محمد عمارة
إن علامة الإسلام وجوهره؛ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله، وبالتوحيد يتم تحرير الإنسان من استعباد كل الطواغيت والقوى المادية والموهومة، والظواهر الطبيعية التي طالما استعبدته على مر تاريخ الوثنيات. ولذلك كانت شهادة التوحيد أفعل شهادات التحرير للإنسان؛ ذلك أن إفراد الله بالعبودية والإخلاص له، لا يحرران الإنسان فقط من استعباد الطواغيت، وإنما يمثلان تديّنًا بدينٍ جعل التحرر والحرية مَعْلَمًا من المعالم الرئيسة التي جاء بها كتاب هذا الدين، وركنًا من أركان الرسالة الخاتمة التي بلغها الرسول صلى الله عليه وسلم.
فالقرآن الكريم يذكر الحرية والتحرير ضمن معالم هذه الرسالة المحمدية، وذلك عندما يتحدث عن المؤمنين: ﴿الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾(الأعراف:157).
فمن مهام هذا الدين ومعالمه؛ وضع الآصار عن الإنسان وتحريره من الأغلال، بل لقد بلغ سمو الإسلام وحرصه على إنسانية البشر إلى أن جعل الحرية فطرةً فطرَ اللهُ الناس عليها، مطلق الناس وليس فقط الذين حررتهم شهادة التوحيد. فهي من معالم تكريم الله سبحانه وتعالى للإنسان مطلق الإنسان: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾(الإسراء:70). وعندما قال الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه كلمته الجامعة: متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟! كان “الناس” هنا نصارى غير متدينين بالإسلام، لكنهم من خلق الله الذين استحقوا التكريم بخلق الله سبحانه وتعالى.
ولم يقف الإسلام عند تحرير الروح وحدها من عبودية الآصار والأغلال التي شدتها إلى الطواغيت -رغم أنها الجوهر ونقطة البداية في التحرير- وإنما شرع في تقويض نُظم الاسترقاق التي جاء فوجدها سائدة في النظم الاجتماعية والاقتصادية بكل الحضارات. فأمام الروافد العديدة والمنابع الكثيرة التي تمد نهر الرقيق -صباح مساء- بالجديد والمزيد من الأرقاء، من مثل الحروب العدوانية، والغارات الدائمة، والفقر المدقع، والعجز عن سداد الدَّيْن، وقطع الطريق …إلخ. فقد شرع الإسلام في إغلاق كل هذه الروافد والمنابع، ولم يبقَ سوى الأَسْر في الحروب المشروعة، وحتى أسرى هذه الحرب المشروعة خيّرهم بين “المن” وبين “الفداء” .
ثم استدار -بعد تجفيف منابع الاسترقاق- إلى تركة ذلك النظام، فوسّع مصابّ نهر الرقيق، فجعل كفارات العديد من الذنوب تحريرَ الأرقاء، ورغّب في هذا التحرير طلبًا للحسنات والعتق من النار.
ولقد جعل الإسلام هذا العتق أو تحرير الرقاب أحد مهام الدولة الإسلامية، ومصرفًا من مصارف الزكاة التي هي ركن من أركان الإسلام الخمسة، بل وتقدم على درب التحرير خطوات أبعد عندما أعطى الرقيق من الحقوق؛ من مثل المساواة بمالكيهم، والمشاركة لهم في الطعام واللباس، وعدم تكليفهم من العمل ما لا يطيقون، بل وإلغاء كلمتي “العبد” والـ”الأَمَة” في لغة الخطاب واختيار كلمتي “الفتى” و”الفتاة” بدلاً منهما،(1) الأمر الذي جعل الاسترقاق “عبئًا اقتصاديًّا” على مُلاك الرقيق بعد أن كان من أهم مصادر “الاستغلال” والإثراء.
بهذا الإصلاح “الجذري والشامل والمتدرج” في ذات الوقت، أنجز الإسلام بالسلم ما لم تنجزه الحروب والثورات في ميدان تحرير الأرقاء؛ فأقام مجتمعًا بلغ فيه بلال الحبشي رضه الله عنه -الذي كان رقيقًا، اشتراه أبو بكر الصديق ثم أعتقه- المكانة التي يقول عنه مثل عمر بن الخطاب: سيدُنا (أي أبو بكر) أعتق سيدَنا (أي بلالاً). (رواه البخاري)
وإذا كانت حضارات حديثة ومعاصرة قد جعلت الحرية “حقًّا” من حقوق الإنسان، فإن الإسلام قبل أربعة عشر قرنًا، قد جعلها “فريضة إلهية وواجبًا شرعيًّا وضرورة من الضرورات” لا يحل للإنسان أن يتنازل عنها حتى بالطواعية والاختيار، بل وجعلها بمثابة “الحياة”.
لقد علّل علماؤنا جعْل الإسلام كفارة “القتل الخطأ” تحرير رقبة، بأن “الرقَّ موتٌ” و”الحريةَ حياةٌ”. فلما كان القاتل قد أخرج نفسًا من عداد الأحياء إلى عداد الأموات، فعليه أن يُخرِج نفسًا من عداد الأموات (الأرقاء) إلى عداد الأحياء (الأحرار). نعم، قال علماؤنا بذلك في تفسيرهم لقول الله تعالى: ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ﴾(النساء:92).
وإذا كانت كل الحضارات والعقائد والمجتمعات قد اشتركت في وضع ضوابط وآفاق للحرية المشروعة لا تتعداها، فإن هذه الضوابط والآفاق التنظيمية قد تمايزت في هذه الحضارات والمجتمعات بتمايز فلسفاتها الخاصة بمكانة الإنسان في الكون، وطبيعة العلاقة بينه وبين خالق هذا الكون؛ فما يُعَدّ في مجتمعٍ ما وعقيدةٍ بعينها مقوّمًا من مقوماتهما الاجتماعية، وأساسًا من أسس عمرانهما، وركنًا من أركان اجتماعهما البشري، يجعلونه سقفًا للحرية لا تتعداه.
فليس هناك مجتمع يفتح آفاق الحرية وأبوابها “للخيانة الوطنية” أو لتقويض “أسس النظام الاجتماعي” أو “للجريمة” أو “للعدوان”، بل ولا “للعيب” في ذات الحاكم أو “إهانة” قطعة قماش إذا كانت علَم الوطن ورمزه. فالجميع متفقون على أن هناك سقفًا للحرية وآفاقًا يجب أن لا تتعداها؛ حفاظًا على المقومات التي يحفظ قيامها ما هو متاح للجميع من حريات وحرمات.
والإسلام مع هذا المبدأ، لكنه يتميز في الفلسفة التي تحدد آفاق الحرية في المجتمع الذي تسود شريعته فيه. والمدخل إلى هذه الفلسفة الإسلامية المتميزة في آفاق الحرية الإنسانية، هو نظرة الإسلام إلى مكانة الإنسان في هذا الكون.
ففي حين ترى الفلسفات المادية والوضعية في الإنسان “سيد الكون”، فتحرّر حريته من ضوابط الشريعة الإلهية وأُطر الحلال والحرام الديني، حتى يستطيع -كما في الديمقراطيات الغربية- أن يحرم الحلال ويحلل الحرام إذا هو أراد! فإن الإسلام يرى الإنسان خليفةً لله سبحانه وتعالى في عمارة هذه الأرض، له حرية وإرادة وقدرة واستطاعة، لكنها حرية الخليفة والنائب والوكيل، المحكومة ببنود عقد وعهد الاستخلاف.
إن حرية الإنسان -وإن بلغت في الإسلام مرتبة الضرورة والفريضة- محكومة بحقوق الله سبحانه وتعالى التي هي حدود الشريعة ومعالمها وفلسفتها في التشريع. وهنا -وبهذا الاتساق- تكون العبودية لله حرية وتحريرًا، وتكون الحرية والإنسانية ملتزمة بآفاق الشريعة وحدود الله ونطاق العبودية لله الواحد.
ليست الحرية في الإسلام هي تلك التي تحرّم “العيب في الذات الملكية”، بينما تبيح “العيب في الذات الإلهية”! ولا هي تلك التي تجرّم إهانة “علَم الدولة” في ذات الوقت الذي تسمح فيه بإهانة المقدسات الدينية، ولا هي الحرية التي تقدّس “الوضع البشري” على حين تتحلل من “الوضع والتشريع الإلهي”، ولا التي تعلي من شأن “المصلحة” دون ضبطها بالمعايير “الشرعية” لتكون “مصلحة شرعية معتبرة”.
إن سيد الكون والوجود هو خالقه، وهو الذي استخلف الإنسان وفطره على الحرية؛ حرية الخليفة المحكومة بحدود شريعة الاستخلاف.
وإذا كان “الإيمان الديني” -والذي هو تصديق بالقلب يبلغ مرتبة اليقين- لا يمكن أن يأتي ثمرة للإكراه: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾(البقرة:256)، ﴿قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ﴾(هود:28)، لأن الإكراه يثمر “نفاقًا” لا “إيمانًا”. فإن الإيمان الديني -في نظر الإسلام- واحد من أهم مقومات الاجتماع البشري، فالحفاظ عليه والحيلولة دون “حرية هدمه” و”إباحة تقويضه”، إلى جانب أنه وفاء بحق الله على الإنسان الذي خلقه ليعبده: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ﴾(الذاريات:56)، فإنه أيضًا حق من حقوق انتظام الاجتماع البشرية وارتقاء العمران الإنساني.
ولعل في تحلل وانهيار الحضارات والمجتمعات التي جعلت من “المصلحة الدنيوية وحدها”، بل ومن اللذات والشهوات “سقوفًا” وحيدة للحرية، على حين أهملت ضوابط الشرائع الإلهية وحدود الحلال والحرام الديني، ما يزيد الإنسان المسلم استمساكًا بفلسفة الإسلام في الحرية كفريضة إلهية، وواجب شرعي، وضرورة إنسانية يمارسها إنسانٌ مستخلَف لله سبحانه وتعالى في إطار بنودِ عقد وعهد الاستخلاف.
وقياسًا على ذلك، تكون الرؤية الإسلامية لكل ما تعارف الناس في الحضارات الأخرى على وضعه في قائمة “حقوق الإنسان”:
• الحفاظ على “الحياة” ليس مجرد “حقٍّ”، وإنما هو فريضة إلهية وتكليف شرعي واجب، ولذلك يأثم المفرّط في الحياة حتى ولو تم التفريط بالاختيار؛ انتحارًا كان هذا التفريط أو قعودًا عن الجهاد في سبيل مقومات الحياة.
• و”العلم” ليس مجرد “حقٍّ”، وإنما هو فريضة على كل مسلم ومسلمة، يأثم الذي يختار الجهل عليه، وفي بعض التخصصات تصل فرضيته إلى مرتبة الفريضة الكفائية -الاجتماعية- فتأثم الأمة جمعاء إن هي فرّطت فيها حتى ولو كان التفريط طواعية واختيارًا.
• والمشاركة في “العمل العام” ليست مجرد “حقٍّ”، وإنما هي فريضة تطبيقية لفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، التي فيها جماع تكاليف المشاركة في العمل العام.
ولقد أفردت الحضارة الإسلامية المباحث المستقلة والمطولة في هذه الضرورات؛ من مثل الضرورات الخمس وهي: الحفاظ على الدين، والنفس، والعقل، والنسب والعرض، والمال، وذلك قبل قرون عديدة من المواثيق والإعلانات التي صاغها الآخرون حولها أو حول بعضها كمجرد “حقوق”.
لكن الكشف عن هذه الحقيقة يبقى منقوصًا إذا لم ينهض العقل المسلم بصياغة هذه المبادئ والمعالم، في مواثيق مفصلة تقدم الضمانات التي قنّنها الإسلام للإنسان المسلم، ولمطلق الإنسان في سائر ميادين الحياة المعاصرة التي بلغت في التركب والتشعب والتعقيد ما لم تبلغه الحياة الاجتماعية في سالف العصور.
إن العقل المسلم والحركة الإسلامية مُواجهَان بالعديد من التحديات في هذا الميدان.
ما هي “الأشباه والنظائر”؟ وما هي “الفروق” بين فلسفة الإسلام وفلسفات الحضارات الأخرى في “حقوق الإنسان”؟ وأين “الوثائق والإعلانات” التي تصوغ موقف الإسلام في هذه القضية بالتفصيل المعاصر والتقنين الحديث، حتى يرى الإنسان المعاصر في هذا الجانب من جوانب الإسلام، السياج الأوفى بحفظ ما له من ضرورات وحاجيات؟
وأخيراً -وهذا هو الأهم- كيف ومتى سنطبق أحكام الإسلام وفرائضه هذه في الواقع الإسلامي الذي نعيش فيه، وذلك حتى تزول المفارقة الصارخة بين ما ضمنه الإسلام للإنسان من كرامة وتكريم، وبين الواقع الظالم والبائس الذي يعيش فيه هذا الإنسان؟!
ـــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
(1) وردت في ذلك أحاديث عدة أخرجها البخاري ومسلم وأبو داود وابن ماجه وغيرهم، منها: “لا يقولن أحدكم: عبدي وأمتي، ولا يقولن المملوك: ربي وربتي، وليقل فتاي وفتاتي، وسيدي وسيدتي، كلكم مملوكون، والرب الله عز وجل”.