كنتُ مثل أقراني وأبناء جيلي مولَعا بكرة القدم، وكمْ كانت مشاغباتُنا عنيفةً في الأزقة والشوارع في مباريات ماراطونية لا تعترف بقواعد “الفاف”، ولا تؤمن بعقوبات “الفيفا”، فتنطلق من التاسعة صباحا إلى أن تتوسط الشمس اللافحة كبد السماء في بيئتنا الصحراوية المحْرِقة…، ولم تكن تتوقف المغامرة عند هذا الحد فوقْتُ القيلولة أيضا كان مساحة للمنافسة مع أخي الأكبر “ياسين” الذي كان يداعب الكرة باحْتراف، وكان يهْزَأُ بي بسبب التفوق البدني والعمُري…
لقد كان حلُمي في عمري الأول أن أصير “لاعب كرة قدم” محترفا، ولم أكن أبوح بهذا الحلُم إلا لأقرب أتْرابي وأصدقائي إليّ، أما إن سألني “الأستاذ” في تعبير كتابي رسمي عن هدفي في المستقبل؛ فجوابي بطبيعة الحال كان بلسان عربي مبين: «أن أصير طيّارا، أو مهندسا، أو طبيبا…».
شِلَّتُنا المشاغبة كانت تمارس كرة القدم “جهْرا” في أوقات العُطل: صيفا وشتاءً، فجرا ومغربًا، أما في أوقات الدراسة بين الفترة الصباحية والمسائية من الدراسة فكنا نداعب الكرة “سرًّا”، خوفا من أساتذتنا، وبخاصة من “مدير المدرسة” (دادي باحريز) الذي كُنَّا نرى طيفه في كل مكان وفي كل زمان، وقد كانت علاقتنا به مزيجا من إحساس الرهبة منه حينا، والحبّ والاحترام العميق أحيانا أخرى… فله في قلب كل تلميذ “مقام الوالد”، لا “جُبّة المدير”…
وكم كان يخطب فينا بصوته الجهوري قائلا: «إياكم والكرة الملعونة…». ورغم كل تحذيره الشديد، وحبّه العميق إلا أننا كنا نصطحب معنا كرة القدم ونمررها بيننا، عبر بساتين واحتنا الغناء (“أودجوجن”، وبعبارة أخرى: “بحمان كاسي”)، وحين نقترب من المساحة التي تقع تحت رحمة رادارات “إدارة المدرسة” نخبّئ الكرة في “عداد كهربائي” سرّي، لنستعيدها بعد خروجنا من المدرسة، ونقفل راجعين بالكرة تؤنسنا ونؤنسها، جيئة وذهابا…
لفرْط ولـَهِنا بالكرة؛ كنا نتقمص أسماء لاعبي كرة القدم اللامعين من زماننا، فكنا نتمثل شخصياتهم وأسماءهم: فهذا “مناد”، والآخر “صايب”، والثالث “تصفاوت”، والرابع “شريف الوزاني”… أما مَنْ كان مولعا باللاعبين الأجانب فكانوا يختارون لأنفسهم: “روماريو”، و”بيبيتو”، و”مالديني”، و”باريزي”، و”باجيو”، و”روبيرتو حاجي”… وكنا نتسابق على صور أولئك اللاعبين نجمّعها من هنا وهناك، بشتى الصيغ، ومن مختلف الأحجام، وكنا نعلّقها في سماء غرفنا نزيّن بها أحلامنا حين نغطّ الليْل في نوم عميق…
كنتُ لاعب وسط ميدان هجومي “متوسط المستوى” (أفضل من “زيدان” بعض الشيء… للدعابة فقط)، وأعرف جيدا بحكم منصبي الذي كوّنني عليه (دادي عمر) أن تصنع الهدف، وتحرّك الفريق، وتحتفل بما يفعله الجميع، وليس مُهمّا أن تسجل الهدف، بل المهم أن يفوز المجموع؛ أما إن كنت “أنانيا” تعشقُ “الاستعراض” و”تسجيل الأهداف”، وسط الميدان، فلن يكون مستقرُّك بعد شوط إلا في “دكة البدلاء”…
كرةُ القدم، في ذلك الزمن، كانت رغيفَ الفقراء، وفردوسا أرضيا للمستضعَفين، وتسليةً عادلةً بين الغني والفقير، وساحةً يتساوى فيها الرفيع والوضيع… ما عدا صاحب الكرة الذي كان يمتن علينا بها بين الحين والآخر، لكن ثمة أمرا أفسد عليّ حلاوة “كرة القدم”، وجعل ارتباطي بها، وعشقي لها، وولهي بها: يخفُت، مع الزمن، رويدا رويدا رويدا… فما السر وما السبب؟
مع تسارُع الفروض، وغمرة الامتحانات، وبازدياد أعباء الدراسة، والتسابق على الدرجات العليا في المدرسة، وبفضل مصاحبة “شيخي الحكيم الحاج صالح بزملال” عليه رحمة الله في بعض أوقات الفراغ، أخذتْ كرة القدم تنسحب من حياتي رويدا رويدا، وشرعتْ تأخذُ حيزها الطبيعي في قلب فتى يافع مقبلٍ على الحياة؛ يمارس هوايته المحبوبة المفضلة لا غير…
مما خفّف حبي لكرة القدم أن “اللعبة” أصبحت إلى “صناعة”، واستحالتْ من “دُعابة أخوية”، و”فُرجة إنسانية”، و”تسلية عفوية” إلى “ورشة صاخبة”، و”مصنع حديدي صارم”، و”سوق مالية متوحشة”… فلم يعُد اللاعب ذاك الطبيب، والمزارع، والميكانيكي، وطبيب الأسنان الذي يمْتع أنظار المشاهدين في أوقات الفراغ بمهاراته، بل أضحت كرة القدم لأغلب مشاهير هذا الزمن: مهنتهم، ومنتهى علمهم، وحرفتهم الفريدة، ووظيفتهم الوحيدة التي لا يليقون للحياة من دونها…
ومن بركات “وباء كورونا”، وإيجابياته، أنه سيقضي على الأرقام الفلكية لبعض مشاريع التسلية الكونية في هذا العصر، وبخاصة في كرة القدم، وستعبث “جائحة كورونا” بعائدات الإشهار، والأجور الخيالية، والتعاقدات المجنونة، وتخفّف من حالة الإدمان الكروي التي عصفت بالكثير من العقول، والقلوب من شباب، وشيبة، وكهول… فأورثتهم الهَبال، وورَّثتْهم الخبَال…
وبالمناسبة لم أعُد أشجع أي نادٍ أو لاعب إلا “الفريق الوطني الجزائري”، ولم يعُدْ يخفق قلبي إلا للنشيد الوطني الذي يدوّي في بعض المباريات الحاسمة، واللحظات المفرقية… لكن مهلا، مهلا، مهلا…
هذه طفولتي وطفولتك، وبعض أخبار جيلي وجيلك، وشيء من مشاعري ومشاعرك، وهذا ما آلتْ إليه لُعبة كرة القدم، مع تقدُّم الزمان، ولكن أين هم، اليوم، أبنائي وأبناؤك؟ وكيف باتتْ حالهم، اليوم، قبْل الحجْر الصحي، وأثناءَه، وبعْده؟ أيْن رحلوا؟ ولماذا نفتقدُ صخبهم ومغامراتهم الكروية في الأزقة والطرُقات مثلما كنا نفْعل في صِبانا؟
كلّ خوفي أن نُسْلم براءة أبنائنا وقلوبَهم الغضة الطرية، تحت ضغْط كورونا وفراغهم المدرسيّ، قُربانا للتكنولوجيا وللألعاب الإلكترونية دون رقيب أو حسيب؟ وأنا أخاف اليوم عليهم، بعد أن تمر سحابة “كورونا”، أن نجدهم رهائنَ للُعب إلكترونية متوحشة تلتهم حُرَيْراتهم، وتُنْهك أعصابهم، وتبلّد عواطفهم…
أقول لك هذه الكلمات، وأنا “أب” و”ولي أمر” حائرٌ مثلي مثلك سيدي، سيدتي، ولستُ أجد جوابا للمعضلة التربوية التي نعيشها اليوم خلال “الحجْر الصحي” و”الذهني”: وأنا محتار فعلا أمام مفارقة عويصة: فنحن ملزمون أن نربط أبناءنا بشيء من التعليم الافتراضي الإلكتروني لكيلا يضيّعوا دروسهم وأوقاتهم، ولكننا نخاف عليهم من أزقة “التيك التوك”، وشوارع “التيلغرام”، ومزالق “الإنستغرام” فنضيّع أبناءنا من حيث أردْنا أن نحفظ أوقاتهم، وبرامجهم، ودراستهم؟؟؟ إنه سؤال أعترف، لكم جميعا، بعجزي وصعوبة إجابته والجواب عنه…
أما بالنسبة لي، باعتباري أبا، وأخا، وابنا، وربّ عائلة: سأجرّب ابتداء من هذه الأمسية، مباشرة بعد العَشاء، أن أطفئ كل الأجهزة الإلكترونية، وأُخْمد الأنوار الكهْربائية، وأطويَ “عالم كورونا الإخباري المكهْرب”، وأضيء بعض الشموع كل مساء: لأردد مع أهل بيتي بعض الأهازيج التراثية، ونستذكر بعض القصص، ونحفظ بعض الأمثال، ونذكر الله داعين مبتهلين له بالفرَج؛ ونستذكر بعض الطرف والنكت مرتشفين كأس شاي منعْنع…
جعل الله ليلتكم أنسا، وصباحكم خيرا وبِشْرا

—–
دكتور طه كوزي

من admin

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *