ghazali
قال الرسول الكريم لأمته: “إنما أخشى عليكم شهوات الغي فى بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى” والغرائز الدنيا فى الناس إذا جمحت وأفلت قيادها هوت بالحضارات وملأت المستقبل بالرجوم ? ولابد فى ضبطها من الصيام الحكيم والحرمان الواعى المهذب وهذا ما يفعله الصيام الذى عرفه الفقهاء بأنه الإمساك عن شهوتى البطن والفرج من الفجر إلى الغروب. ولاشك أن صيام المسلمين يحتاج إلى تأمل وتعقيب فى هذه الأيام فإن هذا الشهر يمكن أن يسمى شهر الطعام، وسهر الليل فى التلاوة حل محله سمر هزيل المعنى تافه الأثر حتى أن الشاعر القروى قال من قصيدة له: لقد صام هندى فدوخ دولة فهل ضار علجا صوم مليون مسلم؟ يشير الشاعر إلى حرب المقاطعة الاقتصادية التى أعلنها `غاندى` على الاستعمار الإنجليزي ? لقد ألزم قومه أن يتركوا كل ما تنتج المصانع الإنجليزية ولو لبسوا الخيش بدل الصوف الفاخر، وبدأ بنفسه فلف جسمه بخرق متواضعة. ولم تمض شهور حتى توقفت المصانع الإنجليزية فرحل الإنجليز عن الهند واعترفوا باستقلالها!!

هل لدى العرب هذه القدرة النفسية؟ هل يملكون هذه الإرادة الحديدية؟ هل يحكمون شهواتهم أم تحكمهم شهواتهم؟ إن الصوم ليس جوعا طويلا تمهيدا لأكل كثير . وليس حرمانا موقوتا يتبعه انطلاق فوضوى!! ثم إنه ليس تحريما لبعض المأكولات المباحة وتركا للفم يلغو ويستهل الغيبة واللغو والإسفاف.  هذا النوع من العبادات لا خير فيه.

وفى الحديث الشريف “رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش ورب قائم حظه من قيامه.السهر.” وعن أبى هريرة قال رسول الله صلي الله عليه وسلم : ` من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة فى أن يدع طعامه وشرابه `. وقال الرسول أيضا: ` الصوم جنة أى وقاية ما لم يخرقها ? قيل وبماذا يخرقها؟ قال : بكذب أو غيبة! `. إن العبادات بذور جيدة فى الحياة الاجتماعية ولعل أقرب ثمارها ظهورا حسن الخلق وأدب النفس وكبح الطباع الرديئة.

إنه ليسوءني أن يكون السائحون المسلمون فى أقطار العالم أول الناس بحثا عن الشهوات واستجابة للإغراء ، كما يسوءني أن ننفق فى بلادنا المال الكثير على الكماليات والمرفهات.حتى أننا أحيينا صناعات الترف فى دول تخاصمنا وتنال منا أيام الانتصار.
إذا كان رمضان شهر القرآن فإنه كذلك شهر معارك حامية دفعت الباطل وكسرت شوكته، إن هذا القرآن كتاب حوار وفكر وأخذ ورد وهو يستبعد الإكراه فى عرضه للعقيدة ودعوته إلى الفضيلة: “قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها ” وعندما درست أهم معارك السيرة النبوية وجدت أن مسالك الكفار وغرورهم كانت السبب الأول فى خذلانهم وسقوط رايتهم ? خذ مثلا `بدر` لقد خرج أهل مكة لحماية قافلتهم المهددة كما يقولون، حسنا! لقد نجت القافلة فلم لم يعودوا من حيث جاءوا ويستأنفوا حربهم للإسلام. قال أبو جهل لابد أن نعسكر قريبا من المدينة فننحر الجزور ونشرب الخمور وتغنى لنا القيان ويسمع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبدا! أي ولا يزالون يخافون من اعتناق الإسلام مادمنا نخاصمه!! إن هذا الكبر والطغيان كانا سبب هزيمة الشرك وذهاب ريحه. .
وانظر بعد بدر إلى فتح مكة: كانت هناك معاهدة تمنح الوثنية السائدة عشر سنين لو آثرت الوفاء والإنصاف، ولكنها خرقت المعاهدة وقتلت أصدقاء المسلمين فى الشهر الحرام فسار المسلمون إلى مكة وفتحوها وأخمدوا أنفاس المعتدين.. وقد وقعت فى أواخر رمضان معركة `عين جالوت ` وهى معركة بعيدة الأثر فى تاريخ العالم كله. فإن التتار بعدما أسقطوا الخلافة العباسية ودمروا `بغداد` استعدوا لفتح `مصر` وأرسلوا إليها كى تستسلم!
وشاع فى أرجاء الدنيا أن جيش التتار لا يقهر! ومن يستطيع الوقوف أمامه بعد مقتل`المستعصم آخر الخلفاء العرب لكن `قطز قتل الوفد التتارى وأعلن التعبئة العامة وقاد الجيش المصرى وسار به إلى فلسطين ليلقى
عدوه المغرور بقوته. وكانت الشائعات بأن جيش التتار لم ينهزم قط تنتشر فى كل مكان وتغزو الأفئدة باليأس.

  وظهر هذا عند التقاء الجمعين فترجل قطز وألقى على الأرض خوذته وصاح بصوت رهيب وا إسلاماه، وهجم بمن معه فإذا الأرض تزلزل تحت أقدام المغيرين وإذا هم يولون الأدبار..! وحاولوا الوقوف فى خط آخر أنشأوه على عجل ولكن المسلمين تعقبوهم فإذا هم بين قتيل وأسير. وانهزم جيش `هولاكو` فاتح بغداد. وقال التاريخ لم يكنما حدث نجاة لمصر وحدها  بل نجاة للعالم كله من الفوضى والوحشية  وكم لرمضان من .بركات عسكرية ولكن المجال يضيق عن الإحصاء.
المفروض أن رمضان شهر السمو الروحى والإقبال على الله وتلاوة القرآن ومغالبة شهوات الجسد التى تتنفس طول العام وتنضبط خلال هذا الشهر الكريم. إن العالم فى عصرنا حول حضارته إلى آلة ضخمة يسمع دويها فى المشارق والمغارب لخدمة الجسم الإنسانى وإرواء غرائزه التى لا ينتهى لها جيشان ? فهل يقدر شهر الروحانية على إعادة التوازن وإفهام الإنسان أنه ليس حيوانا يحكمه الطعام والسفاد.  المنظور فى فريضة الصيام أنها تدعم خصائصنا العليا وتقوى إرادة التسامى وتذكر المرء بأصله السماوى وبأنه نفخة من روح الله الأسمى  وقبس من نوره الأسنى فلا يجوز أن تهزمه شهوات الحيوان الرابض فى دمه يغرى بالطيش والإسفاف.

إننا بالصيام نستجيب لأمر الله أن ندع الطعام والشراب وهما حلال طوال العام! فهل نستفيد من ذلك أن نجعل بيننا وبين الحرام مسافات بعيدة وأن نعشق الإقبال على الله واتباع مرضاته؟ لقد راقبت الناس فوجدتهم فريقين: قلة تأخذ الأهبة للفريضة الوافدة وتستعد لاحتمال أعبائها وكثرة تفكر فى الطعام الكثير والمرفهات الشهية وكأنهم يجوعون طويلا ليأكلوا كثيرا.

والمؤمن حقا لن ينسى ما يكتنف رمضان هذا العام من آلام تحسها جمهرة المسلمين هنا وهناك,  إن أمتنا وحدها تقع تحت وطأة هزائم ثقيلة وتمر بها أزمات عضوض وهناك نساء مسبيات ورجال أسرى وبيوت استوحشت من أهلها وكان يقال قديما: اليهودى التائه, ولكن الذى يقال الآن: العربى التائه!! أو المسلم المطارد بدينه لا يقر له قرار..

ولعل الأعجب فى معاملة الشهر الاستعداد لإماتة لياليه بفنون التسلية بدل إحيائها بدروس العلم وتدبر القرآن ودراسة ما حوى من حكمة وتوجيه!

إن الصيام ارتقاء معنوى وإقبال زائد على الله ورغبة فى التسبيح والتحميد لا فى اللغو والمجون وأطلب من أمتنا أن تعى حكمة التشريع لفريضة الصيام  كما أطلب منها أن تذكر تاريخ هذا الشهر وما وقع فيه من أحداث جسام.. إن هناك من يحسب الشهر الكريم فرصة بطالة وقعود  أو راحة واستجمام ونسى أن أعظم معارك الإسلام دارت فى هذا الشهر  وأن صحائف من أمجادنا كتبت فيه. فيه خرج المسلمون للقتال فى بدر والفتح ورزقهم الله النصرالمؤزر والفوز العظيم.. هل نستطيع أن نرى المتربصين بنا أننا مازلنا أوفياء لديننا وأننا قادرون على الثبات فى مواقف الحراسة  وأن الإسلام حى فى ضمائرنا وسيبقى مرفوع الراية.
الصيام شريعة تشتبك مع أعتى الغرائز البشرية غريزتى الأكل والجنس وهما الغريزتان اللتان سيطرتا على السلوك فى الحضارة الحديثة  وفرضتا أنفسهما على كل شيء في عالم الأزياء والغذاء !! والإسلام لا يحارب الجسد ولكنه يرقبه بدقة ويحاصره بأحكام الحلال والحرام  ويرشده إلى مصالحة العاجلة والآجلة. وقد ختمت آيات الصيام بقوله تعالى : “يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ما هداكم ولعلكم تشكرون”. فالصيام وإن كان تكليفا فيه بعض المشقة إلا أنه حميد العقبى جميل الأثر ويتحول مع الأداء الصحيح إلى نعمة جديرة بالشكر.. أما عبادة الجسد والمسارعة فى هواه فحيوانية تزرى بصاحبها وتجر عليه الهوان في الدنيا والآخرة..

وقد انفرد الإسلام بهذه الفريضة من الحرمان الموقوت وجعلها دعما للإرادة ومعراجا للسمو ومرضاة لله سبحانه. وقد لاحظت أن مراسلين للصحف الأجنبية والوكالات العالمية تندس عندنا بين الجماهير ووسط الأحياء المختلفة لتعرف: أبقى المسلمون أوفياء لرمضان يصومون أيامه ويقومون لياليه؟ أم جرفتهم تيارات الحضارة؟ فقرروا الإفطار والمنام..!

والواقع أن الكثرة الكبرى تطيع ربها وتحترم الشهر المبارك ولكنى وجدت أن التقاليد الضارة تهجم على الشهر وتكاد تطفئ سناه وتمحو أثره .. هناك من يجوع كثيرا ليستطيع الأكل أكثر فرمضان عنده شهر الطعام لا شهرالصيام! وقد استعدت وسائل الإعلام في أقطار كثيرة بفنون التسلية لتنقل المسلمين من.الجد إلى الهزل  وتصرفهم عن الشغل بقضاياهم الخطيرة إلى التيه وراء خيالات مريضة ومعروف أن رمضان جاء هذا العام والإسلام يستوحش من مآس أحاطت بأهله وهزائم ألحقت بهم جراحات غائرة  فإذا لم يكن الشهر للإنابة والاستغاثة فلماذا يكون؟ وأسوأ ما ألاحظه على قومى أنهم يسمعون القرآن ولا يتدبرون! وتمر بهم المعانى التي تهد الجبال فإذا بعضهم يصيح طربا ويستعيد الآيات إعجابا بالأنغام التي حفت بها..!! ليس هذا سماعا, وإنما هو طمس وذهول يبرأ منهما عباد الرحمن الذين جاء في صفتهم: “والذين إذا ذكروا بآيات ربهم لم يخروا عليها صما وعميانا” إن رمضان فرصة لتوبة نصوح وأمل في نصر قريب على شرط أن نصومه ونقومه كما أمر الله سبحانه. فكم فينا من قلق يريد القرار! وهائم عن .وطنه يريد العودة ومهزوم يشتاق للنصر.

من admin

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *