مع المؤمنين ماداموا محاربين. وأن على يهود نفقتهم وعلى المسلمين نفقتهم. وأن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة. وأن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم”؛ “وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث ، أو اشتجار يحاف فساده ، فإن مرده إلى الله وإلى محمد رسول الله”[1].ففي إطار جامع الأمة الواحدة والدولة الواحدة، ذات المرجعية الواحدة، تعددت الانتماءات القبلية والدينية، ونظم الدستور علاقات فرقاء هذا الانتماء.

بل لقد وسعت “وحدة الأمة الإسلامية” ألوانا من التعددية بلغت تناقضاتها الداخلية حد الصراعات المسلحة؛ لأن فرقاء هذه التعددية، رغم صراعها، قد ظلوا على ولائهم “للدولة الواحدة”، فحافظوا على “الجامع السياسي”، وعلى ولائهم “للدين الواحد”، فحافظوا على”الجامع الديني”، ومن هنا كان القتال بينهم على “التأويل” لا على “التنزيل”… وكانوا جميعا، رغم القتال، على ولاء لوحدة

الدولة ووحدة الدين.. ولقد كانت صراعات الفتنة الكبرى، زمن الراشدين، في هذا الإطار الذي وسعت فيه “وحدة الأمة” فرقاء هذه الفتنة وذلك الصراع .. فلم يكن اقتتالهم بالمخرج لأي منهم من “الأمة” ولا من “الملة” ولا من “الدولة”.

وهكذا انفتحت سبل التعددية واتسعت آفاقها أمام تيارات الفكر الإسلامي في إطار “وحدة وجامع التصديق” بما جاء به الدين، مما هو معلوم منه بالضرورة ودار الإسلام.. ظلل التعددية في اللغات والأقوام .. وفي الثقافات الفرعية .. وفي الأوطان والأقاليم المتميزة .. وفي الفرق الإسلامية السياسية .. وفي المذاهب الفقهية .. والتيارات الفكرية والمدارس الحركية .. فازدهرت تعددية الاجتهادات البشرية في إطار الجامع الثابت الخالد الذي تمثل فيما علم بالضرورة من أصول الدين.

والخلاصة أن التعددية في الإسلام أصل، في سائر مكونات مجالات الحياة، فليس هناك واحدية في الإسلام إلا لله تبارك وتعالى، فهو سبحانه قد تفرد بالوحدانية، ووسم عالم المخلوقين كله بالتعددية، وحتى يتضح لنا مفهوم التعددية، لا بد أن نتحدث أولا عن مفهوم الاختلاف، وأن نبين أنه سنة كونية، وأنه محمود ومشروع ما دام في الرأي ووجهات النظر (العقل).

ثانيا: مفهوم التعددية السياسية ليس منفصلا بأي حال من الأحوال عن السياق العام لمكونات مفهوم التعددية في شموله.

والتعددية السياسية ليست مطلقة، ويجب أن تكون منضبطة في إطار ما يسمى قواعد النظام العام، سواء أكانت عرفية أم مكتوبة وفي التصور الإسلامي تمثل قطعيات وثوابت الشريعة السقف الذي ينتهي إليه واقع التعددية.

وكما يقول العلامة الدكتور يوسف القرضاوي: (المذاهب أحزاب في الفقه والأحزاب مذاهب في السياسة)، ذلك أن الأحزاب السياسية ليست إلا لوناً سياسياً للمذاهب الفقهية، لأن المذاهب الفقهية عبارة عن اجتهادات للإصلاح الاجتماعي، والفقه ليس فقط في الشعائر والعبادات، بل إن الشعائر والعبادات لها مردود اجتماعي ومردود سياسي ومردود في الحياة التي يعيشها المؤمن، و الإسلام الذي وسع التعددية الفقهية يسع التعددية السياسية في شكلها المعاصر وهو الأحزاب السياسية. وكل ذي علم بتاريخ الفقه الإسلامي يعرف أن الإسلام لم يضق ذرعا بأي مذهب فقهي أو فكري.

وتظل التعددية وتداول السلطة هي الضمان الوحيد ضد الظلم والقهر واحتكار السلطة والثروة واحتقار القانون في المجتمعات العربية والإسلامية، وليست هناك وسيلة لتداول السلطة أكثر نفعا وأجدى أثرا من وجود الأحزاب وتنافسها في الانتخابات العامة الحرة النزيهة، وهذان الأمران يقطعان بأن التعددية السياسية في النظرة الإسلامية ضرورة وليست شيئا كماليا، وأن منعها والحيلولة دونها تترتب عليه سلبيات لا حصر لها؛ ولا يجوز للدعاة إلى إصلاح سياسي يستند إلى الإسلام أن تغيب عنهم حقيقة يشهد بها تاريخ البشرية في مختلف أديانها: أن أسوأ صور الظلم وأفدحها، وأبشع حالات الطغيان وأقساها، ما كان مستندا إلى نظرة دينية يساء فيها استخدام نصوص الدين الصحيحة بتأويلها على وفق أهواء الظالمين.

وهذه الحقيقة تجعل بيان جوهر الموقف الإسلامي من التعددية السياسية باعتبار حق الاختلاف حقاً إنسانياً أصيلاً ألزم الآن منه في أي وقت مضى.

لقد تميزت نظرة الإسلام إلى التعددية، إذ جعلها تبلغ ما هو أعلى درجة ومرتبة من كونها حقا أو مجرد حق من حقوق الإنسان، إنها قانون كوني، إذ أن التعددية في الرؤية الإسلامية أكبر من التعددية السياسية، فالتعددية السياسية جزء من فلسفة التعددية كنظرة كلية في الرؤية الإسلامية.

أما الأحزاب السياسية المعاصرة، فهي “اجتهادات متعددة” في ميادين “إصلاح المعاملات” الاجتماعية في شئون العمران الإنساني … وقريب منها عرفت حضارتنا الإسلامية “المذاهب الفقهية”، التي مثلت “تعددية في الاجتهادات” بميادين “فقه المعاملات” – الذي مثل علم الاجتماع الديني في تراث الإسلام – فإذا ظللت “السياسة الشرعية” الأحزاب المعاصرة، ومثل الإسلام بالنسبة لها مرجعية مشاريعها في النهضة والإصلاح، وخاصة ما عرف بالضرورة من أصول الإسلام بالنسبة لها – عقيدة وشريعة وقيما – كما مثلت “الشريعة الإسلامية” مرجعية اجتهادات فقهاء المذاهب الفقهية كنا بصدد الأحزاب السياسية المعاصرة – أمام تعددية يسعها منهاج الإسلام .

ذلك أن “الحزب السياسي” – في الإصلاح المعاصر– يطلق على “مجموعة من المواطنين ، يؤمنون بأهداف سياسية وفكرية – [أيديولوجية] –مشتركة، وينظمون أنفسهم بغية تحقيق أهدافهم وبرامجهم، بالسبل التي يرونها محققة لهذه الأهداف، بما فيها الوصول إلى السلطة في المجتمع الذي يعيشون فيه([2]).

بل إن مصطلح “الحزب” غير غريب عن التراث الإسلامي، ولا هو بالوافد والطارئ على حضارتنا الإسلامية.. ففي القرآن الكريم وفي السنة النبوية نجده مستخدما، ليس بالمعنى السلبي المكروه وحده، بل وبالمعنى الإيجابي الممدوح أيضاً… فمعيار التمييز ليس المصطلح – “الحزب” وإنما المعيار هو المضمون والمقاصد والغايات التي يسعى إليها هذا “الحزب” أو ذاك.

وكما أطلق القرآن الكريم على المشركين وصف “الأحزاب” [ولما رأى المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله و ما زادهم إلا إيمانا وتسليما] (الأحزاب: 22) فلقد أصطلح المصطلح – “حزب” – على المجتمعين على المنهاج الإلهي [وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ] .

ولقد كان المسلمون – في صدر الإسلام – يسمون أحياناً “حزب محمد”.. وفي الحديث الشريف يروي أنس بن مالك، رضي الله عنه، عن رسول الله r قوله: ” يقدم عليكم أقوام هم أرق منكم قلوبا” … قال أنس: ” فقدم الأشعريون فيهم أبو موسى الأشعري ، فلما دنوا من المدينة كانوا يرتجزون، يقولون: غدا نقى الأحبة محمدا وحــزبه (رواه الإمام أحمد)

فالمصطلح”الحزب” ليس غريبا على تراث الإسلام. وليس سلبي المعنى بإطلاق وتعميم.. وإذا نحن نظرنا إلى الحضارة الإسلامية، التي مثلت العمران المصطبغ بصبغة الإسلام، فإننا سنجد كل “الفرق” الإسلامية قد نشأت نشأة سياسة، وكانت تيارات وتنظيمات سياسية – أو كانت السياسة واحدة من أبرز مهامها وقسماتها – فهي بمثابة “أحزاب” سياسية، ذات مناهج فكرية متميزة، وذات سبل متميزة في الإصلاحين الفكري والسياسي … وكذلك الحال –إلى حد ما مع المذاهب الفقهية .. فجميعها تيارات فكرية تميزت في “فقه المعاملات” –وباستثناء الغلاة، فإن التمايز والاجتهاد قد وقفا عند الفروع، ولم يحدثا فيما هو معلوم من الدين بالضرورة.

وفي العصر الحديث، عرفت بلادنا الأحزاب والجماعات والجمعيات السياسية، أول ما عرفتها، إسلامية، ضمت أعلام اليقظة الإسلامية وعلماء الإحياء والتجديد الإسلامي، الذين تصدوا بها للغزوة الاستعمارية الغربية على بلاد الإسلام… وهم قد أقاموا هذه الأحزاب والجمعيات مسترشدين بتراثنا في “الفرق” وليس تقليدا للحضارة الغربية، التي لم تكن قد نضجت فيها يومئذ، تعددية الأحزاب! ..

وما غربة هذا الأمر – الأصيل إسلامياً على ذهن البعض- إلا بفعل “الانقطاع” الذي أحدثه تراجعنا الحضاري بين عصرنا وبين التطبيقات الصحيحة لهذه التعددية في تاريخ الإسلام.. وأيضا الخلط بين التعددية في الفروع وفيما فيه اجتهاد –وهى المشروعة إسلاميا –وبين الافتراق في الأصول والمبادئ المعلومة من الدين بالضرورة وهي التي لا تعدد فيها ولا اختلاف ولا افتراق.

إن التعددية “المباحة” إسلامياً هي التي تمثل “تنوعا” في الاجتهادات بالفروع، عندما يكون هذا التنوع “محكوما بالوحدة” في الأصول والمبادئ ، فهي وسط بين غلو الإفراط والتفريط في هذا الميدان

لكن الحضارة الغربية، التي غزتنا بأيديولوجياتها –الوضعية والعلمانية والمادية –منذ قرنين، قد أحدثت في فكرنا وواقعنا –بميدان التعددية –مستجدات غير إسلامية.. منها “إباحة” التعددية الحزبية والفكرية التي لا تلتزم بالمرجعية الإسلامية، ولا تحتكم إلى ما هو معلوم من الدين بالضرورة .. فقامت بديار الإسلام أحزاب – بل ونظم وحكومات– علمانية، لا تلتزم في مشاريعها النهضوية وبرامجها السياسية وأيديولوجياتها الفكرية بالمرجعية الإسلامية، التي ظلت تحكم التعددية في الحضارة الإسلامية على مر التاريخ؛ وأمام هذه “النازلة الجديدة” لا بد من “اجتهاد جديد”.

ونحن نرى أن هناك خيارين مطروحين على العقل المسلم إزاء هذه ((النازلة الغربية)) التي زرعت في ديار الإسلام:

أولهما: خيار الرفض لقيام أحزاب على أساس المرجعية المادية والعلمانية في ديار الإسلام ( وهذا الأمر ربما كان حجة للأحزاب العلمانية –وكثير منها قابضة على ناصية الحكم ومؤسساته في عالم المسلمين– أن تعامل الحركات والجماعات الإسلامية بالمثل .. فترفض الوجود الإسلامي لأن أهله يرفضون الوجود العلماني .. وفي ذلك تضيق ومضرة محققة بالتوجه الإسلامي في كثير من المجتمعات.

وثاني الخيارين: وهو ما نميل إليه ونرجحه، وهو الثبات على الموقف الفكري الإسلامي من المرجعيات المادية والعلمانية .. موقف الرفض لها، والتنديد بها، والدعوة إلى تطهير فكرنا وواقعنا منها.. لكن لا بالحجر على أصحابها ، والرفض القانوني لوجودهم .. وإنما بدعوة الأمة – وجماهيرها وفية لإسلامها– إلى الانصراف عن هذه الأيدلوجيات والمرجعيات المادية والعلمانية، مع العمل على بناء قناعات فكرية حقيقية عند تلك الجماهير التي تؤمن بالمشروع الإسلامي في جملته.

ولهذا الاختيار ميزة الوفاء لثوابت الإسلام … وتوسيع لدائرة الحرية أمام التوجه الإسلامي، على أساس من قاعدة المعاملة بالمثل، والمساواة بين كل المرجعيات الفكرية وتنظيماتها .. وفيه مصلحة محققة للتوجه الإسلامي .. بل لعله بذلك أن يكون أسرع الطرق وأنجعها في بناء قناعات فكرية حقيقية عند جماهير المسلمين التي هي المعول الأول بعد الله في نجاح المشروع الإسلامي.

وذلك هو الاجتهاد والخيار الذي نختار في هذا الموضوع، موازنة بين ((المضرة)) و((المصلحة)) في هذه ((النازلة)) التي أحدثتها الغزوة الحضارية الغربية على عالم الإسلام.. والتي لم يعرف تاريخنا الحضاري لها من قبل شبيها ولا نظيراً .. ومن ثم لم يرد لها في تراثنا الفقهي حكم يستأنس به الاجتهاد المعاصر فيها.

ثالثا: في قضايا المواطنة

المواطنة في معناها الحديث فكرة غربية النشأة، حيث ظهرت في الغرب في القرن السابع عشر الميلادي وتبلورت في القرون الثلاث التالية، وقد كانت في البداية عبارة عن نسق للأفكار والقيم، ثم تم تطبيقها بعد ذلك في المجالين السياسي والاقتصادي والاجتماعي حتى صارت أحد المفاهيم الرئيسية في الفكر الليبرالي، ثم انتشرت فيما بعد في العالم أجمع حتى أضحت مفهومًا عالميًا من الصعب غض الطرف عنه.

وكي نُعرف المواطنة فلابد أولاً -كما يقرر المستشار طارق البشري- من أن نُعرف الجماعة السياسية وهي: “مجموعة من البشر تتصف بوصف معين يجمعها ويميزها عن المجموعات الأخرى”، وقد تبين من استقراء التاريخ أن الجماعة السياسية لم تنشأ إلا استنادًا إلى أحد ثلاث عناصر على الأقل: القرابة (مثل القبيلة)، الدين، اللغة (أو القومية).

والمواطنة هي علاقة الفرد بهذه الجماعة.. هي الوصف الذي يصدق على الفرد ويجعله مرتبط بهذه الجماعة ومنتمي إليها ولصيق بها؛ ولهذا توجد فكرة المواطنة دائمًا أيًا كان الوصف الذي تستند إليه الجماعة السياسية ويميزها عمن سواها؛ سواء كان هذا الوصف ديني، أو قومي، أو يتعلق بالقبيلة.

وقد ظهر اتجاهان رئيسان داخل الفكر الإسلامي نحو فكرة المواطنة ومدى إمكانية الاعتراف بالمساواة الكاملة في الحقوق والواجبات بين المسلمين وغيرهم داخل الدولة المسلمة:

حيث حاول الاتجاه الأول إثبات مخالفة هذه الفكرة لأصول الاجتماع الإسلامي بل ولأصول عقدية مستندًا في ذلك إلى مبدأ “المفاصلة” و”التمييز” ومبدأ “الاستعلاء” وما يتفرع أو يتسق -عندهم- مع ذلك من مفاهيم: الذمة، والبطانة، من دونكم، والجزية والصغار، وعدم الاستئمان، والعهدة العمرية، وإبراز صفة “الدين” قبل صفة “المشاركة في الوطن أو في الدار” والبناء فوق صفة “الدين” والمخالفة فيه على أساس مبدأ الولاء والبراء.

بينما الاتجاه الثاني يقبل هذه الفكرة ولا يرى تعارضًا بينها وبين الإسلام مستندًا في ذلك إلى عدة أمور منها: إنسانية الإسلام وشريعته، وحرية الاعتقاد (لا إكراه في الدين)، وعدم النهي عن غير المقاتلين، أو وصية رسول الله (صلى الله عليه وسلم) بغير المسلمين، وروح مفهوم الذمة، ومبدأ (لهم مالنا وعليهم ما علينا) ، ودستور المدينة (الصحيفة)، ومبادئ إسلامية تراحمية وإنسانية، والقول بتاريخانية صور معينة للعلاقات داخل المجتمع المسلم والدولة المسلمة.

ومن جانبنا نرى أن الاتجاه الثاني هو الاتجاه الصحيح، وأن ما استند إليه الرأي الأول لا يتعارض مع الأخذ بفكرة المواطنة، لاسيما فيما يتعلق بعقد الذمة، والجزية، وفكرة الولاء والبراء، وذلك على التفصيل التالي:

1-أهل الذمة: الذمة في اللغة تعني العهد والأمان والضمان، وفي الشرع تعني عقد مؤبد يتضمن إقرار غير المسلمين على دينهم وتمتعهم بأمان الجماعة الإسلامية وضمانها بشرط بذلهم الجزية وقبولهم أحكام دار الإسلام في غير شؤونهم الدينية، وهذا العقد يوجب لكل طرف حقوقاً ويفرض عليه واجبات، وليست عبارة أهل الذمة عبارة تنقيص أو ذم، بل هي عبارة توحي بوجوب الرعاية والوفاء تديناً وامتثالاً للشرع، وإن كان بعضهم يتأذى منها فيمكن تغييره لأن الله لم يتعبدنا به وقد غير سيدنا عمر لفظ الجزية الذي ورد في القرآن استجابة لعرب بني تغلب من النصارى الذين أنفوا من الاسم وطلبوا أن يؤخذ منهم ما يؤخذ باسم الصدقة وإن كان مضاعفاً فوافقهم عمر وقال: هؤلاء قوم حمقى رضوا

المعنى وأبوا الاسم.

ومما يجب إدراكه عن الذمة ما يلي: فكرة عقد الذمة ليست فكرة إسلامية مبتدأة، وإنما هي مما وجده الإسلام شائعاً بين الناس عند بعثة النبي صلى الله عليه وسلم فأكسبه مشروعيته، وأضاف إليه تحصيناً جديداً بأن حول الذمة من ذمة العاقد أو المجير إلى ذمة الله ورسوله والمؤمنين، أي ذمة الدولة الإسلامية نفسها، وبأن جعل العقد مؤبداً لا يقبل الفسخ حماية للداخلين فيه من غير المسلمين.

الدولة الإسلامية القائمة اليوم تمثل نوعاً جديداً من أنواع السيادة الإسلامية لم يعرض لأحكامها الفقهاء السابقون لأنها لم توجد في زمانهم، وهي السيادة المبنية على أغلبية مسلمة لا على فتح هذه الدول بعد حرب المسلمين لأهلها. وهذه الأغلبية يشاركها في إنشاء الدولة وإيجادها أقلية أو أقليات غير مسلمة، الأمر الذي يتطلب اجتهاداً يناسبها في تطبيق الأصول الإسلامية عليها وإجراء الأحكام الشرعية فيها، ولا بأس أن يكون عقد المواطنة بديلاً عن هذا المصطلح بحسبانه يتسع لأن يقوم على أساس ديني كما أسلفنا.

والذمة عقد وليست وضعاً والعقود بطبيعتها قابلة للانتهاء والإنهاء أما الأوضاع فهي باقية ما بقيت شروطها والظروف التي سوغت قيامها وإذا كان عقد الذمة قد انقضى ولم يعد أي أطرافه قائما فقد نشأ الوضع الجديد .. وضع المواطنة الذي يسوي بين المسلم وغير المسلم في الحقوق والواجبات القانونية أمام الدولة وأمام قضائها وأمام سلطاتها كافة.

2- الجزية: وهي ضريبة سنوية على الرؤوس تتمثل في مقدار زهيد من المال يُفرض على الرجال البالغين القادرين، على حسب ثرواتهم، والجزية لم تكن ملازمة لعقد الذمة في كل حال كما يظن بعضهم، بل استفاضت أقوال الفقهاء في تعليلها وقالوا إنها بدل عن اشتراك غير المسلمين في الدفاع عن دار الإسلام، لذلك أسقطها الصحابة والتابعون عمن قبل منهم الاشتراك في الدفاع عنها، فعل ذلك سراقة بن عمرو مع أهل أرمينية سنة 22 هـ وحبيب بن مسلمة الفهري مع أهل أنطاكية، ووقع مثل ذلك مع الجراجمة – وهم أهل مدينة تركية – في عهد عمر رضي الله عنه وابرم الصلح مندوب أبي عبيدة بن الجراح وأقره أبو عبيدة فيمن معه من الصحابة، وصالح المسلمون أهل النوبة على عهد الصحابي عبد الله بن أبي السرح على غير جزية بل على هدايا تتبادل في كل عام، وصالحوا أهل قبرص في زمن معاوية على خراج وحياد بين المسلمين والروم.. ومن ثم فإن غير المسلمين من المواطنين الذين يؤدون واجب الجندية، ويسهمون في حماية دار الإسلام لا تجب عليهم الجزية. والصغار الوارد في آية التوبة يقصد به خضوعهم لحكم القانون وسلطان الدولة.

3- الموالاة والمحادّة: إن القرآن الكريم يزخر بنصوص تنهى عن موالاة غير المسلمين، وتقرر أن الولاء عندما يقع النزاع إنما يكون لله ولرسوله، غير أن هذا الأصل محاط بضوابط تحول دون تحوله إلى عداوة دينية أو بغضاء محتدمة أو فتنة طائفية مثل:

أ- النهي ليس عن اتخاذ المخالفين في الدين أولياء بوصفهم شركاء وطن أو جيران دار أو زملاء حياة وإنما هو عن توليهم بوصفهم جماعة معادية للمسلمين تحادّ الله ورسوله، لذلك تكررت في القرآن عبارة (من دون المؤمنين) للدلالة على أن المنهي عنه هو الموالاة التي يترتب عليها انحياز المؤمن إلى معسكر أعداء دينه وعقيدته.

ب- المودة المنهي عنها هي مودة المحادين لله ورسوله الذين (يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم) (الممتحنة 1) لا مجرد المخالفين ولو كانوا سلماً للمسلمين.

ج- غير المسلم الذي لا يحارب الإسلام قد تكون مودته واجبة كما في شأن الزوجة الكتابية وأهلها الذين هم أخوال الأبناء المسلمين.. فمودتهم قربة وقطيعتهم ذنب

د- الإسلام يُعلي من شأن الرابطة الدينية ويجعلها أعلى من كل رابطة سواها ولكن ذلك لا يعني أن يرفع المسلم راية العداوة في وجه كل غير مسلم لمجرد المخالفة في الدين أو المغايرة في العقيدة.

وفي الختام أنهي هذه المحاضرة بأمرين لهما صلة وثيقة بموضوع الحديث:

أولهما: ما قاله ابن القيم في كتابه (إعلام الموقعين) في الجزء الثالث منه عند حديثه عن اختلاف الزمان والمكان وأثره في تجديد الواقعة محل النظر في إطار النصوص المطبقة فحيثما اختلفت الوقائع واختلفت مآلاتها في التطبيق فإن ذلك ينوع الأحكام الشرعية التي تطبق في كل حالة من هذه الأحوال، والأمثلة التي ذكرها ابن القيم في هذا العصر متعددة ومتنوعة».

الأمر الثاني: ما ذكره الإمام الشاطبي في كتابه (الموافقات) على أن الأمور تقدر حسب مآلاتها، وكل حكم من أحكام الشرع الشريف إنما يؤخذ في الاعتبار عند تطبيقه بمآلات الأمور التي تطبق بشأنها والمآلات هنا تختلف باختلاف الزمان والمكان وهي تختلف أيضا اختلاف تنوع بتنوع أوضاع الزمان والمكان في البلاد المختلفة والعصور المختلفة وفيما تنتج عن سياق التطبيق من تنوع فيما أفضى إليه الأمر في التطبيق».

———————————————————————–

([1]) ( مجموعة الوثاق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة)، ص 5- 20.

 

([2]) موسوعة السياسة – مادة حزب سياسي – المؤسسة العربية للدراسات والنشر . بيروت، سنة 1981م.

من admin

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *