mestiri

يفتقر الجدل في تونس حول دور الإسلام في التغيير والنهوض إلى الإسهام الزيتوني، لا لقلة علماء الزيتونة ومفكريها وطلبتها أو شح في إنتاجهم العلمي، بل لمراكمة ثقافة إقصاء من جهة وإقصاء ذاتي من جهة أخرى لعقود عديدة، انتهت بتراجع الوعي الجمعي بواجب وصل الرباط بين العلم الشرعي ومصالح الناس.

عندما يغيب الخطاب التأصيلي القادر على فهم النص ضمن مقاصده وعلى تفكيك الواقع بمقتضى الرؤية الإسلامية لتحقيق المصالح، فلا نعجب لوهن الفتوى ولانتشار التشدد ولكثرة المتعالمين بين الناس. ولا يستقيم أي عمل يرنو إلى الإصلاح الإسلامي سواء في المستوى التربوي أو السياسي أو الاقتصادي في هذه الديار الزيتونية دون مرجعية شرعية زيتونية.

ولكن ذلك يفرض على الزيتونة أن تكون مواكبة لقضايا عصرها وقادرة على فهمها والإجابة عن تحدياتها. ولا يتحقق ذلك إلا بمراجعة برامجها من جهة والوعي بمكانتها الإصلاحية الفكرية من جهة أخرى حتى يتجدد إسهامها في القضايا المصيرية المتعلقة بالتصدي للاستبداد والفقر والجهل والتردي الأخلاقي الاجتماعي.

يجب أن تعود الزيتونة منارة وطنية تشع على أبناء وطنها وعلى المسلمين في العالم بأسره. فلها من الرصيد التاريخي والبشري ما يؤهلها لاستباق القضايا التجديدية واستشراف أولويات قضايا أمتنا الإسلامية. ولكن لا يمكن أن تنهض الزيتونة إن لم تستوف شروط نهضتها العلمية. فالعلوم الشرعية التي تتميز بها يجب أن توظف لاستيعاب المرحلة التاريخية التي نعيشها بكل تعقيداتها وتشعباتها. وهي مرحلة تتسم أساسا بالتبعية المعرفية الكلية لشخصية المسلم ولمجتمعاته للنموذج الغربي المهيمن. وبقدر ما تحدث التبعية المعرفية قابلية للتغريب بقدر ما تدفع انفعالا نحو تقليد السلف وتمجيد الماضي بل والموت فيه.

ولا يختلف أهل العلم في أن المقصد من تحصيل العلوم الشرعية والاجتهاد فيها إنما هو بذل الوسع في استعمال مناهجها والاستفادة من نتائجها لتحقيق مناط الشريعة ورعاية مصالح الناس.

فعلوم الشريعة ليست علوم ماضي الناس بل حاضرهم. لذا وجب تجديد قضاياها والوسائل المعرفية لتطويرها. ولعل من أخطر وجوه الخلل في تحويل العلوم الشرعية إلى علوم تراثية هو عزوف أهلها عن العلوم الإنسانية رهبة وخوفا. والحال أن العلوم كل العلوم ليست سوى مقاربات منهجية مختلفة في الإدراك. والمناهج لا يمكن أن تكون سوى مساعدة على التفكير السليم بالشكل الذي يحمل الإنسان مسؤوليته التكليفية التاريخية. فإذا كانت العلوم الشرعية حمالة لمناهج مساعدة في مقاربة الشريعة ومقاصدها فإن العلوم الإنسانية تفيد بمناهجها في إدراك الظاهرة الاجتماعية وقوانين الحراك السياسي وبها يتمكن الباحث من الولوج إلى ماهية العقل الغربي الذي يؤسس للنظام القيمي الوضعي الذي استعيض به عن النظام القيمي الديني. ولا يمكن للعقل الإسلامي أن ينهض فينهض الأمة إن لم يستوعب اللحظة الغربية المهيمنة بمعارفها وسياساتها.

وإذا كان المقصد من العلوم الشرعية تحقيق السعادة للإنسان عامة على اعتباره المستخلف في الأرض فوجب أن توجه دراستها اليوم نحو معرفة مذاهب الإنسان الفلسفية والدينية وتجاربه الميدانية الحضارية وكذا طموحاته وآماله وهمومه وهواجسه. آن الأوان كي تتضاءل الهوة تدريجيا بين علوم الشريعة وعلوم الإنسان حتى تتحد ضمن العلوم الاجتهادية. فلا يعدو الإنسان في علوم الشريعة إلا أن يكون مجتهدا في فهم تعاليم الدين ومقاصده ويمكن أن نعتبر جهد الباحث في العلوم الإنسانية اجتهادا بالمعنى الديني إن كان الإيمان بموافقة العقل للشرع منطلقه ومقصده وهو يحاول أن يؤسس لقواعد منهجية في فهم الظواهر الاجتماعية. وكلما وافقت علوم الغيب علوم الحياة أمكن استعادة مكانة عالم الزيتونة ودوره في حياة الناس.

————————–
د. محمد المستيري : أستاذ بجامعة الزيتونة

من admin

فكرة واحدة بخصوص “زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار”
  1. اشاطركم الرأي اذ أعتقد أن علم الكلام مثلا وهو من بين العلوم الإسلامية يحتاج إلى تجديد…. فإذا كان المتكلمون القدماء اعتمدوا على ثقافة عصرهم، ويستدلون، مثلا، بالذّرّة لإثبات أن العالم مخلوق…اي العالم لما انحلّ انتهى إلى عناصر نسميها الذرات أو المادة، وبما أن هذه الذرة تتغير وتتحرك وتنحل فهي غير أبدية أي محدثة تحتاج إلى خالق… فإن الأمور قد تغيرت الآن و معنى المادة الآن تغير، وأصبحت طاقة… وبالتالي لابد أن يتغير الاجتهاد أيضا في المفاهيم الجديدة التي انتهت إليها العلوم… إن علم الكلام علمٌ استدلالي على العقائد، وإذا كانت الأدلة القديمة أصبحت الآن غير نافعة فلابد أن نأتي بأدلة جديدة تتفق مع ما وصل إليه العلم والفكر في زماننا هذا، ولا نبقى نستدل بطريقة أبي حسن الأشعري والبقلاني وغيرهم… …
    إننا بحاجة لتغيير مناهجنا في التفكير والفهم على ضوء العلم الحديث
    كما أن الذين يدرسون العلوم الشرعية او علوم الدين مقصرون في توليد نماذج معرفية وأخلاقية من القرآن الكريم قادرة على مساعدة البشرية للخروج من مأزقها الوجودي الراهن…. والمشكلة أن أغلب الذين يدرسون العلوم الإسلامية لا يتقنون إلا اللغة العربية، وكأن الإسلام جاء للعرب فقط، وليس معنيا بالأمم الأخرى التي تتكلم اللغة الإنجليزية والفرنسية وغيرهما من اللغات…! وبالتالي لابد من الانفتاح على لغات العالم لنبلغ بها رسالة الإسلام للعالمين، وأن نعرض الإسلام عرضا علميا موضوعيا، بلغة علمية واضحة يفهمها البشر….
    أتمنى حقيقة لو تصبح جامعة الزيتونة جامعة إسلامية ذات صبغة تجديدية فتدرج ضمن برامجها التعليمية مواد علمية كالبيولوجيا حتى يُكوِّن الطالب فكرة عن القوانين والمراحل الأساسية التي وصلت إليها البيولوجيا… ونفس الأمر بالنسبة للفيزياء. ومعلوم أن الكثير من الآيات القرآنية التي تتحدث عن الكون تحتاج إلى حد أدنى من هذه العلوم، من أجل فهمها فهما صحيحا؛ لأن الاقتصار على التفسير اللغوي لن يقود حتما إلى هذا الفهم الصحيح….
    و لما لا يقع تشييد معهد لدراسة علم الفلك والفقه مثلا… حتى نتفادى الخلاف بين الفقهاء والفلكيين فيما يتعلق بإثبات رمضان.
    ان كل من ينادي بالوصل بين العلوم الغيبية و العلوم الحيوية لابد ان يواجه العقول التي ما تزال تخشى على الشريعة من العلوم الأخرى، وكأن الفيزياء والرياضيات وعلم الفلك تقف ضد الشريعة الإسلامية! وينسى هؤلاء أن المسلمين، تاريخيا، هم الذين قدموا للعالم إبداعاتهم في مجال الفلك، لأن حياتهم كانت عملية (كتحديد القبلة والمواريث…) فرضت عليهم الاهتمام بهذا العلم. فكانت النتيجة ذلك التراث الفلكي المتميز الذي خلّفه المسلمون وأفادوا به البشرية. ونفس الأمر بالنسبة الرياضيات حيث عرفت تقدما على أساس المواريث وقسمة التركات…
    فهذه النفرة قديمة بين العلوم الشرعية والعلوم الأخرى… فيتم تدريس العلوم الشرعية واللغوية فقط. ولهذا السبب وقع هذا التخلف. وترتبت عن هذا الأمر عقليتان: عقلية لغوية وفقهية ونصية تماما، وعقلية أخرى علمية رياضية… كما حصل تنافر بين العقليتين، وأصبح كل واحد يمدح العلم الذي تخصص فيه كما قال ابن حزم…..
    ولذلك نحن بحاجة إلى التجديد في طريقة تدريس العلوم الإسلامية، وإلى التغيير في مناهج التربية والتعليم؛ لأن هذه المناهج ما تزال تعتمد على الحشو في الدماغ وكثرة المواد… وتقتل في الطالب ملكة التفكير وتدفعه إلى الحفظ فقط. إننا بحاجة إلى بناء فكر طلبة العلوم الشرعية وليس إلى بناء ذاكرتهم فحسب. ولهذا لابد أن نهتم بالرياضيات لأنها مفيدة للعقل. وكذلك لابد من الاهتمام بالطبيعيات، لأن كل العلوم -تقريبا- مبنية عليها… ولهذا الاعتبار -أيضا- لابد من أن نجمع في جامعة واحدة بين العلوم كلها بما فيها علوم النص….

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *