ghayar

أخطر ما قد يُصيب المُصلحين الشّعور بالهزيمة أو الاستسلام لروح الانفعال والانتقام…

وكلا الدّاءين قد نالا من شرائح كثيرة في مجتمعاتنا العربية والمسلمة المعاصرة… فبعد عقود من المحاولات في طريق الإصلاح، كانت الثّمرة في ظنّ كثيرين قليلةً، وكان الظّلم ينتفِش في كلّ مرّة ليعبث بالأرواح والكرامة ممّا دفع بكثيرين إلى أحد أمرين:

إمّا أن يُسلّموا بأن التّغيير أبعدُ الأشياء عن العرب… وغذّى هذا الشّعورَ أطرافٌ من الدّاخل ومن الخارج التقت مصالحُهم على أن يبقى الغباءُ الحضاريّ قرينا للعرب وكثير من المسلمين وتوسّلوا بالإعلام المحبط وبالمقولات المثبّطة والتّحليلات السّلبية العاملة على القتل الممنهج لروح الإبداع والمبادرة في نفوس الناس…

وإمّا أن يُهرْوِلوا إلى الحلول السهلة ليرتموا في أحضان التّكفير الشّامل لكلّ مخالف، وإلى استباحة الدّماء انتقامًا للنفس باسم الإسلام، وغذّى هذا السلوكَ المتنطّعَ أطرافٌ كذلك من الدّاخل ومن الخارج متوسّلين بالاختراق آلية تستثمر في الغباء العربيّ وسذاجة الوجدان الإسلاميّ في ظلّ عمليّات الاغتيال الممنهج للعقل، يُمارسه الأولياء قبل الأعداء وهم يُصرّون على الإعراض عن الوعي بفروض الوقت وبفقه الأولويات…

وإنّ أولى المناهج بالذين اختاروا الإصلاحَ سبيلا، باعتباره دينا أو باعتباره التزاما ذاتيا ينهض به ذوو النّفوس الكبيرة التّائقة إلى المجد سجيّة، هو ذلك الأسلوب البنائي الإيجابي، فهو الذي أظهر مع الأيّام فعاليته في أغلب المجتمعات الإسلاميّة التي نجحت في أن تتخلّص من تخلّفها شيئا فشيئا، وبدأت خطوات عملاقة نحو التقدّم والرّقيّ. وأهمّ ما يُميّز هذا الأسلوب:

– غلبة الروح البنائية الواعية…

– غلبة الرّوح الإيجابيّة الفعّالة…

ويُمكن التّعبير عن هذا الأسلوب بأنّه الذي يقوم على المبادرات العمليّة البنّاءة التي تفتكّ الاحترام وتُحيّد الخصومَ وتَمِيزَ بينهم، وتصنع تقاليدَ التّغيير وتُرسي عاداته، وعلى المنافسات الذّكية في طرح البدائل المُجدية بعيدا عن الشعارات والصّخب الانفعالي…

قد تظهر هذه الطّريقة طويلةً إلى حدّ الإملال، وقد تتطلّب صبْرا أيوبيًّا لا يقدر عليه إلا من عرف ما قصد، ولكنّها الطريقة التي تؤسّس التّجربة الحضارية المنشودة في عمق، وتضمن استمراريتها مُدّة طويلة من الزّمن، وهي التي تُكسب مجتمعاتنا العربيّة والإسلامية الأدوات اللازمة لاستدامة الفعالية الحضارية، وتُقدِرها على أن تعيش المرونةَ الضروريةَ لخوض معركتي “التّعارف” و”التّدافع” بوعي وإنسانيّة كبيرة تليق بمنزلة الحضارة الإسلامية وبدورها الإنساني الذي بشّر به الغربيّون جيلا بعد جيل…

إنّ شرائح كثيرةً في مجتمعاتنا قد ملّت الشعارات الجوفاء، وفقدت الثّقةَ في تلك القوالب الجاهزة التي أضاعت معناها مع الأيام، وهي لن تثق إلا في من نجح في تجسيد قيمه ومقولاته في مشاريع حيّة تُبلْسِم جراحات الواقع، وتأخذ بيد المجتمع إلى دروب التّقدّم والمبادرات الرّائدة…

وهي ترقب، بكلّ ما أوتيت من الذّكاء، أداءَ الجميع، ولن تُسلم قيادها في الأخير إلا لمن ملك المهارة في فتح أبواب الأمل والعمل والرّقي أمام أبناء المجتمع، وتفنّن في تغيير ما بالنفس في صبر وأناة وحكمة…

والنّاظر في التّجربة التّركية بكلّ تقلباتها وأحداثها الدّامية حينا، والنّاعمة أحيانا كثيرة، سيضع يده على كثير مما أسلفت، وسيعلم أنّ الطّريق إلى ما ننشد من الرّقي ليس الأكثر يُسرا، ولكنّه حتما ليس الأكثر عنفا…

وإنّ الذين يُراهنون على غباء المجتمعات العربية والإسلامية ما فهموا من سُنَن التّاريخ شيئا، فلسان حاله يقول على الدّوام: إنّك قد تخدع بعضَ النّاس كلّ الوقت، وقد تخدعُ كلّ الناس بعضَ الوقت، ولكنّك لن تخدع أبدا كلَّ النّاس كلّ الوقت…

ويظهر أنّ هؤلاء قد غرّتهم بعض تلك التّعميمات التي قُدّت من عجينة العجلة في النّظر والاستقراء، فظنّوا أنّ الرّاهنَ قدرٌ دائم لا محيص عنه ولا مفرّ، واعتقدوا، وقد أعمت حدود القائم بصيرتَهم، أنّ الواقع كان على تلك الشّاكلة دائما، وأنّ الزّمان مهما دار، فلن يخرج أبدا عن فلكهم، “تلك أمانيّهم”… ولو حاولوا النّظرَ خارج الصّندوق الذي سجنُوا فيه أنفسَهم لأبْدَت لهم الأيام ما كانوا جاهلين، وما أكثر ما يجهلون من سُنن التّاريخ وطبيعة المجتمعات…

 

رياض الجوّادي

من admin

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *