ما ينبغي أن تكون الصحوة المعاصرة شجرة كثيفة تحجب عن بعضنا غابة الركود الكثيف الذي لا يزال يقبر أكثر الأمة في دياجير الظلمة بمثل أنه ما ينبغي أن نعتبر أن الإنحطاط حالة قدرية لا فكاك منها كلما نختزن أكبر مبدأين في التغيير والإصلاح ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) و ( إنما العلم بالتعلم )..
الإستنان والإبتداع إحتفاء بذكرى المولد : من الجزئيات المفرقة إلى الكليات الجامعة.
ليس هناك أخطر علينا في عصرنا الحاضر من داء النظر الجزئي غير الجامع إلى الحياة والإنسان وقضايانا الكبرى الملحة من مثل الإصلاح والتغيير والنهضة. مثلنا في ذلك هو بالتمام والكمال مثل العميان الذين يتلمسون جسم الفيل الضخم فيصور كل واحد منهم الفيل بأثر ما وقعت عليه يداه فإذا إجتمعوا فجمعوا جزئيات ما وقعت عليه أيديهم فقد إكتملت صورة الفيل عند كل واحد منهم وإذا تفرقوا فتفرقت صورة الفيل عندهم بمثل تفرقها في أيديهم فقد أخطأ كل واحد منهم إصابة صورة الفيل الحقيقية وإستقل بنظره عن أصحابه فإذا نشب بينهم خلاف برز أثر ذلك التفارق على ألسنتهم وأقلامهم سوء فإذا كانوا مبصرين إمتدت أيديهم بعضهم إلى بعض وتفرق شملهم وذهب ريحهم وركن بعضهم إلى عدوهم يستنصره على إخوانه ثم حانت ساعتهم وأزفت هلكتهم وطوتهم الأيام غير مأسوف عليهم.
محاربة البدع الكبرى أولى من الإشتغال بالبدع الصغرى في فقه مراتب الأعمال.
ليس هناك من بدعة بغيضة مفرقة أناخت بكلكلها فوق مفارشنا من مثل بدعة التجزئة والتفرق من بعد وحدة وإجتماع ولا من مثل بدعة خذلان المقاومة دفاعا عن الأرض المحتلة في فلسطين من بعد تحرر وكرامة ولا من مثل بدعة طاعة مغتصبي الأمر دون شرعية إسلامية ولا مشروعية شعبية من بعد الخلافة الراشدة وما تلاها مرجوحة مفضولة حتى وقوع النذير النبوي الصادق قبل زهاء تسعة عقود ( لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة كلما إنتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها أولها الحكم وآخرها الصلاة )..
إذا تبدلت الموازين وإختلت تبدلت بالضرورة أولويات العمل.
ليست تلك قاعدة في الدين أساسا بل هي قاعدة في الحياة يستنبطها أولو النهى بعقولهم غير محتاجين فيها إلى توجيه ديني فإذا زكاها هذا فقد قامت الحجة على الناس عقلا ودينا.
خطران يحدقان بنا : الخطر الذي أنف ذكره أي : توخي النظر الجزئي بدل الجامع إلى الحياة والإنسان ومختلف قضايانا العظمى التي يتحدد عليها مستقبلنا. ليس الخطر الآخر بأقل سوء من ذلك وهو : خطر التصرف منا في حالة التفرق والتشرذم والتجزئ بمثل التصرف في حالة الوحدة والإجتماع. تفصيل ذلك هو أننا ورثنا علما وكتبا وأفكارا دونت وإنتجت ووقع العمل بها أو ببعضها تحت سقف سياسي وحضاري كانت فيه الأمة موحدة أي تصدر في خياراتها الكبرى عن مركز واحد مسؤول عن حماية بيضة الدين بالتعبير القديم وصون الوجود وحفظ أسسه التي لا ينحفظ بدونها من مثل ما ورثنا أي ( الدين والنفس والمال والعقل والعرض أو النسل بحسب الإختلاف في ذلك ).. لذلك لا تجد في تلك الكتب والموروثات تأكيدا كبيرا على الثوابت العظمى بسبب أنها محفوظة من لدن السلطان العام وهي من شأنه رمزيا على الأقل .. لا تجد مثلا في كتب الفقه كلها تقريبا مباحث السلطان والإمارة والسياسة والمال وغير ذلك رغم أنها من صميم الفقه الذي هو علم بالأحكام الشرعية العملية من أدلتها التفصيلية إقتضاء وتخييرا ووضعا كما يقال.. ذلك أن أهل الفقه مطمئنون إلى أن ذلك الضرب من الفقه السياسي والإقتصادي والخارجي ( إلا ما تعلق منه بمباحث الجهاد وهو قليل من قليل ) تحفظه مؤسسة السلطان أيا كان موقفهم يومها من السلطان عملا بقالتهم القديمة ( إمامة المفضول ) وتوسع بعضهم في النكير على الخروج على السلطان حتى بظهور ما لهم فيه من ربهم سبحانه برهان تقديما لمقصد أعلى كبير جدا هو مقصد الوحدة والإجتماع على مقصد آخر أعلى وكبير جدا وهو مقصد الحرية والكرامة والشورى موازنة بين المقصدين وإجتهادا في فقه مراتب الأعمال.
الموازنات الجديدة تفرض بالضرورة إعادة ترتيب في فقه مراتب الأعمال.
أما اليوم بعد أن إندكت عرى الوحدة والإجتماع على إمتداد قرن كامل بالكاد حتى بدت لنا عورات ذلك التفرق المذموم جدا في الشرع الذي عده كفرا في سورة آل عمران.. اليوم ليس لنا من مناص إلا مناص مراجعة أولويات فقه مراتب الأعمال المتعلق بنا من حيث أننا أمة لها ثوابتها العظمى المقدمة وفروعها المؤخرة حسما لذلك بعرضه على الكتاب والسنة أولا ثم على العقل ثانيا ثم على الشورى ثالثا ثم على التجربة التاريخية لنا ولغيرنا رابعا ثم على الإمكانات المتاحة خامسا.. ليس المطلوب وحدة إندماجية لسبع وخمسين إمارة ومملكة عربية وإسلامية ولكن المطلوب توحيد الموقف العام سياسيا وماليا وعمليا في أكبر قضايانا المعاصرة إلحاحية.
إذا لم نجد في كتب السابقين ما يؤكد تلك القضايا فما ينبغي التواطؤ على ذلك بسبب أنهم إجتهدوا لعصرهم إجتهادا يغلب عليه التفريع والتقسيم داخليا وعذرهم في ذلك أن ثوابت الوحدة والإجتماع مكفولة بسلطان واحد لم يتعرض لهجوم خارجي بل كان ذلك السلطان ذاته حتى وهو يزاول ضربا من ضروب التضييق على الحريات الفردية والعامة هو الذي يفتح الأرض للإسلام ويدخل الله بيديه من شاء من عباده في دين الله أفواجا.. وقبل ذلك وبعده فإن محل الإتساء هو القرآن الكريم والسنة وليس سيرة هذا ولا ذاك حتى لو كانت سنة خليفة راشد إلا منهجها العام بسبب عصمة منهجها العام وليس تصرفاتها الجزئية..
البدع الجماعية أولى بالمواجهة من البدع الفردية.
مشكلتنا اليوم أننا نتأسى بالفقه المدون في فروعه وتفاصيله دون مراعاة لفارق الزمان والمكان والحال والعرف أي فوارق التحديات بلغتنا المعاصرة.. معلوم عند كل دارس يفقه موضوع درسه أن ذلك الفقه في فروعه وتفاصيله (وليس في أصوله طبعا ولا قواعده ولا مقاصده) إنما صيغ صياغة فردية لا جماعية من جانب وصياغة دينية لا دنيوية من جانب ثان وصياغة نصية حكمية لا مقاصدية من جانب ثالث.. السبب في ذلك هو السبب ذاته المذكور آنفا أي أن الفقهاء في الجملة بعد إغتصاب الأمويين لحق الأمة في الحكم والسياسة والشورى عكفوا على إصلاح المجتمع وحفظ ثوابته في مناخ سياسي وأمني ملائم يستبعد الإشتباك مع الخلفاء الجدد سيما أن أقدارا من العدل الإقتصادي مضمونة من جانبهم من جانب وأنهم لم يتوانوا في فريضة الدعوة إلى الله سبحانه خارج حدود الأقاليم الإسلامية المفتوحة من جانب آخر..
أين نحن اليوم من كل ذلك تصرفا سياسيا من لدن خلفائنا الجدد وأمرائنا الذين نبذوا مشروعية الإسلام منهجا في الحكم والسياسة والإقتصاد والعلاقات الخارجية جزئيا أو كليا تحت أسياف التهديد أو الترغيب عن كفر مخرج من الملة أو تهاونا وإجتهادا أو إلى غير ذلك مما هو معروف عند طلبة العلم في مظانه.
الجماعية أم المقاصد الإسلامية.
جماع ما تقدم مواجهة للتحديات المعاصرة إتباعا لما ثبتت عصمته من الوحي وإقتباسا من تجارب الأسلاف والأخلاف سواء بسواء منا ومن غيرنا.. جماع ذلك كله هو أن الجماعية هي أم المقاصد الإسلامية. الجماعية هي أم المقاصد الوسائلية والغائية معا على أساس أن الأمة بأسرها مسؤولة عن حاضرها ومستقبلها توحيدا سبيله العلم ( سورة الرحمان ) وإجتماعا موحدا بالشورى والكرامة ( سورة الشورى ) وقوة مادية وعسكرية تظفر بالرغد وتنتصر للمظلوم منا أو من غيرنا ( سورة الحديد ). تمل في كل ما إستنبطه المستنبطون من مقاصد الإسلام عقيدة وعبادة وخلقا وشريعة في مختلف الحقول داخلية وخارجية لتلفى بيسر أن السبيل إلى ذلك كله هو الجماعية أي : التدين الجماعي يستوي في ذلك التدين المسمى اليوم شخصيا من مثل الصلاة والصيام والزكاة والحج ( العينيات ) مع التدين الجماعي ( الكفائيات). تلك هي طبيعة الإسلام الذي مدحه شارعه بقوله ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا) وليس لمسلم أن يبدل طبيعة الدين ولكن يحسن به حسن فقه روحه وفهم طبيعته حتى ينسجم معها.
الشيخ الهادي بريك الحوار نت