هما عينان ما أغرتاني :
عين ” دينية ” جار التراث على جزء غير يسير فيها من الوحي جوران الفقه الذي هو كسب بشري على الشريعة التي هي وحي منزل معصوم. ستسمع من أكثر رجال الحقل الديني كالعادة في خطبة الإضحى أمثلة من ذلك ( لا تجوز الخرقاء والهتماء والعوراء إلخ ..) ويظلون عاكفين على تفاصيل لا هي صحيحة ولا هي مطلوبة بالمقام الأول. بطلان القول بعدم جواز مثل ذلك ظاهر إذ كان عليه السلام لا يزيد على حث الأصحاب على حسن إنتخاب أضحياتهم عافية وكمالا بحسبانها هديا وقرابين يتزلف به العبد إلى ربه وهي من باب الترغيب لبلوغ الكمال وليس عزائم نكذب فيها قولا بعدم الجواز الشرعي أي الحرمة ولا حتى الكراهة. هب أنك ألفيت في رواية متروكة ( لا يجوز ) .. التأويل هنا ترغيبي كمثل قوله الصحيح ( غسل الجمعة واجب على كل محتلم ) فهل لو لم تغتسل لها بطلت ؟ طبعا لا. هل تجد ذلك المعنى اليوم عند خطيب؟ فضلا عن تأخر الوعي كثيرا بأن المذهب الأصولي الذي يسوي بين القرآن الكريم وبين السنة مطلقا هو مذهب مرجوح بل لم يكن العمل به إذ لا يسوي العاقل بين أصل وفرعه. بل هب أن ذلك صحيح .. هبه جدلا فحسب .. أليس الأولى ربط الناس بالحكم والعبر والدروس التي علينا إستيقاؤها من الأضحى لعلنا نفيد تدينا أرشد وحياة أعبد؟ أكثر أولئك سجنوا أنفسهم في ما دوّن في بطون الكتب في أيام كانت الأمة فيه واعية بعزائم أمرها لا تقدم السنة على القرآن ولا الفرع على الأصل ولا الحاجي على الضروري وحتى لو إختل شيء من ذلك فإن الأمة مقودة بسلطان ـ فيه من الجور ما فيه ـ ولكنه يحفظ بيضتها أن تنتهك بالكلية أو مرجعيتها الفكرية أن تشغب عليها الوثنيات العالمانية والأسطورية الخرافية التي نرزح نحن تحتها اليوم. بل هب أن ذلك عار عن الصحة .. هبه جدلا .. هل يجوز لخطيب أن ينبه الناس إلى ما يغرقهم فيه إغراقا بليدا ودونهم ودون ذبح أضحياتهم دقائق معدودات؟ هل حق هذا ” الفقه ” التأخير إلى آخر ساعة؟ ماذا يفعل المسكين الذي لم يجد غير هتماء أو عوراء أو من لم يسبق له بذلك علم؟ عين يفترسها الإنحطاط عن الدين وعن الواقع معا ما أغرتني يوما.
وعين ” دنيوية ” تنسب نفسها إلى العلم والعصر والعقل والحضارة والترقي تظن الإضحى عادة إسلامية أو تقليدا عربيا عفوا من كل عبرة فهي مناسبة للأكل والشرب والفرح واللهو ويكون الأضحى محطة للإستراحة من شغب السياسة ونكد الإقتصاد فحسب. هي عين يفترسها الإنبهار الأعمى بما وراء المتوسط وما هي ببالغة منه شيئا. عين ما أغرتني يوما.
وبين العينين الحولاوين أبصر عينا ثالثة أخرى هي عين الوسطية الإسلامية التي تفقه الإسلام أنه هدية الرحمان لعباده لأجل نشدان مصالحهم ومنافعهم في الآجلة والعاجلة وأي عبادة في الدين ـ أو عمل في الإسلام ـ لا يحمل لصاحبه والناس معه مصلحة أو منفعة عاجلة ـ أجل. عاجلة ـ فما هي إلا زور مزور. تلك هي العين الأخرى التي جعلت معاذا رسوله إلى اليمن عليه السلام يأخذ من أهل الصدقات ـ صدقتي مال ورأس ـ ألبسة وأقمشة بدلا من العين أي قيمة العين أكسية لما رأى أن حاجة الناس هناك إلى الملبس أوكد ويستمر الجدل بيننا اليوم في دفع القيمة بدل العين. لم؟ لأن العين الثالثة فينا ـ العين التي تنظر إلى حال الناس ما ينقصهم وما يطحنهم ـ إنطفأت إنطفاء العنبة التي يبست فجف ماؤها.
فقه الإضحى بالميزان القرآني الأعظم المقدم.
1ـ فقه الطاعة المطلقة والتسليم الكامل : أصل الأمر كما هو معلوم هو إقدام إبراهيم عليه السلام على ذبح وحيده إسماعيل ـ وقد بلغ معه السعي ليكون له وزيرا عزيرا على بلاءات الدنيا ـ بحسب رؤيا رآها في المنام. يذبحه هو بنفسه بمدية في يده. سل نفسك : لم كان ذا أصل الإضحى الذي نحتفل به مرة في كل عام؟ لن تلفى جوابا أيسر وأصح من أنه سبحانه يريد منا طاعة وتسليما وعبادة ورضوخا وخنوعا بمثل ما ألفى من إبراهيم عليه السلام وإسماعيل. عندما نقدم على ذبح أضحياتنا ونحن عن أصل القصة غافلون .. أي معنى للأضحية وأي معنى للفرحة؟ تصور لو طلب منا سبحانه عزيمة مثل هذه أي ذبح أبنائنا بمدياتنا وبأيماننا. إذا كان الله قد خفف عن هذه الأمة فلا أقل من أن نكون من الشاكرين ليسره وفضله. لذلك إتخذه سبحانه خليلا وهي المرتبة التي لم يعلها غيره. عبد مخلوق يكون لربه سبحانه خليلا؟ بم؟ بالطاعة المطلقة وبالتسليم الكامل. قارن هذا مع المشهد الإسرائيلي البائس إذ ضن السفهاء على أنفسهم حتى بذبح بقرة فظلوا يتملصون حتى ذبحوها وما كادوا يفعلون. سل نفسك : هل أنا إلى الخلة الإبراهيمية أدنى بطاعتي وتسليمي أم إلى البهتان الإسرائيلي؟
2 ـ فقه التضحية : إنما سمي عيد الإضحى لما فيه من تضحية. الأضحية هي إسم المرة والتضحية هي مصدر غير أصلي لأن المصدر الأصلي هو الإضحاء من ضحى يضحي. سميت أضحية إما نسبة إلى التضحية أو إلى الضحى لأنها تذبح ضحى في العادة ولكن لا جناح على ذلك في أي ساعة من نهار أو ليل في غضون أربعة أيام كاملات .العبرة من فقه التضحية هو أن الحياة بنيت على قانون الإبتلاء لما فيها من إمتحانات وأشواك وإختبارات إذ هي دار عبور لا دار قرار. كان على إبراهيم عليه السلام أن يضحى بفلذة كبده الذي رزقه وهو في آخر حياته ولم يرزق سواه غير إسحاق عليهم السلام جميعا. كان ذلك عليه نافلة ـ بالتعبير القرآني ـ ليرتقي إلى مصاف الخلة الإلهية إذ الغنم بالغرم كما يقول المناطقة والفقهاء. غنمت يا إبراهيم خلتي فيكون غرمك ذبح إبنك. ذلك هو منطق الحياة. إنما يخترمنا النكد من جهة واحدة عنوانها أننا ظننا أنها دار قرار ولا دار فرار. ومن ذا نضبت التضحية فينا وغاض الإيثار فعربدت الأنانية وتبرج الإستئثار. فما نذبحه إنما نفعله تضحية لأجل تسجيل نقطة أخرى إضافية ضد النفس الأمارة بالسوء. نفعل ذلك اليوم ربما بلا عنت ولا عذاب لأننا نأكل لحم الأضحية بالكلية وشتان بين من يضحي بفلذة كبده وبين من يضن على نفسه حتى بلحم يعرف أنه سيأكله هو. الأضحية عنوانها : الحياة لا تقوم إلا بالتضحيات مالا وبدنا وجهدا وفكرا وراحة وغير ذلك مما أوتينا. فإن ذبحنا الأضحيات ثم قبرنا فقه التضحية حتى عام قابل فما فقهنا منها شيئا.
3 ـ فقه اليقين في الله والأمل فيه : يكاد فقه الأضحية كله ينحصر في الكسب الإبراهيمي مثله مثل الحج الذي نتأسى فيه به عليه السلام. لما عزم عليه السلام ومعه إسماعيل على التسليم ( فلما أسلما وتله للجبين ) لأمر الله سبحانه بلغ اليقين منه مبلغا ما عليه من مزيد لمستزيد. عندها ـ وليس قبلها حبة خردل ـ جاء البدل وحل العوض وأستحق الجزاء إبراهيم وإسماعيل. ( وفديناه بذبح عظيم ). العظة هنا هي أن من يطع الله سبحانه فيما إشتهت نفسه وفيما إستكرهت طاعة تبلغ درجة اليقين والأمل والرجاء .. يبدله ربه سبحانه خيرا مما أخذ منه. ولذلك تجد القصص القرآني يعقب بكلمة ( ذلك ) التي توحي بأن ما نظنه بعيدا ( هي إسم إشارة للبعيد ) في التحقق آت لا ريب فيه بل هو على مرمى طرفة عين. لكننا نخلط في الزمن إذ كان لا بد أن يفدى إبراهيم وإسماعيل في الحال لأنه لو لم يفديا لوقع الذبح وهو غير مقصود إنما مقصوده الإبتلاء والإصطفاء وما نقدمه نحن اليوم لا ضير فيه أن يتأخر الفداء عليه لأن المسألة لا تتعلق بنفس سيهرق دمها فلا يعود. من أراد الإستعجال نقول له : كن في المستوى الإبراهيمي ويأتيك الفداء على جناح السرعة. لو فقد المرء اليقين في وعود الإسلام بتعبير رجاء قارودي ـ عليه الرحمة ـ أو فقد الأمل في ربه سبحانه فهو إلى الإنتحار أدنى ولكنه ينتحر بمدية دامرة تقتل منه كل يوم شريانا. ذاك هو يقين محمد عليه السلام وهو يقول لصاحبه في الغار ( لا تحزن إن الله معنا ). وذاك هو يقين موسى عليه السلام وهو يقول للإسرائيليين ( إن معي ربي سيهدين ).
4 ـ فقه التكافل المادي بين الناس ورص الصف : من يرجع إلى سورة الحج التي فصلت في الأضحيات والذبائح يلفى أن الأضحيات ـ ومثلها الذبائح كلها ـ ما شرعت إلا لمقصد واحد أعظم عنوانه : إطعام الجوعى وفصل فيهم فمنهم ( القانع والمعتر : القانع هو الفقير الذي لا يسأل الناس والمعتر هو المسكين الذي لجأ ـ أو ألجأته الضارة المضرة ـ إلى التعري ليكون مشاهدا حاله من الناس أو إلى السؤال بسبب ذلك) ومنهم ( البائس الفقير : وهو الذي بدا بؤسه عليه منظرا وملبسا ولكنه أدنى درجة من المعتر لأن بؤسه لا يجلعه عريانا إلا لأولي الألباب ). يقول ويكرر ( وأطعموا منها ..). لذلك نضحي نحن اليوم ولا نتعرض لعنت لأننا سنأكل اللحم لوحدنا وقليل منا من يطعم الناس وأقل منهم من يطعم قانعا أو معترا أو بائسا مسكينا. والحيلة التي مردنا عليها مرودا هي : لم أجد في بلادي ولا يوجد فيها أصلا من يمكن إطعامه. تجربتي في الحديث مع هؤلاء تقول لي : لا فائدة في أن تذكر لهم الجمعيات الإغاثية والمنظمات الدولية التي تملأ الدنيا وتقتحم علينا مخادعنا بالتواصل الإجتماعي الإفتراضي .. لا فائدة من ذلك لأنهم أعلم به منك ولكن جمعوا بين الإثمين : إثم الإيثار الكالح وإثم التجاهل لوجود المحتاجين. ولو كان في سعيهم ذاك مصلحة لهم لجابوا الأرض مشرقين ومغربين ولكن بعدت الشقة كما قال سبحانه.. معنى ذلك هو أن الأضحية إنما هي لإطعام الجوعى تكافلا بين الناس وليس التكافل مقصود لنفسه إنما يقصد منه رص الصف الداخلي فلا يتسلل إلينا ما يبشر به الشيوعيون أي الصراع الطبقي ثم دكتاتورية البروليتاريا. ولذلك جاءت السنة بأكل الثلث وإدخار الثلث والتصدق بالثلث. هي سنة من السنن الكثيرة التي أهملناها. قل لي بربك : أي سنة أرجى لك عند ربك؟ هذه التي فيها مشقة على النفس أم سنن أخرى كثيرة لا عناء لك فيها إنما هي عمليات بيولوجية غريزية؟ ألست تؤمن أن الجزاء على قدر البلاء دون أن تتعمد البلاء ولكنه آتيك بسبب قيام الحياة على قانون الإبتلاء. ومما يساهم بمناسبة الإضحى في المقصد الأعظم أي رص الصف تلاقينا وإجتماعنا تعبدا وذكرا وأكلا وشربا ومرحا ولهوا وغير ذلك وتبادلا للتهاني والزيارات. وأثقل كلمة هنا هي : لا أضحية ولا عيد ولا قربى للمتخاصمين اللذين ـ أحدهما أو كلاهما ـ لا يفشي سلاما ولا يرده في الحد الأدنى. أجل. ذاك إيماني والنصوص عندي صحيحة. لا صلاة ترتفع لهما فوق رؤوسهما شبرا واحدا. الإسلام هنا متشدد لأن المسألة متعلقة بوحدة الصف ومن خرق الصف خرق.
5 ـ فقه الإحسان : الإحسان في الإسلام هو أعلى درجات الأداء مثله مثل الإتقان وفي كليهما حديث صحيح. ولكن لنا في الأضحية ـ والذبح بصفة عامة ـ حديث آخر مثلهما صحة وهو حديث متعلق بالإحسان كذلك ( إن الله كتب الإحسان على كل شيء. ) ذاك هو جذر الحديث المنتسب إلى الحديث الآخر أي ( الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك ). ولكن ما ورد من كلام بعده فما هو إلا مثالا ( فإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة وإذا قتلتم فأحسنوا القتلة وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته ). أكثر الناس اليوم يفهمون مثل هذه النصوص فهما لا ينفصل منها جذر عام مطلق على فرع ومثال. مثل ذلك مثل حديث النية الذي مثل لها بالهجرة. المؤمن الذي يريد النصح لله يميز بين الجذر وبين الفرع محل التمثيل. إذ لو لم تفعل ذلك لترسب فيك أن الإحسان لا يكون إلا في الذبح والقتل ولا تكون النية إلا في الهجرة. فهل تقول بذلك؟ دعنا من ذلك لنخلص إلى فقه الإحسان ـ الذي هو الإتقان ـ. الأضحية تعلمنا فقه الإحسان. أي توخي الإحسان والإتقان حتى في الذبح ولذلك جاءت نصوص كثيرة تشرح هذه العملية التي لا نظن فيها مثل ما قيل فيها ( قد ذبيحتك إلى الموت قودا جميلا ) و النهي عن ذبح ذبيحة على مرأى من أختها سواء كانت الأخرى ستذبح أم لا. من ذا ومن بعد كل عملية ذبح ـ أضحية أو غير أضحية ـ نتعلم فقه الإحسان في الحياة وفن الإتقان في العمل وهو الأمر الذي تقلده غير المسلمين في أمريكا وأوروبا فمنحهم سبحانه ثوابا عليه في الدنيا بقدر طاعتهم. بقي أن ألتقط هنا أن جذر الإحسان إنما إرتبط بمثل الذبح بسبب أن الإنسان عادة لا يخطر بباله الإحسان والرفق بالحيوان في حالة الذبح وهو شعور لا يبتعد عن العفوية كثيرا سيما لإنسان ورث من زمانه شيئا من الغلظة والجلافة. هذا الذبح الذي نعيشه مع داعش بالصوت والصورة .. أي مكان فيه للإحسان والحديث نص قطعي في وجوب إحسان القتلة. حتى المقتول بحق لا بد من إحسان قتله.
6 ـ فقه التميز بشعيرة الأضحية : جعل سبحانه لكل أمة منسكا .. وكذلك إختلف الدين في شرائعه وشعائره وظل جذره العقدي التوحيدي ثابتا راسخا. وإعلاء الشعائر وكذا الشرائع وتعظيمها مطلوب لإحسان التميز بين الناس ولا تكن ممن لا يميز بين التميز وبين التمييز. التميز مطلوب لأنه أمارة هوية والتمييز يعالج بحسب مرماه. ( والبدن جعلناها لكم من شعائر الله ). الأضحية إذن شعيرة ومن وظائف الشعيرة إكتساب التقوى العاصمة من الكبائر والباعثة على الواجبات. ( لن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ). لا ينتفع الله بشيء من أضحياتكم ولكن التقوى تنتفع بذلك. ولي مع هذه الآية ذكريان حزينان : الذكرى الأولى هي أني صليت خلف إمام في إضحى 2011 على ما أظن وظل الرجل يقرأ علينا من ورقة بيده حتى وصل هذه الآية فرفع كلمة الله فيها ثلاث مرات متتاليات وهو يرتبك لعلها تكون مفتوحة وفي نهاية المطاف أصر على رفعها لا يلوي على شيء فحوقلت جهرا دون وعي مني. ثم قلت في نفسي : حرام والله أن يصل مستوى هؤلاء إلى هذا الدرك المخزي. في أي شيء يمكن أن يتخصص خطيب إذا كان لا يفقه من لسان العرب شيئا ولا من كتابه الذي به يهدي الناس شيئا سيما في هذا الموضع من سورة الحج. الذكرى الثانية مازالت رسومها مثبتة في ألمانيا إذ أن هناك ترجمة للمصحف الشريف ـ أظن أنها أكثر الترجمات إستخداما وهي فعلا محل إعجاب ـ ترجمت فيه هذه الآية على أساس أن الله سبحانه يناله التقوى منا. وهو خطأ عقدي فاضح. كتب الفقير إلى ربه في ذلك مقالا أو مقالين قبل زهاء خمسة عشر عاما ثم حفظت القضية ضد مجهول. ربما تعذر الرجل القائم على الترجمة ـ ربما فحسب ـ بسبب أن التركيب العربي هنا غير مألوف. إذ من المرات القليلة جدا ـ في القرآن مثلا أظن أنه الموقع الوحيد ـ أن يتقدم المفعول به عندما يكون ضميرا ظاهرا فاعله. وذلك ليكون معنى الآية : ولكن ينال التقوى منكم ذلك أي ينال التقوى منكم لحومها ودماؤها والنيلان هنا هو نيلان معنوي أي بأثر من الإيثار والتضحية وغير ذلك. وعندما رجع هذا المترجم بالضمير على الله سبحانه إختل المعنى إختلالا رهيبا وصار المعنى : ينتفع الله بتقوانا. وسبحان من لا تنفعه طاعة الطائعين ولا تضره معصية العاصين.
7ـ فقه الذكر والشكر : هذا موسم الذكر حقا لقوله في ذلك مرات بعضها في البقرة وبعضها هنا في الحج وهو أحيانا يسميها أياما معلومات وأحيانا معدودات لقلة عددها. والشكر ضرب من ضروب الذكر دون ريب. وليس المقصد الأسنى من كل ذكر سوى طرد الغفلة وفتح أوردة القلب لإستقبال نعائم التفكر والتدبر والتأمل والنظر وكل ذلك يسمى ذكرا لأنه ضد الغفلة ومن يأتي ذا لا يسعه سوى أن يشكر ولي نعمته سبحانه ويسبح بحمده وغير ذلك مما يغذي القلب بالإيمان ويجدده بالتقوى. نشكره سبحانه لأنه أنعم علينا بالأنعام التي نذبحها ونأكل لحمها وفي ذلك إيلام لها ولكن لأجلنا نحن أحل لنا ذلك. كما نشكره أنه سبحانه شرع لنا دينا فيه مثل هذه الشعائر التي تيسر إجتماعنا وتلاقينا وتؤلف بين قلوبنا وتزيدنا تعارفا والتعارف يولد التعاون والتعاون يجفف منابع الإختصام والإحتراب. ولكن ما الذي يحصل اليوم ضمن الإنقلاب الديني في حياتنا. الذي يحصل هو أننا نرفع بالذكر ألسنتنا جماعة في عقب الصلوات في تلك الأيام ثم ينتهي كل شيء. ولم يكن الأصحاب يفعلون ذلك ولكن كانوا يقبلون على الذكر في هذه الأيام كأكثر ما يكون الإقبال حتى جاءت الروايات أن الوهاد والنجاد تردد أصداءهم به. ليس مستقذرا أن نفعل نحن اليوم ذلك ولكن الفقهاء الذين تبنوا ذلك إنما أرادوا التنبيه أن نغفل وكأنهم يقولون للمصلين بعد الفراغ من الصلاة : لا تنسوا أيام الذكر هذه. وليس يقولون لهم : ها قد ذكرتم ثلاثا في عقب الصلوات الخمس ولا حرج عليكم من بعد ذلك ولا تثريب.
هذه إهتمامات تديننا المزيف :
1 ـ تحويل الرغائب إلى واجبات من مثل قول كل خطيب تقريبا يوم الإضحى أنه لا يجوز شرعا التضحية بالعوراء والهتماء وغيرهما ولو تدبروا من فقه الأضحية شيئا لما تجرؤوا على الكذب وكانوا للناس رحمة يدعونهم إلى التكافل ورص الصف أن يشعر بالضيق والحرمان في مثل هذا العيد فقير أو مسكين أو محتاج.
2 ـ إلزام الناس بعدم الذبح قبل أن يفعل ذلك أئمتهم. وهي مسألة مختلف فيها أولا حتى عندما كان هناك للأمة إمام واحد ومن عرف المقصد منها ـ عند ثبوتها وما هي بثابتة عند التحقيق العلمي الصحيح فلم يرد فيها من الوحي الصحيح شيئ وكفى بها بذلك صغيرة لا تقدم ولا تؤخر ـ ما رفع عقيرته بالتذكير بها وتحديد وقت لها. المقصد منها ـ وهي عندي لم تثبت ثبوتا صحيحا يجعله دينا ـ هو إتباع الإمام الذي كان يومها محمد عليه السلام ومن بعده الخلفاء الراشدون المهديون الأربعة عليهم الرضوان. المقصد منها عندما كان الإمام واحدا هو غرس الشعور عند الناس بوحدة الإمامة ووحدة الأمة فهو إمام الصلاة وهو إمام السياسة وهو إمام الحرب وهو إمام الذبح والشعائر وغير ذلك ولكن عندما صار لنا في كل شبر من الأرض مأمة وإمام فقد سقط ذلك حتى لو ثبت وما هو بثابت. إذ التذكير بذلك اليوم يعني العمل ضد المقصد بالتمام والكمال أي لا بأس أن نكون دويلات ممزقات مفرقات ولا بأس أن نكون داخل تلك الدويلات شيعا وطوائف ولكل شيعة إمامها ولكل إمام طقوسه. وعندما يأمر الخطباء بذلك وهم عن المقصد غافلون ويتبعهم الناس وهم مثلهم .. أي نكهة للتدين ؟؟؟ قل لي بربك. أليس الدين متعة ونكهة وفنا وجمالا وكمالا ورقيا وتحضرا ؟؟؟ أم هو طلسمات مسودة وشعوذات مدلهمة على دين المسيحيين أي أغمض عينيك وإتبعني.
3 ـ إفساد قربى الإضحى بالشركيات. الإضحى والذبح وسيلة والغاية منها : تخليص التوحيد الصافي لصاحبه الحق الأوحد سبحانه ( فصل لربك وإنحر ). أصلها ( فصل لربك وأنحر لربك ). شهدت هذا يوما ـ بل أياما ـ بعيني هاتين إذ يؤتى للذابح عند أضحيته ببخور قيل أنه يجلب السعد أو لا أدري ماذا من الخرافات الشركية الطويلة والعبادات الأسطورية المشعوذة التي شغبت علينا. بل تؤاكل الذبيحة شيئا من التبن وتشرّب ماء .. قلت في نفسي ربما يكون ذلك معالجة بدنية .. ربما على كل حال ولكن أهل الذكر هنا هم البياطرة وليس أنا ولا أنت. ولكن ما ورد ذلك في السنة ولكن العجب العجاب المدهش هو جر النفس إلى قوله تعالى جرا ( وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون ). أي قلما تجد مؤمنا يدعي الإيمان أو يدعى له ذلك إلا وفيه من الشرك حظ ونصيب. هل الإيمان الخالص معجز إلى هذه الدرجة أو هو عسير صعب المنال؟ عجبا والله. إنما العسر في التدينات الشركية التي ولغنا فيها.
4 ـ إشتراط القبلة : هو كإشتراط العصا للإمام الخطيب ولكم عنفني بعضهم مرة بالقول تعنيفا إذ فرضت علي ظروف الخطبة والإسترسال في الحديث أن أمسكها قليلا بيسراي .. يعني تتحول فينا الصغائر إلى كبائر والرغائب إلى واجبات .. ليت شعري وأي محل للعصا من الرغيبة أصلا.. لا وجود لها أصلا وهي فعل لا ندري الحكمة منه وقد تكون بشرية خالصة ولم يصاحبها قول فهي إذن مترددة بين العادة وبين الترغيب الواهن جدا وبين حاجة بشرية .. وهب أنها رغيبة واهنة .. أي ضر في مسكها بيمينك أم شمالك؟ وكإشتراط غطاء الرأس له. وبذلك يتحول الدين عندنا فعلا ودون أي تردد إلى كنسية مسيحية مغالية في الشكلانية الظاهرية الحريصة على التدين الميكانيكي الآلي فتدفن الروح في أقبية سجون الغفلة. هل إنفرد عليه السلام يوما بلباس غير لباس المشركين؟ أبدا والله. متى نعي أنه رسول بعث فينا لتغيير العقول والنفوس والأرواح وطرائق التفكير ومناهج العمل وبناء الإنسان وإرساء قيم الفعل والإيجابية والتضحية والإجتماع وليس هو نبي طائفة أو ملة أو نحلة حريص على الشكلانيات. إشتراط القبلة في الذبح هو مثل ذلك بالتمام والكمال. ليس من شروط الذكاة القبلة أبدا. فإذا توجهت للقبلة فهو من باب التبرك ونعم العمل هو ولكن حتى لو تعمدت الذبح لغيرالقبلة غير هازئ بالقبلة ـ التي هي قبلة الصلاة فحسب تعبدا ـ فما عليك من حرج ولا تثريب. ولكن إشتراطها شرطا مثل إشتراط التسمية والتكبير مثلا أو مثل إشتراط الرحمة بالمذبوح أو غير ذلك مما كبره الدين وقدمه .. ذلك كلام ضال مضل. هو كإشتراط الختان لإعلان الإسلام مما يمارسه بعض المفسدين في أوربا بإسم الدعوة. هل الدين مخروم النظام إلى هذا الحد فلا فرق فيه بين فريضة وبين رغيبة أو بين محرم لأجله وبين محرم لأجل غيره أو بين شرط وبين سبب أو بين ركن وبين سنة أو بين مطلوب للإستعجال وآخر للتراخي أو غير ذلك من التراتبيات المعلومة؟ أم أن سرطان الإنخرام فينا وليس فيه؟
5 ـ ذبح المرأة : هنا ينتفض عبيد الفكر السلفي إنتفاضة الديك المذبوح. لا بل دعني أقول ينتفض المسلمون كلهم إلا قليلا منهم ممن طلب علما فأفاد خيرا. ليت شعري من نتبع نحن؟ هل نتبع محمدا عليه السلام الذي أقر ـ في البخاري الذي هو أصح كتاب بعد الكتاب العزيز ـ ذبح إمرأة وأظهر إعجابه لذلك بقوله ( أسهموا لي منها بسهم ) فهل يأكل هو لحما حراما أم يجامل المرأة أم يسكت عن الحق؟ أفيدوني لعلي مخطئ بربكم. أم نتبع الناعقين الذين يسعون ـ ولست أدري والله لأي سبب ولأي علة ـ إلى سجن المرأة وحرمانها حقها المقرر من رب الناس. لو قلت لي : المرأة تخشى الذبح وتهابه فهي عليه أبعد ولا بأس أن يتولى ذلك الرجل لتألفه به .. قلت لك : أي والله. ولكن أن تقول لي بإسم الدين : إضطرت إمرأة ـ أو إختارت ضمن عائلتها لسبب ما ـ إلى ذبح ذبيحتها أضحية أو غير أضحية فلا يجوز أكلها فهي مثل الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير ..أقول لك : أخشى عليك والله أن تقع تحت دائرة أعظم ذنب أي القول على الله وعلى رسوله عليه السلام بغير علم. إذا كانت تقاليدنا في إتجاه فلا يعني أن مخالفتها هي مخالفة للدين. قرأت في كتاب فقه مقارن معتمد في البرنامج العربي عموما ( الفقه على المذاهب الأربعة لصاحبه المرحوم الجزيري ) ما مفاده أن المرأة لا يجوز لها الذبح وعليها الصياح والعويل سبع مرات طلبا للنجدة من فحل إن هي وجدت في وضع إضطراري بسبب وشوك شاة على الموت مثلا. قرأت ذلك عام 1994 ضمن دراستي للكتاب فأنتابني الذي إنتابني. لم؟ لأني سمعت هذا الكلام نفسه من أمي الأمية عليها الرحمة وأنا طفل يافع صغير لا أفقه من الحياة شيئا. أحصيت من ذلك المرجع في الفقه المقارن والله العظيم أزيد من عشر مخالفات فقهية صريحة صحيحة هذه واحدة منها. ثم نسأل أنفسنا : أين الخلل؟ الخلل يا صاحبي وعيت أم لم تع في تراثنا ومدونات فقهنا نفسه. الخلل فينا نحن وليس سوى فينا نحن.
خلاصة المقالة :
الإضحى بما فيها من شعائر وشرائع هي محطة سنوية قارة تجعلنا على درب الخلة الإبراهيمية بما ضحى الرجل بفلذة كبده وليس بكبش أعور أو شاة عجفاء وبما أطاع وسلم لله تسليما عسانا نكون على ملته السمحة كما ترجمها ولده محمد عليه السلام. الأضحى محطة يقين في من خزائنه لا تنفد ولكنه يبتلينا إبتلاء للتأهيل وهو فادينا قطعا بما فدى به عبده إبراهيم ولكننا قوم نستعجل. الإضحى محطة تكافل وتضامن وتعاون وتآخ ورص لصفنا المبعثر. الإضحى تعلمنا الإحسان الذي تعلمه غيرنا فأحتلنا به وهو بضاعتنا. الإضحى عبادة تنمي فينا التوحيد الخالص فلا نغش أنفسنا فيها بالشركيات والخزعبلات والأساطير والخرافات. الإضحى مناسبة دينية ووطنية معا لإعادة لحمتنا متانة قدر الإمكان فإذا ضحينا اليوم وأكل بعضنا مع بعض وفرح وضحك ومن الغد سننا أسياف الجور بعضنا على بعض .. فأي معنى للإضحى. بل يكون الإضحى كذبة كبرى.
كذلك أفهم ديني : رسالة تحريرية جامعة في كل شعيرة منه وكل شريعة. فإما أن أتقدم على درب التحرر ومن موبقات نفسي أولا من بعد كل شريعة أو شعيرة أو عمل مهما كان صغيرا أو كبيرا وإما أن أكون إسرائيلي الهوى : أتصنع التقوى وأنا الذئب الكاسر في ثوب حمل وديع.
الهادي بريك ـ مدنين ـ تونس