يكثر في هذه الأيام الحديث عن التطرف و الغلو في الدين أمام تنامي أعمال العنف التي تقام باسم الإسلام. سنحاول في هذا المقال تعريف هذه الظاهرة، وبيان بعض اسبابها واقتراح الحلول العملية لمجابهتها.
تعريف الغلو:
الغلو هو تضخم مفهوم ما من مفاهيم الدين، أو ركن من أركان الدين ، أو عبادة أو شعيرة من شعائر الدين على حساب الأركان الاخرى على خلاف حجمها الحقيقي الذي شرعه الله.
وكما أن التضخم في الاقتصاد قد يؤدي إلى كوارث ، وكما يؤدي تضخم بعض الخلايا في الجسم إلى تحولها إلى خلايا سرطانية، فإن تضخم بعض أركان الدين قد تؤدي إلى عواقب وخيمة على مستوى الفرد والمجتمع والأمة.
وقد حذرنا القرآن الكريم من الوقوع في الغلو ، وقد جاء ذلك في في عدة مواضع: “يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقِّ” (1) . وقال تعالى ” قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيرًا وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ” (2) .
ويحذرنا الله تعالى من الوقوع في التضخم كما وقعت فيه الأمم التي من قبلنا.
فمحبة الرسل تضخمت عند النصارى قد تتحول إلى عبادتهم من دون الله. وتضخم تعظيم العلماء والرهبان يمكن أن تتحول بدورها إلى اتخاذهم أربابا من دون الله.
” اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدا لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون” (3)
وتضخم الزهد يتحول إلى الرهبانية: “ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم الا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها” (4).
ولقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من الغلو والتشدد في الدين فقال : “هلك المتنطعون” (5) قال النووي : أي المتعمقون المغالون المجاوزون الحدود بأقوالهم وأفعالهم . (6)
وفي حديث أنس رضي الله عنه في قصة الثلاثة الذين سألوا عن عبادة الرسول صلى الله عليه وسلم فكأنهم تقالّوها , ثم ذكروا غلوهم في العبادة والدين , فقال صلى الله عليه وسلم ” إني أخشاكم لله وأتقاكم له ولكني أصوم وأفطر وأصلي وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني” (7)
ولنا في تاريخنا الإسلامي أمثلة كثيرة لانحرافات وقعت بسبب التضخم في بعض مفاهيم الدين.
فتضخم مفهوم القدر أدى إلى الجبرية ونفي مسؤولية الإنسان على أفعاله وتعطيل قانون الأسباب.
وتضخم تعظيم بعض الصحابة أدى إلى تأليههم عند بعض الفرق.
وتضخم الأعمال الظاهرة على حساب أعمال القلوب أدى إلى الجفاف الديني.
وتضخم مفهوم الجهاد يؤدي إلى قتل الناس بغير حق وإلى الفتنة والإفساد في الأرض.
اسباب الغلو :
إن الغلو في الدين اليوم يشمل جل مجالات النشاط الإسلامي والإنساني. فهو يشمل مجال الدعوة من خلال ظاهرة التنفير والتعسير، ويشمل ظاهرة الفتيا من خلال ظاهرة التشدد والتحريم، والتمسك بظاهر اللفظ والتعصب وإنكار الاختلاف، ويشمل مجال الأحكام الفقهية، من خلال التوسع في التحريم وكراهية التحليل رغم أنه الأصل. كما يشمل الغلو مجال العقيدة، بتكفير المسلمين بالشبهات واستباحة أموالهم وأعراضهم وأرواحهم .
ونذكر من أهم أسباب الغلو:
– الجهل بالدين مع الغيرة على دين الله وتعظيم الحرمات وشدة الخوف من الله ، فلا يتحمل الإنسان أن يرى من أخيه المسلم معصية، ولا يتصور أن تصدر هذه الكبيرة من مسلم ، لذا فسرعان ما ينقله من دائرة الإسلام إلى خارجها . وهذا الجهل ناتج عن غياب الوعي الديني والفهم العميق للنصوص.
– تقزيم و اختزال مفاهيم الإسلام الكبرى : حصر العلم في العلم الشرعي ، حصر مفهوم العبادة في الشعائر، حصر مفهوم الجهاد في القتال ، حصر مفهوم الأخوة في الانتماء إلى نفس الفرقة، حصر تعلم القرآن في حفظه دون فهم معانيه، حصر مفهوم العمل الصالح في الشعائر ، اختزال مفهوم الشريعة في تطبيق الحدود…
– التعالم والغرور: فتجد بعض الشباب يفتتن ببعض الكتب التي قرأها، فيعتقد أنه أصبح من الراسخين في العلم. إلا أن هذا العلم يكون عادة بلا أصول، ولا ضوابط، ولا يمكن صاحبه من ربط الجزئيات بالكليات، ورد المتشابه إلى المحكم،و من التحقيق في الخلاف. ومع ذلك يظن نفسه من أهل العلم والاجتهاد ويتطاول على العلماء ..
– الرغبة الشديدة في التغيير السريع بدون مراعاة السنن الكونية: إذ تجد عند كثير من الشباب حماسة ورغبة جامحة في تحقيق نهضة الأمة وإخراجها من واقع الذل و الخضوع. إلا أن استعجالهم للنتائج وجهلهم بقوانين التغيير وبسنن الله الكونية وبالتدرج الذي اعتمده الرسول صلى الله في دعوته يقودهم أحيانا إلى الانجذاب إلى خطابات العنف والتطرف التي تدعو إلى التغيير الفوري وبكل الوسائل الممكنة.
– ثقافة “السندوتش” : أي الاكتفاء بمقطع فيديو بدقيقتين أو ثلاث لفهم ظواهر اجتماعية ومسائل سياسية معقده وعدم أخذ الوقت للتثبت ودراسة هذه القضايا قبل الحكم عليها بطريقة متسرعة.
– النزوع نحو التبسيطية المخلة في تناول قضايا الواقع ، و هو ما يجعل الأمر يدور بين الحق و الباطل في ظل غياب منهج التركيب والتنسيب، وعدم مراعاة التعقيد والتشابك والتداخل الذي توجد عليه أغلب قضايا الواقع مما يؤدي بالضرورة إلى تعطيل العقل لأن الأمر في منطق الغلاة بسيط له أجوبته الحاسمة الجاهزة السريعة..
– العجزُ عن التمييز بين النص الإلهي والفهم البشري النسبية، بين النص وتفسير النص. وإلغاء كل الاعتبارات والقواعد المنهجية والأصولية والمقاصدية والاستيعابية للنص. وهو ما يؤدي إلى أحكام واستنتاجات غريبة ومواقف متشنجة سرعان ما قد تجد طريقها إلى العنف الدموي.
الحلول العملية لمجابهة الغلو :
– نشر التثقيف الديني الممنهج : أي الانطلاق من كليات الدين للوصول إلى الجزئيات حتى تكون الصورة الذهنية للدين واضحة عند المسلم كما بين معالمها الرسول صلى الله عليه وسلم. إذ أن التركيز على الفروع على حساب الأصول يؤدي إلى الانحراف في الفهم والسلوك.
– التعامل العقلاني مع الظاهرة بعيدا عن التشنج والأحكام المسبقة و التعميم و الشيطنة. والحكم على الناس من خلال أعمالهم لا من خلال نياتهم وهيئاتهم.
– الإرتقاء بالخطاب الديني من خطاب يكرر نفسه ولا يتأقلم مع متغيرات الواقع إلى خطاب يتعاطى مع الواقع لإيجاد حلول له. إذ لا بد من تجويد هذا الخطاب وترشيده شكلاً ومضموناً، وإكسابه مقومات التكيّف والتفاعل مع تحديات الواقع عوض تجاهلها أو التعاطي معها بالشعارات الرنانة.
– تنمية الحس النقدي عند الأفراد خاصة في المؤسسات التعليمية.
– بعث مساحات الأمل: وذلك بزرع الأمل في النفوس من خلال تبين تجارب تاريخية لأمم انطلقت من أوضاع أسوأ من اوضاعنا لتنجح في تحقيق نهضتها ( سنغافورة ، اليابان ، اوروبا …) لكن يجب أن يكون ذلك دون الإستهانة بحجم الصعوبات التي يجب أن نتحداها للرقي.
– مقاومة ثقافة “السندوتش”: بنشر ثقافة القراءة والبحث والتمحيص.
– فهم السنن الكونية في التغييروبناء مشاريع نهضة حضارية مبنية على فهم هاته السنن، وعلى ثقافة التخطيط. عندما تتوفر مثل هاته المشاريع في بلداننا ستجلب إليها كثير من الشباب الذي يجد اليوم في الجماعات المتطرفة الملاذ الوحيد الذي يحقق اهدافه في نهضة الأمة الرد على الإهانات والاعتداءت التي تعيشها .
– إجراء حوارات ومناظرات مع من يحمل فكرا فيه غلو أو تطرفبقصد تشخيص المشكلة ومعالجتها ، بعيدا عن المزايدات والتشهير وكيل التهم واستباق الأحكام والبحث عن مكاسب سياسية أو إديولوجية.
– إنشاء لجان تضم علماء شرعيين ونفسانيين واجتماعيين واقتصاديين وأمنيين وإعلاميين لتحليل ظاهرة الغلو والتطرف، عبر دراسات علمية جادة غير منحازة.
بالطبع كل هذه الحلول يجب أن يبدء المسلم بتطبيقها على نفسه ، ثم ينشرها في محيطه بصفة فردية أو من خلال مؤسسات المجتمع المدني، فالمسؤولية لا يتحملها الإمام والداعية والمعلم والمسؤول السياسي فقط وانما هي أمانة في رقبة كل أفراد المجتمع كل حسب موقعه : “كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته” .
———–
1- سورة النساء – الآية 171
2- سورة المائدة – الآية 77
3- سورة التوبة – الآية 31
4- سورة الحديد – الآية 27
5- رواه مسلم
6- الإمام النووي : الشرح الحديث
7- رواه البخاري
بقلم شمس عروة
السلام عليكم شكرا لكم على هذه الدروس القيمة ولكن كيف السبيل الى ايصالها لكل الناس ؟؟
سيتم نشر المقال في جريدة الضمير إن شاء الله