بقلم ا.د. شريف كامل شاهين
إذا نظرت من حولك ستكتشف أن الاختلاف سمة من سمات الحياة..هناك اختلاف بين الكائنات الحية: بشر, حيوانات, طيور, أسماك…. وهناك اختلافات أخرى على أسس متنوعة منها الأعمار والديانات واللغات والمؤهل العلمي والجنسية…..وهكذا. إننا نتعايش وننسجم ونتقبل كل هذه الاختلافات, ولكن حين نواجه اختلاف في الرأي, أو وجهة النظر أو حتى الفعل أو ردة الفعل…فإن الدنيا تقوم ولا تقعد! إن الاختلاف على أساس الرأي أو وجهة النظر يعني لدي الكثير منا(للأسف الشديد) بداية القطيعة وإعلان الحرب وانطلاق العداء…. ليبدأ الفرد في البحث من حوله عن من يؤيده الرأي حتى يضاعف من أنصاره ضد هذا المختلف أو العدو..وتبدأ المعركة.
لنختلف ونتعايش سوياً على أساس أننا من مخلوقات الله المعززة المكرمة التي ميزها الله بعمة العقل عن سائر مخلوقاته. يجوز للابن أن يختلف مع والده أو والدته في الرأي..لكن يبقى بينهما الاحترام والتعايش السلمي دون قطيعة أو حروب أو مكائد.. ليكون هناك منتصر ومهزوم أو رابح وخاسر. نحن نعيش فترة غياب ثقافة التسامح المدني والسماحة الدينية, ولا ترى في اختلاف الآراء رحمة وتنوعاً فكرياً…ويؤكد الدكتور جابر عصفور على أن الاختلاف والتنوع علامتان على مستقبل واعد لمن عقل معنى التسامح وأهميته في فكر الدولة المدنية القائمة على حرية الفكر وحق الخطأ في الاجتهاد والإثابة عليه.[1]
إن الحياة ليست معركة كبيرة أو ميدان حرب… وإنما تعايش ناجح لمن يجيد استخدام عقله!
ماذا لو تعدى الاختلاف الرأي ووجهة النظر ليصل إلى قرارات فعلية وتصرفات ملموسة؟
هل وقع الظلم؟ هل هناك اضطهاد؟ هل هناك قصد ونية لذلك؟ هل طالبت هذا الحق من خلال القنوات الشرعية وبالطرق والأساليب المعروفة والمعتمدة؟ لم يسمعك أحد! لم يطرأ أي تغيير!
لماذا لا تستشير العقلاء والحكماء في الأمر؟ أو تستعين بمن يصل بطلبك لمن تريد؟
إياك والعداء والاستعداء والوقوع في الخطأ…إنها بداية ضياع الحق ونسيان الظلم ونقطة تحول لك من مظلوم إلى ظالم! ستفقد احترام من حولك واحترامك لذاتك! قد تشعر في لحظات بسعادة المنتصر! ولكن لن تدوم هذه اللحظات كثيراً …ستجد نفسك تتنازل عن موقع الهجوم لتقف في صفوف المدافعين الباحثين عن أسباب ومبررات لتصرفاته العدائية! …ولكن بعد فوات الأوان.
لقد أتفق العلماء على أن الاختلاف بين البشر في الأفكار والآراء والتوجهات والمواقف إنما يعود لأحد منشأين:[2]
المنشأ الأول – الاختلاف في الرأي أو وجهة النظر العقلية أو العلمية سواء كان فلسفياً أو فقهياً أو غيرهما وهو المصطلح عليه (بالاختلاف العلمي) وهو المقبول بين البشر لأنه أمر طبيعي خصوصاً بين أهل المعرفة والنظر والرأي من العلماء والمفكرين. وبهذا النوع من الاختلاف هو السبيل لتتقدم العلوم وتنشأ الحضارات، وتنمو المدارس الفكرية والمذاهب الفلسفية وغيرها، وفي ظله يصبح من المألوف أن توجد المذاهب المختلفة والمجتمع الذي لا تنمو فيه هذه الاختلافات هو مجتمع سقيم وهذا ما تشير إليه الروايات بأن الاختلاف رحمة.
المنشأ الثاني – حب الذات والمصالح الشخصية ـ بما فيها الأنا الفردية أو المؤسسية ـ وهو المصطلح عليه (بالاختلاف المصلحي). وهذا النوع من الاختلاف ينشأ عادة بسبب تضارب المصلحة الشخصية أو مصلحة المؤسسة مع المصلحة القيمية أو العامة، ومن هنا تنشأ التمزقات والعداوات والفرقة وتترتب عليه الآثار السيئة والسلبية الخطيرة. هذان هما منشأ الاختلاف بين البشر: فالأول عقل وعلم ورحمة, والثاني هوى ومصلحة ونقمة. إلا أننا نضيف إلى ما سبق دوافع أخرى ومسببات منها على سبيل المثال الاختلاف الإداري أو الصراع الإداري الناجم عن التضارب في المصالح الوظيفية والرغبة في تقلد المناصب الوظيفية الأعلى والصراع من أجل رضا الإدارة العليا والحصول على أعلى التقديرات.. وقد اجتهد البعض في حصر الآليات النفسية التي تجعلنا نرفض الاختلاف في الآتي: كراهية الآخر, والجمود الذهني, والتعصب.[3]
أدب الاختلاف:
يقصد بأدب الاختلاف أن أحترم الذي أمامي بما يقول ويطرح ويفكر وأن أنطلق في محاورته من نقاط الاتفاق لا من نقاط الخلاف. لذلك كان الفقهاء يقولون كلامنا صواب يحتمل الخطأ وكلام غيرنا خطأ يحتمل الصواب, تأكيدا منهم على قبول الرأي الآخر واحترامه.[4] ويمكن أن نقسم أدب الاختلاف إلى ثلاثة أقسام:[5]
أولاً – الآداب الأخلاقية: ومن الضوابط الأخلاقية التي لابد من مراعاتها الآتي: احترام الآخر – عدم سوء الظن (الإحسان بالآخر) – عدم غيبة الآخر – عدم تصيد أخطاء الآخر.
ثانياً – الآداب العلمية: وتشمل: فهم القضية بكل جزئياتها وحيثياتها – القدرة على الحكم وإبداء الرأي – الموضوعية وإنصاف الرأي الآخر – البحث عن الحقيقة.
ثالثاً – الآداب الاجتماعية: وتشمل التكيف وقبول الاختلاف – عدم إسقاط الآخر اجتماعياً – حق إبداء الرأي.
ولنتذكر دائماً ما كان يردده الشيخ الإمام محمد عبده رجل الإصلاح ورائد الاستنارة العظيم في الأزهر[6] من قول منسوب إلى الإمام مالك, يقول فيه “إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مائة وجه, ويحتمل الإيمان من وجه واحد, حُمل على الإيمان”, ولا يجوز حمله على الكفر.[7] [8] [9]
رسالة: علموا أبنائكم أدب الاختلاف!
إن الاختلاف هو سنة الله في عباده لكن يجب أن نعلم أن الاختلاف شيء والتنافر شيء آخر, لذلك لابد أن نعلم أولادنا كيف نختلف والأدب الضابط لذلك. فلا بد أن نعلم أولادنا منذ صغرهم أدب الاختلاف وإقناعهم بأننا لا يمكن أن نسوق العالم كله لأفكارنا دون أن نعطي للطرف الآخر إبداء ما عنده وحرية التفكر والتصرف..كما أن التركيز على هذا الأدب ضمانة أكيدة لأسرة متماسكة فالذي يخالفني في الرأي هو أخي. إننا بتعليم أولادنا هذا الأدب نجتنب نقطتين مهمتين:[10]
– الأحادية : فينشأ الطفل وهو يعلم أن كلامه ليس نهائيا إنما قابل للمناقشة والحوار ولا بد له من تقبل الآخر .
– تجنب الصراخ والشجار: فالذي يظن أنه ضعيف بفكره يستعيض بالصراخ وربما بالقوة العضلية.
النصيحة: التواصي عند الاختلاف أو تبادل الحوار
ذلك أن التواصي بالحق والصبر هو الأصل الأصيل لنبذ الخلاف. وهو تبادل الحوار، وتحري الحقيقة حول وجهة النظر، من خلال جهد مشترك بين المتواصيين، للوصول إلى الحق. فالتواصي يبيح للصغير ما يبيح للكبير، ولكن في حدود ما تفرضه الخبرة والمعرفة وآداب التخاطب في جانب كل منهما نحو الآخر. حيث يكون الحق هو مطلب كل إنسان، ويكون التواصي بالحق وبالصبر في طلبه غاية البشرية في التعاون على تحقيقه.[11]
روح التسامح:
لا بد من إحياء روح التسامح بيننا، وتجنب التباغض وبث روح الأخوة والمودة.[12] إن مبدأ التسامح عظيم، لأننا كلنا أهل خطأ، ونحتاج كثيراً إلى من يصفح عنا ويحلم علينا، ليصنع لنا بذلك معروفاً ندين له به أبداً.[13] كلنا نخطئ، كلنا نذنب، كلنا يحتاج إلى مغفرة، وكم قسونا وكما تجاوزنا الحدود، والذي يبقى في النهاية بكل تأكيد هو التسامح. والحقيقة أن التسامح متى ما كان أقوالاً لا تدعمها السلوكيات، ومواعظ وكلمات لا تبرهن عليها الأفعال، كان التسامح ضرباً من ضروب التدجيل والزيف لترويج البضائع اللفظية.[14] [15]
ليس الباحث عن حق من يبلي الآخرين بتهم ويبحث عن مساندتهم! ليس المظلوم من افترى على الآخرين بالسب والقذف! إن كنت على حق والآخر ظالم فتأكد أن الظلم عمره قصير مهما طال…مع افتراض سيطرتك على أقوالك وأفعالك!
من السهل أن تقذف الناس بالتهم والسباب…إلا أنه من الصعب أن تبرر الخطأ وتحافظ على احترام من حولك! يقولون أن النملة مواطن مثالي, لأنها تضع مصلحة الجماعة فوق مصلحة الفرد.[16] [17]
سامح الآخرين كي يسامحك الله وأرحم الآخرين لكي يرحمك الله.[18]
والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق وهو حسبنا ونعم الوكيل.
_________________________________________________________________
[1] جابر عصفور (2011) ضرورة التسامح – الأهرام, الاثنين 25 أبريل. ص12. تم نقله على موقع :إيلاف” يومية إلكترونية, متاح على الموقع الآتي:
http://www.elaph.com/Web/NewsPapers/2011/4/
649547.html?entry=homepagenewspapers
[2] تعالوا نتعلم أدب الاختلاف. تصفح في 4 أبريل 2011م. متاح على الموقع الآتي:
http://www.annabaa.org/nba46/ekhtelaf.htm
[3] أدب الاختلاف في الإسلام – أبحاث الندوة التي عقدتها المنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة بالتعاون مع جامعة الزيتونة تونس، 20 – 18 من شعبان 1419 هـ / من 10 – 8 ديسمبر 1998م – تصفح في 21 أبريل 2011م. متاح على الموقع الآتي:
http://www.isesco.org.ma/arabe/publications/adabeikhtilaf/adabeikhtilafe.php
[4] البريجاوي, عبد اللطيف – أدب الاختلاف ضمانة لأسرة متماسكة. صيد الفوائد. تصفح في 5 ابريل 2011م. متاح على الموقع الآتي:
http://www.saaid.net/tarbiah/95.htm
[5] تعالوا نتعلم أدب الاختلاف. تصفح في 4 أبريل 2011م. مصدر سابق
[6] الإمام محمد عبده رجل الإصلاح. تصفح في 15 أبريل 2011م. متاح على الموقع الآتي:
http://www.moheet.com/show_news.aspx?nid=6819&pg=67
[7] جابر عصفور (2011) ضرورة التسامح – مصدر سبق.
[8] الإسلام والعقل – القرضاوي. تصفح في 20 أبريل 2011م. متاح على الموقع الآتي:
http://www.elaph.com/Web/NewsPapers/2011/4/
649547.html?entry=homepagenewspapers
[9] الحبيب الجنحاني(2006) التنويريون العرب والدولة المندية – العربي, تصفح غي 20 أبريل 2011م. متاح على الموقع الآتي:
http://www.arabphilosophers.com/Arabic/adiscourse/aeast-west/Modernity%20and%20Multiculturalism/Enlightenment
_Arabs_and_Civil_State/Enlightenment_Arabs_and_Civil_State.htm
[10] تعالوا نتعلم أدب الاختلاف. تصفح في 4 أبريل 2011م. مصدر سابق
[11] المصدر السابق
[12] عبد الله بن بيه أدب الاختلاف –مقدمةٌ إلى مؤتمر لرابطة العالم الإسلامي بمكة المكرمة جمادى الآخرة 1422هـ. موقع العلامة عبد الله بن بيه. تصفح في 6 أبريل 2011. متاح على الموقع الآتي:
http://www.binbayyah.net/Pages/research/Projects/adbkhelaf.htm
[13] مبدأ التسامح … في حياة وسلوك شيخ الإسلام ابن تيمية – تصفح في 21 أبريل 2011م. متاح على الموقع الآتي:
http://www.saaid.net/Minute/m93.htm
[14] المصدر السابق.
[15] التسامح بين الناس
http://resala-elmaadi.yoo7.com/t509-topic
[16] قاموس الحكم والنصائح. تصفح في 25 أبريل 2011. متاح على الموقع الآتي:
http://www.mbahrain.net/vb/archive/index.php/t-62632.html
[17] منتديات إبن النيل. تصفح في 25 أبريل 2011. متاح على الموقع الآتي:
http://ebnalnil.com/vb/showthread.php?t=43293
[18] منتديات الكوثر الثقافية. تصفح في 20 أبريل 2011م. متاح على الموقع الآتي:
http://noor.alkothar.com/vb/showthread.php?t=4467
المصدر : www.cybrarians.info