يعد ابن الجزار من أشهر فلاسفة وأطباء المسلمين في القرن الرابع الهجري، بل يمكن القول: إنه كان صاحب المكانة العلمية والشعبية في بلاد المغرب العربي على الإطلاق في ذلك الزمن العريق.

وابن الجزار هو أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن أبي خالد القيرواني، وُلِدَ في القيروان، ولا يُعلم على وجه الدقَّة تاريخ مولده، وقد توفي بها نحو عام (400هـ/ 1010م)[1]، وقيل: توفي مقتولاً في الأندلس[2]. قال عنه الذهبي في (سير أعلام النبلاء): “ابن الجزار: الفيلسوف الباهر، شيخ الطب… اتصل بالدولة العبيدية (الفاطمية)، وكثرت أمواله وحشمته”[3].

وقد تتلمذ ابن الجزار على أبيه وعمه وكانا طبيبين حاذقين، كما تتلمذ على يد طبيب شهير في عصره هو إسحاق بن سليمان الإسرائيلي[4] الذي ترك مصر وذهب إلى القيروان، والتي عَلَتْ فيها مكانته الطبية والعلمية بين الخاصَّة والعامَّة، فتخرَّج على يديه واحد من أعظم أطباء الحضارة الإسلامية في شطرها الغربي، ونقصد بالطبع ابن الجزار القيرواني.

 

 

ومن الحوادث العظيمة التي حدثت مع ابن الجزار، والتي كادت أن تودي بحياته في فترة مبكرة من فترات ممارسته لمهنة الطب، ما ذكره المقريزي عن إصابة المنصور -وهو أمير تونس- بمرض عُضال بسبب البرد الشديد والثلوج، التي تعرَّض لها في إحدى أسفاره، فأراد أن يدخل الحمّام وهو في طريق عودته، لكن طبيبه إسحاق بن سليمان الإسرائيلي -أستاذ ابن الجزار- نهاه عن ذلك، فكأن المنصور امتعض من فعل طبيبه ذلك، فقرَّر دخول الحمام؛ ففنيت الحرارة الغريزية منه، ولازمه السهر، فأخذ طبيبه يعالج المرض دون السهر، فاشتدَّ ذلك على المنصور، وقال لبعض خواصِّه: أما في القيروان طبيب غير إسحاق؟ فأُحضر إليه شاب من الأطباء يقال له: أبو جعفر أحمد بن إبراهيم بن أبي خالد بن الجزار، فجمع له أشياء مخدِّرة، وكلَّفه شمَّها، فنام، وخرج وهو مسرور بما فعله، فجاء إسحاق ليدخل على المنصور، فقيل له: إنه نائم. فقال: إن كان صنع له شيء ينام منه فقد مات. فدخلوا عليه فإذا هو ميت، فدفن في قصره. وأرادوا قتل ابن الجزار الذي صنع له المنوِّم، فقام معه إسحاق، وقال: لا ذنب له، إنما داواه بما ذكره الأطباء، غير أنه جهل أصل المرض، وما عرَّفتموه؛ وذلك أنني في معالجته أقصدُ تقويةَ الحرارة الغريزية، وبها يكون النوم، فلمَّا عولج بما يطفئها علمت أنه قد مات”[5]. ولا ريب أن هذه الحادثة كانت تجربة كبيرة لابن الجزار ليَجِدَّ في علم الطب، وقد كان.

 

 

ابن الجزار القيرواني.. شيخ الطبومما يُدلل على مكانة ابن الجزار العلمية، وأخلاقه السامقة المترفِّعَة عن كل تبذُّل، وجهده الدءوب في تحقيق الإنجازات الطبية والعلمية المتواصلة، ما أخبر به ابن أبي أصيبعة في (عيون الأنباء) إذ قال: “كان ابن الجزار من أهل الحفظ والتطلع والدراسة للطب وسائر العلوم، حَسَنَ الفهم لها، وقال سليمان بن حسَّان المعروف بابن جلجل: إن أحمد بن أبي خالد كان قد أخذ لنفسه مأخذًا عجيبًا في سمته وهديه وتعدده؛ ولم يُحفظ عنه بالقيروان زلَّة قط، ولا أخلدَ إلى لذَّة، وكان يشهد الجنائز والعرائس، ولا يأكل فيها؛ ولا يركب قط إلى أحد من رجال إفريقية، ولا إلى سلطانهم إلاَّ إلى أبي طالب عمِّ معدٍ (عم الأمير العُبيدي)، وكان له صديقًا قديمًا، فكان يركب إليه يوم جمعة لا غير، وكان ينهض في كل عام إلى رابطة على البحر المستنير، وهو موضع مرابطة مشهور البركة، مذكور في الأخبار، على ساحل البحر الرومي، فيكون هنالك طول أيام القيظ (الصيف)، ثم ينصرف إلى إفريقية، وكان قد وضع على باب داره سقيفة أقعد فيها غلامًا له يسمى برشيق، أعدَّ بين يديه جميع المعجونات والأشربة والأدوية، فإذا رأى القوارير بالغداة أمر بالجواز إلى الغلام، وأخذ الأدوية منه؛ نزاهة بنفسه أن يأخذ من أحد شيئًا”[6].

وهذا الفعل من ابن الجزار يُدلِّل على اعتماده على المنهج العلمي المتميز في الفصل بين الطب والصيدلة أثنـاء دراسـته لهمـا وأثناء علاجه للمرضى، الأمر الذي جعله يحـتل مرتبـة علميـة كبـيرة فـي المغـرب الإسـلامي كتلك المكانة التي احتلَّها الرازي في المشـرق الإسـلامي، بـل إن ابـن الجـزار قد فاق الرازي في تفريقه بين مكان العيادة للمرضى ومكـان صرف الأدوية؛ فكان له عيادته الخاصة التي فتحها في منزله ليفحص بها المرضى، أمـَّا صيدليتـه فقـد أقامهـا على باب داره وأقعد فيها غلامًا له -كما أخبر ابن أبي أصيبعة فيما سبق- وهذا الفصلُ من ابن الجزار بين الطب والصيدلة لم يكن ليقتصر على النواحي المهنية المتطلبة لذلك فحسب، بل يمكن أن نُضيف حسن أخلاقه، وترفُّعه عن الطلب وخاصة من الفقراء والنساء؛ لذلك لم يكن ابن الجزار يُعطي النساءَ الأدويةَ بصورةٍ مباشرة حتى لا يجبرهن على دفع قيمتها، أو لعله لم يكن يفعل ذلك مخافة النظر إليهن، والميل لهن، ومن ثََمَّ كان يُقعد غلامًا له ليعطي المرضى ما يحتاجونه من أدوية وغيرها؛ بِنَاءً على وصف ابن الجزار لها.

 

 

صنف ابن الجزار القيرواني العديد من المصنفات والكتب المتنوعة، فله في كل بستان من المعرفة كتاب طيِّب الأثر، غزير المنفعة، ذكر الذهبي بعض مصنفاته فقال: “وله كتاب (زاد المسافر في علاج الأمراض)، وكتاب في الأدوية المفردة، وكتاب في الأدوية المركبة يعرف (بالبُغية)، وكتاب (العدة) وهو كتاب مطوَّل في الطب، و(رسالة النفس) وأقوال الأوائل فيها، وكتاب (طب الفقراء)، ورسالة في التحذير من إخراج الدم لغير حاجة، وكتاب الأسباب المولِّدة للوباء في مصر بطريق الحيلة في دفع ذلك، وكتاب المدخل إلى الطب سمَّاه (الوصول إلى الأصول)، وكتاب (أخبار الدولة وظهور المهدي بالمغرب”[7].

على أن أشهر كتب ابن الجزار كتاب (زاد المسافر) فقد بقي هذا الكتاب من المراجع المهمَّة للباحثين وطلاب العلوم الطبية طيلة عقود من الزمن، ويتكون هذا الكتاب من جزأين يحتويان على سبع مقالات، تختصُّ في معالجة أمراض الكبد، والكُلَى، وأعضاء التناسل، وأمراض الجلد، والحميات، ولدغ الهوام، وأذى السموم، كما أنه لم يُهمل جانب الأدوية؛ فقد تحدَّث كثيرًا في هذا الكتاب عن تركيب عدد من الأدوية وعن كيفية استعمالها[8].

ومن الجدير بالذكر أن كتاب (زاد المسافر) ما زال مخطوطًا، وهو في مجلدين، وتوجد منه نسخ في مكتبة الشعب بباريس، ودرسدن بألمانيا، ورنبور بالهند، وهافانا بهولندا، وفي المغرب: وخزانة الرباط برقم (1718 د). وترجم هذا الكتاب إلى اللاتينية واليونانية والإيطالية، ومن هذه الترجمات مخطوطات أقدمها في الفاتيكان[9].

والحقُّ أن كتاب (زاد المسافر) قد أُلِّف ليكون دليلاً طِبِّيًّا للمسافر إلى البلدان البعيدة التي لا يوجد بها طبيب، ثم وُجد أن هذا الكتاب غير مناسب للفقراء والمساكين، الذين قد يعجزون عن إدراك منافعه لفقرهم وقلـَّة طـاقتهم المادِّيَّـة عـن شـراء موادّ العلاج، فصنَّف لهم كتاب (طب الفقـراء والمساكين)؛ ليدلَّهم على طرق المداواة بالأدوية التي يسهل وجودها بأقلِّ ثمن وأيسر كلفـة، ثـم مـا لبث أن صنَّف كتابًا آخر عالج فيه الحالات التي تصيب المسنين والمعمِّرين وهـو كتـاب (طـب الشـيوخ وحفظ صحتهم).

 

 

إن هذه المؤلفات وإن كانت مجهودات علمية بحتة إلا أن الجانب الإنساني فيها يبدو واضحًا وعميقًا؛ فالتفكير في تصنيف كتاب يكون دليلاً للمسافر لا يخلو من مسحة أخلاقية قدَّرَت حاجة المسافر المُلِحّة إذا مرض لدليل علاجي سريع إذا أصابه، أو أصاب أحدًا من المسافرين مرض أو جرح، أو ما يستدعي علاجًا ريثما يصلون إلى أقرب منزل أو يعثرون على طبيب أو مستشفى.

ثم اهتمامه أيضًا بأن يصنف للفقراء والمساكين دليلاً علاجيًّا، يستطيعون بما يملكون من الأموال القليلة أن يهتدوا إلى الدواء المناسب لكل حالة، بما يحفظ صحتهم دون أن يكلفهم ما لا يملكون. إنها نظرة نحتاج في عصرنا هذا أن يسلكها الأطباء، ومؤلفو الموسوعات الطبية، وكذلك مؤسسات وشركات إنتاج الأدوية.

ثم انتقاله ليؤلف في صحة المسنين والكهول كذلك، إنها أدلة على ما كان يتمتع به ابن الجزار القيرواني من حسٍّ إسلامي وإنساني عميق.

ولم ينس ابن الجزار الأطفال والصبيان من تصانيفه الطبية الرائعة، فألف كتابه القيم (سياسة الصبيان وتدبيرهم)، الذي بقي أمدًا طويلاً من المراجع الأصيلة والأساسية في علاج أمراض الأطفال، وقد نهج ابن الجزار في هذا الكتاب منهج الاختصاص في مجال طب الأطفال، وهذا الكتاب -كما ذكر عدد من مؤرخي العلوم الطبية- يحتوي على معارف علمية تتَّفق كثيرًا مع طب الأطفال المعاصر[10].

وكتاب (سياسة الصبيان وتدبيرهم) مُؤَلَّف من اثنين وعشرين بابًا، يبحث في تدبير شئون المَوْلُودِين في حالة الصحة والمرض، وقد حقَّقَه الحبيب الهيلة ونُشر في تونس عام (1399هـ/1979م)، ويضم معلومات في:

– صفات المرضعة وطعامها ولبنها.

– وفيما يعيب الطفل بحسب سنِّه من الأمراض؛ كالإسهال، ورطوبة الأذنين، والتهاب السُّرَّة ونتوئها، ونحو ذلك.

– ومعالجة السعفة في رأس الطفل، وورم اليافوخ، وانتفاخ البطن.

– وأبواب أخرى في داء الصرع عند الصبيان.

– والوجع عند خروج الأسنان.

– وقروح الفم عند الأطفال.

– وأسباب القيء.

– وفي الحيات والدود المتولدة في الأمعاء، وفي الحصى المتولدة في المثانة، وغير ذلك[11].

ومن المؤلفات المعروفة لابن الجزار القيرواني، كتابه (الاعتماد) وهو مصنف في الأدوية المفردة، وما زال هذا الكتاب مخطوطًا، وتوجد منه نسخ في الجزائر وتركيا والمتحف البريطاني، وقد ألفه بطلب من ملوك الفاطميين في تونس، إذ كانت هذه الأنحاء في تلك الفترة داخلة في دولة الفاطميين (العبيديين).

ومن مؤلفاته أيضًا كتاب (البُغية) وهو كتاب آخر في الصيدلة، غير أنه على خلاف كتاب (الاعتماد) يبحث في الأدوية المركبة، وليست الأدوية المفردة.

وكان رحمه الله موسوعيًّا، كتب في أكثر من علم، فإننا نجد من بين مؤلفاته كتبًا في علم التاريخ وعلم النفس، مثل (التعريف بصحيح التاريخ) الذي وصفه الزركلي في الأعلام بأنه “كبير”، وكتاب (دولة المهدي -العبيدي- وظهوره بالمغرب)، وكتاب (ذم إخراج الدم)، و(رسالة في النفس)، و(أسباب الوباء بمصر والحيلة في دفعه)، وغير ذلك[12].

ولعلنا في هذه الإطلالة السريعة قد تعرَّفنا على عالم نجيبٍ، وطبيب ذائع الشهرة من علماء وأطباء الحضارة الإسلامية، الذين كان لهم فضلهم وأثرهم الباقي حتى يومنا هذا في الحضارة الغربية قبل الإسلامية، والتي تَرجمت له العديد من الكتب والمصنفات، وجعلت كُتبه من المراجع الأساسية التي يهتدي إليها السائرون في دروب العلوم الطبية المتنوعة.

 

د. راغب السرجاني

 

 


[1] حاجي خليفة: كشف الظنون 1/81.

[2] الباباني: هدية العارفين 1/37.

[3] الذهبي: سير أعلام النبلاء 15/561.

[4] أبو يعقوب إسحاق بن سليمان الإسرائيلي، طبيب، بصير بالمنطق، من أهل مصر، ثم سكن القيروان، وخدم عبيد الله المهدي صاحب إفريقية بصناعة الطب، وعُمِّر طويلاً إلى أن نيف على مائة سنة، وهو أستاذ ابن الجزار القيرواني، توفي سنة (320هـ/ 932م). انظر: عمر كحالة: معجم المؤلفين 2/234.

[5] المقريزي: اتعاظ الحنفا ص25.

[6] ابن أبي أصيبعة: طبقات الأطباء 1/322.

[7] الذهبي: تاريخ الإسلام 26/241.

[8] علي عبد الله الدفاع: رواد علم الطب في الحضارة العربية والإسلامية ص251، 252.

[9] الزركلي: الأعلام 1/85

[10] علي الدفاع: رواد علم الطب في الحضارة العربية والإسلامية ص252.

[11] كمال السامرائي: مختصر تاريخ الطب العربي، نقلاً عن علي الدفاع: رواد علم الطب في الحضارة العربية والإسلامية ص252.

[12] الزركلي: الأعلام 1/85، 86.

 

المصدر: موقع قصة الإسلام

 

من admin

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *