hedi

أرسل عليه السلام ذات مرة وهو بالمدينة سرية إستكشافية إذ كان مهددا من لدن قريش ومن تجنده للثأر منه والله وحده يعلم ما يبيت له الخصوم. وإتفق أن إشتبكت تلك السرية مع ثلة من المشركين وكان قائد السرية يظن أن الإشتباك وقع في آخر أيام الشهر السابق للشهر المحرم ولكن ثبت خطأ ظنه فإهتبل المشركون بمكة ذلك وشنوا حملة إعلامية واسعة عنوانها أن النبي الذي يزعم دعوتكم إلى الحق والخير لا يرعى في الحرمات إلا ولا ذمة ولما بلغه ذلك عليه السلام عاتب قائد السرية وسرعان ما نزل الوحي مصححا الأمر بقولـــه ( يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه؟ قل : قتال فيه كبير. وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ).
يحمل هذا التصحيح قيمة كبيرة ومهمة عنوانها أن المسلمين مطالبون برعاية الحرمات وتكاليف الدين دون ريب سوى أن ذلك لا يجعلهم سذجا مغفلين يبسطون أنفسهم لخصومهم الذين يفترسونهم بإسم الدين وما تنزل الدين إلا لتحريرهم وليس لتكبيلهم.
يحمل التصحيح فقه مراتب الأعمال بتعبير إبن القيم ليظل المحرم الذي يفضي إلى الفساد والتهلكة في حالات إستثنائية خاصة مباحا بل مطلوبا. ألا ترى هنا صيغتي ( كبير ) و ( أكبر ). فالكبير يظل كبيرا في حرمته ولكن نطؤه ونطأ حرمته عندما يتخذ من لدن خصومنا أو غيرهم ذريعة للإيقاع بنا لأن النفس هنا مقدمة على الدين. نطأ الكبير توقيا للأكبر. وكذلك الشأن مع الواجبات والفرائض لا نأتي منها ما يفضي إلى مفسدة من مثل تأمين خائف فارّ من القضاء العادل من بعد عدوانه على الناس وأموالهم حرابة. الأصل ألا يتعارض الأمران ولكن صروف الدنيا موارة دوارة وحمالة للإستثناءات التي تراعى وفق تلك القاعدة الأصولية العقلية المنطقية ( نتحمل الضرر الأدنى توقيا لضرر أكبر ونتخلف عن واجب أصغر لتأدية واجب أكبر).
مبنى الشريعة التمييز بين مختلف مستوياتها ودرجات تكاليفها أمرا ونهيا فمن وضعها كلا واحدا في سلة واحدة ما فقه منها شيئا ومن فرز تلك المستويات فميز بينها تمييزات مناسبة بمعايير مناسبة أصاب الأدنى إلى الحق والأنسب بالرشد.
الشهر الحرام مصون أن نحترب فيه حربا لم نجد أي بد لتلافيها ولكن عندما يهتبل خصمك ذلك فيشن عليك غاراته ظنا منه ـ أو جس نبض ـ أنك ستظل ساكنا بإسم الدين فما عليك سوى معاملته بالمثل لأن النفس هنا مقدمة على الدين ولأن الحرمة الزمنية إنما شرعت لحفظ الحرمة البشرية فإن لم يكن ذاك فأي معنى لحرمة زمان تسفك فيه دماء الإنسان.
ولهذا تطبيقات لا تحصى ولا تعد. سوى أن السذج منا يظنون الدين شيئا جامدا لا يتعلل ولا يتقصد ولا يخضع للفهم والعقل فكأنه عقوبة إلهية علينا تحملها والحق أن من بدأ مرحلة فقهه للدين على أساس أنه ما تنزل إلا لحفظ مصلحة الناس في معاشهم ومعادهم بسبب أنه معلل مقصد مفهوم معقول وله مراتب وأولويات ومستويات .. من بدأ رحلته الفقهية بمثل ذاك جدير بأن يتصرف تصرفا إلى الدين ومقاصده أدنى وبالإنسان أرحم.
إدرس إن شئت معالجة الخضر لسفينة المساكين لتعلم أن القصد إلى إرتكاب الشر إبتغاء صرف شر أكبر منه عبادة عقلية ذهنية مأجور صاحبها لحسن فقهه إذ قال عليه السلام في الحديث الصحيح ( فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم ). وتفكر إن شئت لم عدل عليه السلام عن إعادة بناء الكعبة على قواعد إبراهيم ( أي ضم حجر إسماعيل من بعد ما هدمته السيول الجارفة )؟ عدل عن واجب إلى واجب أكبر منه ألا وهو رعاية المستوى العام للمسلمين يومها وكذلك المستوى العام للمشركين وكلاهما حديث عهد بشيء غير مألوف وهو ما نسميه اليوم رعاية الشاهد الدولي.

————
الهادي بريك ـ مدنين ـ تونس

من admin

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *