د. محمد موسى الشريف

ولي الأزهر في العصر الحديث شيوخ كثيرون كانوا ملء السمع والبصر، لكن قليلاً منهم كان مثل الشيخ محمد الخضر حسين علمًا وعملاً وحرصًا على المسلمين، هذا ولم يَلِ الأزهر غير مصري في العصر الحديث إلا الشيخ محمد الخضر حسين فيما أعلم.

وقد عاش الرجل في مدة مليئة بالأحداث منذ بدايات القرن الرابع عشر الهجري/ العشرين الميلادي.

 

مولده ونشأته:

ولد -رحمه الله تعالى- في مدينة نَفْطة بتونس في 26 رجب سنة 1293هـ/ 16 أغسطس 1876م، وأصل أسرته من الجزائر، من عائلة العمري، من قرية طولقة، وهي واحة من واحات الجنوب الجزائري، وأصل أمه من وادي سوف بالجزائر أيضًا وأبوها هو الشيخ المشهور مصطفى بن عزوز وخاله الشيخ المشهور محمد المكي بن عزوز.

 

واسم الشيخ هو محمد الأخضر بن الحسين بن علي بن عمر، فلما جاء إلى الشرق حذف “بن” من اسمه على الطريقة المشرقية، وغلب عليه الخضر عوضًا عن الأخضر، ونشأ الشيخ في أسرة علم وأدب من جهتي الأب والأم، وكانت بلدة نَفْطة التي ولد فيها موطن العلم والعلماء، حتى إنها كانت تلقب بالكوفة الصغرى، وبها جوامع ومساجد كثيرة، وهي واحة بها زرع وفيها فلاحون.

 

ونشأ الشيخ في هذه البيئة طالبًا للعلم فحفظ القرآن، ودرس العلوم الدينية واللغوية على يد عدد من العلماء منهم خاله الشيخ محمد المكي بن عزوز الذي كان يرعاه ويهتم به، وحاول الشيخ منذ سن الثانية عشرة أن يقرض الشعر، ثم برع فيه بعد ذلك.

 

ولما بلغ الشيخ سن الثالثة عشرة انتقل إلى تونس مع أسرته ودرس في جامع الزيتونة -فك الله أسره وأعاد مجده- وهناك درس على خاله محمد المكي بن عزوز الذي كان له شهرة كبيرة بالجامع ويدرس فيه مجانًا، ودرس على يد مشايخ آخرين أبرزهم الشيخ سالم بوحاجب الذي كان من أعمدة الإصلاح في تونس، درس على يديه صحيح البخاري، وقد تخرج الشيخ في الزيتونة سنة 1316هـ/1898م، وألقى دروسًا في الجامع في فنون مختلفة متطوعًا، وبقي كذلك مع حضور مجالس العلم والأدب المختلفة.

 

وفي شهر محرم سنة 1322م/ إبريل 1904م أنشأ مجلة “السعادة العظمى”، وهي أول مجلة عربية ظهرت في تونس، وكانت تصدر كل نصف شهر، ولم يصدر منها سوى 21 عددًا ثم انقطع صدورها، وقد كان الشيخ يكتب أغلب مقالاتها.

 

وقد وُجهت بنقد من قبل بعض الجامدين؛ لأن الشيخ أيّد فيها بقاء باب الاجتهاد مفتوحًا، وكانت المجلة تتسم بالنقد الهادف واحترام التفكير الجيد.

 

رحلتاه إلى الجزائر:

وفي سنة 1321هـ/1903م ارتحل إلى الجزائر، وفي السنة التي تليها ارتحل إليها أيضًا، وزار معظم المدن الجزائرية، وقصد العاصمة الجزائر فزار المساجد والمكتبات، وحضر بعض الدروس الدينية واللغوية، كما شارك في بعض المجالس الأدبية وألقى بعض الدروس الشرعية.

 

مناصب الشيخ الخضر حسين س:

1- توليه منصب القضاء: تولى منصب القضاء في بلدة بنزرت، ولم يكن يريده لكن الشيخ الإمام العلامة محمد الطاهر بن عاشور أقنعه بالقبول واشتد عليه فيه، لكنه بقي أشهرًا قليلة ثم استقال، وعاد إلى تونس ليعاود التدريس في الزيتونة، وكان أثناء بقائه في بنزرت مباشرًا الخطابة والتدريس في جامعها الكبير، وكان له فيها دروس شرعية وأدبية.

 

2- عضوية الجمعية الزيتونية: كان عضوًا في الجمعية الزيتونية التي يرأسها الإمام العلامة محمد الطاهر بن عاشور، وهي خاصة بمشايخ جامع الزيتونة، فك الله أسره وأعاد مجده.

 

3- التدريس في جامع الزيتونة، والقيام على خزانة كتبه.

 

4- التدريس بمدرسة الصادقية، وكانت الثانوية الوحيدة في تونس.

 

رحلته إلى بلاد الشام:

للشيخ ثلاثة إخوة أدباء فضلاء تركوا تونس واستقروا في الشام، وكان منهم زين العابدين أخوه العالم الذي كان يلقي الدروس في الجامع الأموي فأراد الشيخ زيارتهم، فغادر الشيخ تونس إلى الشام سنة 1330هـ/1912م عن طريق البحر، ومر بمالطة والإسكندرية ثم القاهرة وألقى درسًا في الأزهر، ثم ترك القاهرة إلى بورسعيد فيافا وحيفا، وفي كل مدينة من المدن كان يزور الأدباء والعلماء ويطلع على الكتب.

 

ثم دخل الشام فاستقبل استقبالاً حافلاً، وألقى دروسًا في الجامع الأموي في الحديث، واتصل بالعلماء والأدباء، وبقي شهرًا ونصفًا فيها ثم غادرها إلى بيروت في شوال سنة 1330هـ/1912م، ثم غادرها إلى إسطنبول ليزور خاله الشهير محمد المكي بن عزوز الذي اتخذها موطنًا له، ولم يلقه منذ خمس عشرة سنة، وبقي فيها شهرين ثم غادرها إلى تونس.

 

انتقاله إلى الشام:

بقي في تونس أسابيع قليلة ثم خرج منها -إلى غير رجعة- لما ضيق الاستخراب الفرنسي عليه تاركًا زوجه التي رفض أهلها أن يأخذها معه، وكان ذلك في سنة 1331هـ/ ديسمبر 1912م، فوصل دمشق ثم غادرها إلى الحجاز بالسكة الحديد للحج، وزار ألبانيا ودار في البلقان، ثم ذهب إلى الأستانة (إسطنبول)، ثم وصل دمشق واستقر فيها بحي الميدان ببيت إخوته الذين سبقوه إلى هنالك.

 

ودرّس في دمشق بالمدرسة السلطانية، واستمر كذلك حتى سجنه جمال باشا السفّاح والي الشام العثماني سنة 1335هـ/1916م، متهمًا إياه بالتآمر على السلطة الحاكمة، وبقي في السجن ستة أشهر -وقيل أكثر من ذلك- فلما خرج منه عاد إلى التدريس بالمدرسة السلطانية والجامع الأموي.

 

ثم طلبته وزارة الحربية العثمانية -أثناء الحرب العالمية الأولى- للعمل فيها مُنشئًا للرسائل العربية، فغادر دمشق إلى إسطنبول، ومن هنالك أرسلته الدولة العثمانية إلى ألمانيا مع مجموعة من المشايخ في مهمة سياسية تتمثل في تحريض المغاربة هنالك ضد الوجود الفرنسي في شمال إفريقيا وضد الإيطاليين في ليبيا، فبقي 9 أشهر تعلم فيها اللغة الألمانية واطّلع على عادات المجتمع الألماني، ثم عاد إلى إسطنبول فبقي فيها قليلاً، ثم عاد إلى برلين ليقيم فيها سبعة أشهر أخرى إلى أن انتهت الحرب العالمية الأولى وسقطت إسطنبول بأيدي الحلفاء.

 

وقد شارك أثناء إقامته في ألمانيا بكتابة تقرير مفصل عن مطالب الشعب الجزائري والتونسي، وقد رُفع هذا التقرير إلى مؤتمر الصلح المنعقد في فرنسا.

 

وحضر سنة 1336هـ/1917م فتح مسجد للجنود المسلمين في برلين، وألقى فيه محاضرة عن الحرية. ولم يأكل أثناء إقامته في ألمانيا اللحم؛ لأن الألمان لا يذبحون بالطريقة الشرعية، وإنما يضربون الحيوان على رأسه حتى يموت أو يخنقونه. وقد أُعجب بحب الألمان للعمل، وإقبالهم عليه حتى عَجَزتُهم.

 

عودته إلى دمشق:

لما سقطت إسطنبول بأيدي الحلفاء عاد من هامبورج بألمانيا إلى إسطنبول بباخرة أقلّته ومن معه من العثمانيين، ومنها عاد إلى دمشق التي كانت قد خضعت للحكم العربي -بعد زوال العثمانيين- بقيادة فيصل بن الشريف حسين. وفي دمشق انضم إلى المجمع العلمي العربي عضوًا عاملاً، ثم لما استقر بمصر بقي عضوًا مراسلاً.

 

الشيخ محمد الخضر حسين في مصر:

لما سقطت الشام في أيدي الفرنسيين 1339هـ/1920م ما وسعه المقام فيها؛ وذلك لأن الفرنسيين كانوا قد حكموا عليه غيابيًا في تونس بالإعدام لاتهامه بالمشاركة في تحريض المغاربة بألمانيا وتركيا على الثورة ضد الفرنسيين في شمال إفريقيا، فهرب إلى مصر، وبقي فيها إلى نهاية حياته المباركة.

 

وعمل في مصر مصححًا بدار الكتب المصرية بشفاعة أحمد تيمور باشا الذي عرف قدره، وكان يلقي المحاضرات والدروس في مساجدها، ويكتب المقالات المتنوعة الكثيرة.

 

وفي القاهرة أنشأ “جمعية تعاون جاليات إفريقيا الشمالية” التي تهتم بالمغاربة من الناحيتين الثقافية والاجتماعية، وذلك سنة 1342هـ/1924م، وبعد عشرين سنة ألف جمعية “جبهة الدفاع عن إفريقيا الشمالية”.

 

وفي تلك المدة أسقط الهالك أتاتورك الخلافة الإسلامية، ومن ثم تطلع الناس إلى بلد آخر ليكون مهدًا للخلافة، فاتجهت الأنظار إلى مصر، وآنذاك كتب الشيخ علي عبد الرازق كتابه المشئوم “الإسلام وأصول الحكم”، أنكر فيه أن يكون للإسلام سلطة ودولة إنما هو سلطة روحية فقط، فقامت عليه قيامة العلماء والمفكرين بمصر، وفصل من هيئة كبار العلماء في محرم سنة 1344هـ/1925م، واتهم بالزندقة والإلحاد، وحينئذ ألف الشيخ محمد الخضر حسين كتابه الشهير الذائع الصيت “نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم”، ونال به حظوة عند الملك فؤاد -الذي كان يطمع بالخلافة- وجَمْعٍ من العلماء والأدباء والمفكرين والمثقفين، وعظمت به شهرته، وطار به صيته، وقد أهدى الكتاب لخزانة الملك فؤاد.

 

– وفي مصر اختلف مع طه حسين عندما ألف كتابه “في الشعر الجاهلي”، وكان في الكتاب انحراف خطير واتباع لأقوال المستشرق الإنجليزي مرجليوث وطعن في القرآن، فاشتد غضب علماء الأزهر حين صدر هذا الكتاب، وحاكموا صاحبه إلى محاكم مصر التي كانت تحت التأثير الإنجليزي فبرأته، وهنا ألف الشيخ محمد الخضر كتابه “نقض كتاب في الشعر الجاهلي”، الذي كان باعتراف طه حسين من أهم الردود عليه وأشدها حجة.

 

وفي سنة 1346هـ/1928م شارك في تأسيس “جمعية الشبان المسلمين”، ووضع لائحتها مع صديقه محب الدين الخطيب.

 

– وفي مصر أنشأ “جمعية الهداية الإسلامية” مع بعض المشايخ منهم شيخ الأزهر محمد مصطفى المراغي، وذلك في سنة 1346هـ/1928م لمّا رأى التفسخ الخلقي آخذًا في الانتشار بين كثير من شباب مصر آنذاك، وكان من أهداف الجمعية محاربة الفساد والإلحاد، والتعريف بالإسلام، والسعي لتمتين الصلات بين الشعوب الإسلامية والسعي؛ لإصلاح شأن اللغة العربية وإحياء آدابها، وأصدر مجلة “الهداية الإسلامية” لتكون لسان حال الجمعية، وأُلقيت المحاضرات في المساجد والنوادي خاصة التي تتبع هذه الجمعية، وقد رَأَس الجمعية الشيخ محمد الخضر حسين، وفيها بعض الأعضاء البارزين مثل الشيخ علي محفوظ، والشيخ عبد الوهاب النجار، وفتحت الجمعية فروعًا في مصر وسوريا والعراق.

 

وقد توقف صدور المجلة بعد ذلك أثناء الحرب العالمية الثانية.

 

مناصب الشيخ محمد الخضر في مصر:

– التدريس في الأزهر: اختير الشيخ محمد الخضر حسين للتدريس في قسم التخصص بالأزهر، وهذا دال على مدى علمه؛ إذ لا يدرس في الأزهر آنذاك إلا كبار العلماء.

 

– رئاسة تحرير مجلة الأزهر: اختير الشيخ محمد الخضر لتولي رئاسة تحرير مجلة الأزهر التي صدرت في بداياتها باسم “نور الإسلام” وذلك سنة 1349هـ/1931م، ثم تحولت إلى مجلة الأزهر، وما زالت تصدر إلى يومنا هذا، وبقي الشيخ فيها إلى أن عزل عنها بعد أربع سنوات.

 

– وتولى رئاسة تحرير مجلة “لواء الإسلام” سنة 1366هـ/1946م.

 

– وفي القاهرة اختير عضوًا بـ”مجمع اللغة العربية الملكي” عند إنشائه سنة 1351هـ/1932م.

 

– واختير عضوًا لهيئة كبار العلماء سنة 1370هـ/1950م.

 

– ثم اختير شيخًا للأزهر بعد ثورة يوليو في سنة 1371هـ/1952م، وفي عهده أرسل وعاظًا أزهريين إلى السودان، ثم استقال منه بعد أقل من سنتين، وفي ولايته للأزهر دلالة على رفعة شأنه عند العلماء والساسة، فقد كان الأزهر أعظم مؤسسة إسلامية في العالم الإسلامي، وقد قال الشيخ العلامة الأستاذ محمد الفاضل بن عاشور التونسي عند اختيار الشيخ محمد الخضر شيخًا للأزهر: “ليحق لهذه الحقبة من التاريخ التي تُظِلُّنا أن تفخر بأنها بلغت فيها الصلات بين الأزهر والزيتونة أوْجها؛ فقد احتضن الأزهر إمامًا من أئمة الأعلام، كان أحد شيوخ الزيتونة العظام”.

 

وقد أحسنت مصر وفادته منذ نزل إليها سنة 1339هـ/1920م، وتجنس بجنسيتها وبقي فيها إلى وفاته، ودفن فيها.

 

الشيخ الخضر حسين وعلاقته بالسياسة:

كان للشيخ -رحمه الله تعالى- بعض الأفكار في باب السياسة، وخاض في شيء منها فقد كان مهتمًّا بالاتحاد الإسلامي، حريصًا على تفقد أحوال المسلمين، متألمًا مما نزل بهم، وكان -رحمه الله تعالى- حسن الصلة بوطنه تونس، حريصًا على تتبع أحواله، وإعانة أبنائه في كل الميادين، وكان بيته قبلة للتونسيين القادمين إلى القاهرة، وسخر مكانته العلمية والدينية من أجل مساعدة المدافعين عن قضية تونس خصوصًا، والمغرب العربي الكبير عمومًا، فعرف بهم السلطات والهيئات والمسئولين في مصر، وأنشأ جمعيتين لهذا الغرض كما ذكرت آنفًا.

 

وقد ذكرت من قبل أن الدولة العثمانية ابتعثته إلى ألمانيا في مهمة سياسية، حكمت عليه فرنسا من أجلها بالإعدام.

 

لكن الشيخ لم يكن يحب الحديث في المجالات السياسية في مجلته “الهداية الإسلامية”، ولا في مجلة “نور الإسلام” التي أصبحت الأزهر فيما بعد، حتى إنه قد جرت أحداث مهمة في تونس والمغرب في ذلك الوقت لكن الشيخ لم يكن يذكرها، ولعل مرد ذلك إلى تخوفه من الدخول في غمار شيء لا يدري ما عواقبه في مصر. وهذا السبب غير مقنع لي، والسبب الأقوى -عندي- هو أن الشيخ كان مهتمًّا بالإصلاح التربوي والاجتماعي والديني أكثر بكثير من اهتمامه بالسياسة التي أكد على البعد عنها في افتتاحية العدد الأول من مجلة “الهداية الإسلامية” ومجلة “نور الإسلام” في عددها الأول أيضًا، وهي التي أصبحت مجلة “الأزهر” فيما بعد، وهذا مما أثار عليه حفيظة الشيخ محمد رشيد رضا فجرى بينهما ما لا أحب ذكره -عفا الله عنهما وغفر لهما- وعلى كل حال فلا يعني عدم تعرضه للسياسة في المجلتين أنه بعيد في حياته العملية عنها، بل قد كان بها ذا صلة كما بينت آنفًا، لكنه آثر لسبب لا أدريه -على وجه القطع واليقين- أن يبتعد عنها في المجلتين، والله أعلم.

 

صفات الشيخ محمد الخضر حسين:

كان الشيخ -رحمه الله تعالى وإيانا- مؤثرًا للهدوء في النقاش والحديث، عَفّ اللسان، جريء الجنان، محبًّا للإصلاح، عاملاً على جمع الكلمة، ومن أبرز صفاته الزهد فقد كان ظاهرًا فيه طوال حياته، وكان يردد كثيرًا: “يكفيني كوب لبن وكسرة خبز، وعلى الدنيا بعدها العَفاء”.

 

وهو -بلا شك ولا ريب- صاحب همة عالية، أهّلته للوصول إلى ما وصل إليه، رحمه الله وإيانا.

 

مواقف من حياة الشيخ الخضر حسين:

– عندما كان في ألمانيا حضر عند مدير الاستخبارات الألمانية وكان معه سكرتيره، وذلك أثناء سفرهم إلى قرية ألمانية، وفي نهاية الحديث سأله المدير: أليس كذلك يقرر ابن خلدون؟

 

فقال له: وماذا يقرر؟

 

قال: إن العرب لا يصلحون لملك، ولا يحسنون حكمًا للأمم.

 

فقال له: إنما خص ذلك بعهد الجاهلية، وقرر أنهم في الإسلام أحسنوا السياسة، وقاموا بأعباء الملك خير قيام، وقد بيّن ذلك غاية البيان في فصل عقده في مقدمته.

 

وهذا يدل على أن مدير الاستخبارات الألماني كان متابعًا لأحوال العرب، وأن الشيخ محمد الخضر كان قارئًا جيدًا واعيًا حاضر الذهن.

 

– ومن مواقفه الجيدة أن السلطات الفرنسية الاستخرابية في تونس دعته ليكون عضوًا في المحكمة المختلطة التي يكون فيها قضاة مسلمون وأجانب، فرفض؛ لأن المحكمة تحكم بغير ما أنزل الله، ولأن المحكمة قائمة في ظل الاحتلال وستخدم مصالحه.

 

– ومن مواقفه الجريئة أنه حاضر في تونس عن الحرية في الإسلام أثناء وجود الاستخراب الفرنسي فيها، وذلك في نادي قدماء مدرسة الصادقية الثانوية، قال فيها: “إن الأمة التي بُليت بأفراد متوحشة تجوس خلالها، أو حكومة جائرة تسوقها بسوط الاستبداد هي الأمة التي نصفها بصفة الاستعباد، وننفي عنها لقب الحرية”. ثم بيّن الآثار السيئة للاستبداد في شجاعة وجرأة، وقد تناقل الناس مضمون المحاضرة ووصلت أخبارها إلى الشام وغيرها.

 

– وفي مصر كان له موقف مشرف حين طلب أحد أعضاء مجلس الثورة مساواة الجنسين في الميراث، ولما علم الشيخ بذلك أنذرهم إن لم يتراجعوا عن هذا فسيلبس كفنه، ويدعو الشعب إلى زلزلة الحكومة والقيام عليها لاعتدائها على حكم من أحكام الله، فكف ذلك العضو عما نواه من تغيير حكم الله تعالى، فما أحوجنا اليوم لمثله.

 

– وقد استقال من الأزهر عندما حدثت الحادثة العظمى بضم القضاء الشرعي إلى القضاء الأهلي الذي اخترعه الاستخراب الإنجليزي، وكان يرى -كما يرى كل مسلم- بوجوب حدوث العكس وهو إلغاء القضاء الأهلي وتثبيت الشرعي، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

 

وكان يقول عن وظيفته في الأزهر قولاً لا بد أن يسمعه شيخ الأزهر اليوم: “إن الأزهر أمانة في عنقي أسلمها حين أسلمها موفورة كاملة، وإذا لم يتأتّ أن يحصل للأزهر مزيد الازدهار على يدي، فلا أقل من ألا يحصل له نقص”. وهي مقولة جليلة.

 

ومن شعر الشيخ الخضر حسين:

للشيخ شعر جيد كثير ضمن بعضه في ديوان منشور، سماه “خواطر الحياة”، فمنه في ذم الكماليين الذين ألغوا الخلافة:

 

ما خَطْبُ قومٍ طالما وصـلوكِ *** واعتز باسمكِ عرشُهم هجروكِ

حرسوك أحقابًا وحَلّق صيتهم *** في الخافقيـن لأنهم حرسـوكِ

 

ومنه حين نصحه بعض أصحابه بالرجوع إلى الشام وترك مصر:

يقول: تقيم في مصر وحيدًا *** وفقد الأُنس إحدى الموتتين

ألا تَحْدو المطية نحو أرض *** تعيـد إليك أنس الأُسرتين

وعيشًا ناعمًا يدع البقـايا *** من الأعمار بِيضًا كاللُجين

فقلت له: أيحلـو لي إياب *** وتلك الأرض طافحة بغَيْنِ[1]

وما غينُ البلاد سوى اعتساف *** يدنسها به خُرْق اليدين

 

وقال يمدح الأمير محمد عبد الكريم الخطابي يوم جاءت السفينة به من منفاه، واستطاع بعض المخلصين تخليصه في السويس وهو في طريقه إلى سجنه بفرنسا، فقال على الباخرة مرحبًا به:

 

قلت للشـرق وقد قـام على *** قـدم يَعِرض أرباب المزايـا

أرنـي طلعـة شهم ينتضـي *** سيفه العَضْب ولا يخشى المنايا

أَرِنيـها إننـي مـن أمــة *** تركب الهول ولا ترضى الدنايا

فأراني بطـل الريـف الـذي *** دحـر الأعداء فارتدوا خزايا

 

أقوال في مدح الشيخ الخضر حسين:

– قال فيه العلامة عبد المجيد اللبان رئيس لجنة امتحان شهادة العالمية بالأزهر يوم تقدم إليها للاختبار: “هذا بحر لا ساحل له، فكيف نقف معه في حِجاج”.

 

– وقال عنه الشيخ العلامة محمد علي النجار: “إن الشيخ اجتمع فيه من الفضائل ما لم يجتمع في غيره، إلا في النُّدْرَى؛ فقد كان عالمًا ضليعًا بأحوال المجتمع ومراميه، لا يشذ عنه مقاصد الناس ومعاقد شئونهم، حفيظًا على العروبة والدين، يردّ ما يوجه إليهما وما يصدر من الأفكار، منابذًا لهما، قوي الحجة، حسن الجدال، عف اللسان والقلم”.

 

– وقال عنه العلامة الضخم الجليل الأستاذ محمد الطاهر بن عاشور: “إنه من أفذاذ علماء الإسلام، وقد كان قليل النظير في مصر”.

 

زواج الشيخ محمد الخضر:

تزوج الشيخ أربع مرات، مرة بتونس وقد ترك زوجه عند خروجه من تونس لرفض أهلها أن يصحبها معه، وتزوج في سوريا ثم طلق، ثم تزوج في مصر امرأة عاشت معه ثلاثين سنة ثم ماتت، فتزوج من امرأة من أهل زوجه المصرية.

 

ولم يرزق الشيخ بأولاد من أي من زوجاته.

 

مؤلفات الشيخ محمد الخضر حسين:

للشيخ عدة كتب؛ منها: “وسائل الإصلاح” ثلاثة أجزاء. وفي الكتاب نقد للأوضاع القائمة، وتقويم لها، وفيه ردٌّ على بعض الضلال الفكري الذي كان سمة من سمات ذلك العصر، وفيه تركيز على أثر العلماء والعناية بهم وحثهم على القيام بوظائفهم.

 

ومن كتبه أيضًا: بلاغة القرآن – أديان العرب قبل الإسلام – تونس وجامع الزيتونة – حياة ابن خلدون – دراسات في العربية وتاريخها – “تونس.. 67 عامًا تحت الاحتلال الفرنساوي” أصدره سنة 1948م – أدب الرحلات – الحرية في الإسلام – آداب الحرب في الإسلام – “تعليقات على كتاب الموافقات” للشاطبي – إضافة إلى مئات المقالات والمحاضرات.

 

وفاة الشيخ محمد الخضر:

توفي -رحمه الله تعالى وغفر لنا وله- في رجب مضر سنة 1377هـ/1958م عن أربع وثمانين سنة، ودفن في القاهرة في مقبرة أصدقائه آل تيمور، وأهدى مكتبته العلمية النادرة الضخمة لزوجه الأخيرة.

 

وقد احتفلت تونس رسميًّا بالذكرى الخمسين لوفاته وأبرزت أعماله، وهذا منهم عجيب؛ إذ يحتفلون بالشيخ الذي يناقضون عمله وسعيه واتجاهه في كل نواحي الحياة في تونس اليوم، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

من admin

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *