254945_504477116249888_1890524889_n
بقلم الدكتور رياض الجوادي *
تفكيرنا -مهما تمسّح بأعتاب الإسلام، وتغنّى بمصطلحاته وتقمّص مفاهيمه شكليًّا- لا علاقة له بالتّفكير الإسلاميّ إلا قليلا:

. نُدعى إلى التّفكّر… فلا نتفكّر إلا قليلا…

. ونُدعى إلى التثبّت والتحرّي… فنُسارع إلى الإشاعات نتّخذها حقائق ودينا…

. ونُدعى إلى الاحتكام إلى البرهان… فنُسلّم من غير فكر ولا برهان…

. ونُدعى إلى السّير في أرض الكون والفكر… فلا نكاد نتحرّك بأجسادنا وأبصارنا ولا بأفكارنا…

. ونُدعى إلى النّظر في القوانين والسّنن… فلا يستهوينا النّظر… ورغم جهلنا، يأخذنا الغرور والبطر…

· ونحن نفتعل الصّراعات بين العقل والنّقل، والأصل أنّهما “أخوان” متعاضدان: العقل كالعين، والوحي كالضّياء، وما لم تُوجد العين فلا رؤية، وكذلك إذا لم يُوجد الضّياء… بل ما أُنزل “الوحي” إلا لقوم يعقلون… فهل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون… فالعجب كلّ العجب أن نُظهر الموالاة المطلقة لأحد طرفي المعادلة على حساب الآخر، وكأنّ الانتصار للوحي يقتضي حتما الحطّ من قدر العقل والتّخلّص منه، وتلك لعمري سذاجة مستشرية لدى طبقة من أنصاف الفاهمين لا يُقدّرون خطورة موقفهم، ولا يعلمون أيّ ضرر يُلحقون بالإسلام حين يُظهرونه بمظهر المتوجّس من العقل، وهو الذي أشاد كلّ الإشادة بالعقل والعقلاء…

ومن لطيف الفكر أنّك إذا نظرت في القرآن، رأيته يذكر “لقوم يعقلون” ثماني مرات، وفي كلّ مرّة تأتي هذه الكلمة الحكيمة بعد دعوة صريحة إلى النّظر في الكون نظر المتعقّل لظواهر الطّبيعة والتّاريخ فيقول:

– “إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ” [البقرة: 164].

– “وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ” [الرعد: 4].

– “وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ” [النحل: 12].

– “وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ” [النحل: 66، 67].

– “وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ” [العنكبوت: 35].

– “وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ” [الروم: 24].

– “ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ” [الروم: 28].

– “وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ” [الجاثية: 5].

ومثل هذه الدّعوات الصريحة هي التي علّمت المسلمين السّير في الكون، وأورثتهم شغفا استثنائيّا بالنّظر في سُننه الطّبيعية والتّاريخية والاجتماعية فأنجبت للعالم تجربة علميّة قلّ نظيرها في تاريخ البشرية… وهو ما عبّر عنه توماس جولدشتاين عندما قال في الفصل الذي عنونه بـ”هبة الإسلام”: “كان ما تعلّمته العصور الوسطى من الإسلام هو هذا الابتهاج بتنوّع تفاصيل الطبيعة واستخداماتها من أجل المجتمع. وبتأثير هذا الالتقاء اتخذ الغرب الخطوة نحو غرس العلوم المتخصصة انطلاقا من اللبّ الفلسفي الأصلي. وكلّ علم متخصّص على حِدَة في الغرب يَدين بأصوله إلى الدّافع الإسلامي- أو على الأقل باتجاهه منذ ذلك الوقت فصاعدا…”[1].

· ونحن نتعجّل في إطلاق الأحكام والفتاوى والمواقف في الدّين دون تروّ ولا تفكّر… مستشهدين بنصّ هنا ونصّ هناك، بلا فقه عميق، ولا رؤية منظوميّة لكل الدّين والفكر الإسلاميّ… غافلين عن قوله صلى الله عليه وسلّم: “نضَّر الله امرأ سمع منّا شيئا فبلَّغه كما سمع، فرُبَّ مبلَّغ أوعى من سامع”… وقوله في رواية أخرى: “نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِى فَبَلَّغَهَا، فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرِ فَقِيهٍ، وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ”…

فأين هؤلاء الذين يدّعون ما ليس فيهم من أسلافهم من العلماء:

من سفيان ابن عُيَيْنة وسُحنُون بن سَعيد حين قالا: “أجْسَرُ النَّاس على الفُتيا أَقلُّهم عِلْما”…

ومن ربيعة حين يقول: “وبعض من يُفتِي هَهُنا أحقُّ بالسِّجْن من السُّرّاق”…

ومن بشر بن الحارث وهو يقول: “من أحبَّ أن يُسأل فليس بأهل أن يُسأَل”…

وقد أحسن الفقيه المالكيّ ابن العربي التّعبير عن معنى هذه الرؤية المنظوميّة للتّفكير الإسلامي وأهمّيتها في الحكم على مدى وجاهة أيّ تفكير يزعم انتماءَه إلى هذه المدرسة الربّانيّة الحكيمة فقال مُفسّرا للآيات الواردة في مطلع سورة آل عمران: “هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ” [آل عمران: 7]:

«المعنى، وأما الذين في قلوبهم هدى فيردّون البنات المشكلات إلى الأمهات البينات، فأنت إن اتبعت حديثا واحدا دون أن تضربه بسائر الآيات والأحاديث وتستخلص الحقّ من بينها فأنت ممن في قلبه زيغ أو عليه رين»([2])…
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1] توماس جولدشتاين: المقدّمات التاريخية للعلم الحديث: 116

[2] القبس: 2/517 – 519.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* الدكتور رياض الجوادي  دكتور في المناهج و طرق التدريس و دكتور في العلوم الإسلامية (أصول الفقه).
متفقد أوّل للتعليم و خبير الجودة في المنظومات التربوية. خبير التدريب (التكوين) و خبير تطوير المناهج و مدقّق جودة في المنظومات التربوية باعتماد أكاديمي فرنسي.
http://jaouadi.3abber.com/post/163785

من admin

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *