الدكتور رياض الجوّادي

المساجد ضميرُ هذه الأمّة… وهي القلب النّابض بتميّزها وحيويّتها وحريّتها… ولذلك كانوا كلّما أراد مستبدّ انتهاك حُرمة هذه الأمّة إلا وأخرس أصوات أئمتها وعلمائها… وكلّما أراد عدوٌّ استباحةَ بيضتها وإهانة كرامتها، إلا وداس بسنابك الخيل أفنيةَ مساجدها… كالذي فعله “بونابارت” ذات يوم في جامع الأزهر، ويفعله الصهاينة المعتدون في المسجد الأقصى…

 

ولقد دعاني إلى طرح هذه القضيّة ما ألاحظه من استهداف للمساجد والأئمّة هذه الأيام… وما أستشفّه في لحن القول عند كثيرين أنّهم يريدون أن يُسقطوا تصوّراتهم عن الدّين وعن دُور العبادة ليجعلوها “قدرًا” حاكمًا على الإسلام وعلى قِيمه ومؤسّساته… ولم يبقَ إلا أن نرى المؤسّسات الدّولية أو الوطنية غير ذات العلاقة والاختصاص، وهي تُحدّد لنا شكل الصلاة المناسبة للعصر، وعدد الرّكعات في ظلّ غلاء الأسعار، وفحوى الخُطب وعدد آيات القرآن مراعاةً لمشاعر ذوي الحساسية الشديدة للمفاهيم الإسلاميّة الشديدة الاعتدال والتّوازن، الضاربة بجذورها في العمق الإنساني…

 

ورغم قناعتي بأنّ المساجد تحتاج إلى التطوير… وأنّ الأداء الوعظي والعلميّ فيها يحتاج إلى التّجويد… ولكنّ ذلك ينبغي أن يكون في توافق كلّي مع أسس الإسلام وخصائصه التي تعطيه صيغته وتميّزه، وفي ظلّ الاحترام الكلي لاستقلال المساجد ولحرمتها… ولذلك أقول:

 

إنّ تحييد المساجد عن الدّعاية الحزبيّة واجب…

 

وأمّا تحييد المساجد عن الشأن العامّ وعن السّياسة فهو تحكُّم عَلمانيّ لا علاقة له بالإسلام…

 

والتّضييق على الأئمّة مهما كان شكْله هو ضربٌ لحرية التعبير وبادرةٌ خطيرة لا تقلّ خُطُورة عن التّضييق على الإعلاميِّين…

 

والصّدع بكلمة الحقّ، مع المجادلة بالتي هي أحسن، واللّين مع المخالفين… من أوكد واجبات الأئمة والدّعاة…

 

والتّكوين المستمرّ للقائمين على المساجد، واختيار ذوي المعرفة والخبرة والحكمة في ظلّ رضا المصلّين، ضرورات مُلحّة تستدعيها طبيعةُ المهمّة الجسيمة وطبيعةُ المرحلة الجديدة… 

 

المسجد بعض منظّمات المجتمع المدني…

إذا انطلقنا من أنّ المجتمع المدني كما يُعرّفه “جوان لينز” و”ألفريد ستيبان” هو “ذلك الميدان الذي تتبارى فيه الجماعات والحركات والأفراد المنظّمة ذاتيّا، حيث يكون هذا المجتمع المدنيّ مستقلاّ عن الدّولة ويحاول التّعبير عن القيم، وخلق مؤسّسات وجمعيات مع ترقية مصالحه”… فإنّ المسجد كان على مدى تاريخنا الإسلاميّ بادرةً أولى في هذا الشأن… لقد كان المسجدُ دائما موئلَ المحزونين والمحرومين والمظلومين أفرادا كانوا أو جماعات، وكمْ من حركاتِ تحرُّر ومواقف انتصارٍ للمظلوم انطلقت شرارتُها الأولى منه، حتّى لكأنّه البوادر الأولى لمنظّمات المجتمع المدني في واقع لم يعرف وقتَها مثل هذه المنظّمات، وداخلَ ثقافة ترى المدنيَّ في تضافر كلّي مع الروحي، لأنهما يصنعان الوحدة الاستثنائية المزدوجة والمتفاعلة، في تاريخ الرسالات السماوية، وفي تاريخ الحضارات ذات المرجعية الإيمانية…

 

ذلك ما يُقرّ به بعض خبراء هذا المجال حين يُصرّحون أنّ لفكرة المجتمع المدنيّ جذورا في المجتمعات الإسلامية منذ نشأتها، فقد “قامت منظّمات المجتمع المدنيّ والوحدات الأخرى المشابهة للمجتمع المدنيّ تاريخيا في المجتمعات الشرق أوسطية إمّا على هيئة طبقة علماء الدّين المستقلّين، وإمّا في شكل طوائف التّجّار أصحاب الحرف” (هنتر ومالك: التّحديث والدّيمقراطية والإسلام: 59).

 

وليس لكلام الذين يرفضون أن تكون مؤسّسات المجتمع المدني ذات طبيعة دينية أيّ وجاهة، لأنّه تحكّم لا حجّة له، والأغرب من ذلك أنّ الباحثين في هذا المجال لا يرون في ذلك ضيرا ولا يجدون غضاضة في أن يُطلقوا اسم المجتمع المدني على التجمّعات الدينية، ويظهر ذلك جليا في توصيف بعضهم لواقع المجتمع المدني الحديث في الشرق الأوسط حين يقول: “أمّا في الأزمنة المعاصرة، فقد تكاثرت منظّمات المجتمع المدنيّ في شكل تجمّعات دينيّة أو جماعات ثقافيّة أو مؤسسات تعليمية شبه خاصّة أو نقابات مهنيّة” (المصدر نفسه).

 

المسجد موئِل الأحرار والباحثين عن كرامتهم على مدى التاريخ الإسلامي…

ولينظر المتشكّكون إذا شاؤوا إلى دور الأزهر في تنوير العقول ومناهضة الاستعمار وصدّ الهجمات الصليبية والمغولية… وإلى تاريخ الزّيتونة في رحلتي التّحرير والتنوير… وإلى دور المساجد عموما في التصدّي لجور السلطان أو تخاذله عن النّهوض بمسؤولياته، وإلى دورها خصوصًا في هذه الثّورات الأخيرة، وكيف كانت جحافل الاحتجاج تنطلق كلَّ جمعة من أمام المسجد، حتّى انقلبت الجُمُعات كابوسًا يُصيب المُستبِدّين بالهلَع…

 

فلا غرابة أن يقول الله تعالى: “إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ” (التوبة: 18). وانظر إلى “لم يخش إلا الله” وموقعَها من الآية، تفهم هذه الدّلالة الاجتماعية والنّضالية للمساجد، وهي ليست نضاليّة حزبيّةً، حتّى لا تكون سببا للفُرقة وتشتيت الصّفوف، بل هي نضاليّة متعاليةٌ على الانتماءات الضّيقة ومستقلّةٌ، قوامُها “كلمة الحقّ” يَصدع بها الذين لا يخشون إلا الله… ولا يُريدون بمجتمعاتهم إلا خيرا…

 

المسجد هو القلب الذي يضخّ “الحياة” و”المعنى”  في جسد الأُمّة…

فقد كان المسجد دائما، من أندونيسيا إلى الأندلس، مركز الخصوصية الحضارية للمجتمعات العربية والإسلامية، ولذلك كانت المساجد تُبنَى دائما في قلب المدينة وبجانب السّوق على عكس كلّ دور العبادة في الديانات الأخرى، لأنّ الإيمانَ يتبوّأ مركز الصّدارة في هذه الحضارة ويتربّع على عرش قلبها، قال تعالى: “فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ، رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ” (النور: 36-37)… فذكر الله في المنظور الإسلاميّ ليس “مناسبة” عارضةً، بل هو “حياةٌ” يعيشها الإنسانُ في كلّ وقتٍ وعلى كلّ حال…

 

وقد نجح المسلمون بذلك أن يصنعوا مدنيّةً إسلاميّةً متميّزة يمشي فيها الرُّوحي والماديُّ متعانقَيْن من غير نِزاع ولا صِراع افتعلته الحضارات المادّيّة ليُرهق إنسانية الإنسان ويُفقدها كثيرا من مقوّماتها وأسباب السّعادة فيها… مدنيّة بريئة من كلّ تسلّط كهنوتي أو تطرّف يضيّع على الإنسان توازنه، وقد أحسن “ريتشارد سَوْذرن” الكشف عن هذه الخصوصية النوعية المميزة للحضارة الإسلاميّة معبّرًا عن الفروق الهيكلية بين التجربتين الحضاريتين: المسيحية والإسلامية في كتابه “صورة الإسلام في أوروبا في القرون الوسطى” فقال: «لقد كانت مُثُل أوروبا الوسِيطة بشكل أساسيٍّ هي الرّهبنة والكهانة والهرميَّة الاجتماعية… بينما عَرف الإسلامُ الوسيطُ المزدهر فئاتٍ بشريّةً مَدِينِيَّةً متحرّرةً، مقبلةً على العمل والحياة، ومستندة إلى سواسية مبدئيّة اجتماعيا، تستمْتِع بالنّقاش والجدل في المسائل كلّها، دونَما كُهّان أو أدْيرة في البنية الأساسيّة للاجتماع» (صورة الإسلام في أوروبا في القرون الوسطى: 43).

 

المسجد منارةٌ من منارات العلم والمعرفة في أوطاننا منذ نشأتها…

عَن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “…وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِن بُيُوتِ الله يَتْلُونَ كِتَابَ الله وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلَّا نَزَلَتْ عَلَيْهِم السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُم الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُم الْمَلَائِكَةُ، وَذَكَرَهُمْ الله فِيمَنْ عِنْدَهُ…”.

 

وهو توجيه صريح إلى أنّ العلم وتدارس الكتاب قد يُلتمَس في المسجِد… ويكون التّدارس في جماعة من المسلمين… وأنّ المساجدَ لا يقتصر دورُها على أداء الشّعائر كما يتوهّم بعضهم بناءً على تجارب مسقطة على واقعنا وثقافتنا…

 

وتتضافر على مركزية هذا “الخيار” شواهد كثيرةٌ يُمكن استجلاؤها بسهولة في تاريخنا المعرفيّ والتّعليمي… ولقد أحسن “توماس جولدشتاين” عن هذا المعنى حين قال: “كان ما تعلّمته العصور الوسطى من الإسلام هو هذا الابتهاج بتنوّع تفاصيل الطبيعة واستخداماتها من أجل المجتمع. وبتأثير هذا الالتقاء اتّخذ الغرب الخطوة نحو غرس العلوم المتخصصة انطلاقا من اللبّ الفلسفي الأصلي. وكلّ علم متخصّص على حِدَة في الغرب يَدين بأصوله إلى الدّافع الإسلامي- أو على الأقل باتجاهه منذ ذلك الوقت فصاعدا…” (المقدّمات التاريخية للعلم الحديث: 116).

 

فهذه شهادة من بين شهادات كثيرةٍ على أنّ للبعد الإيماني -وفي قلبِه المسجد- دورًا أساسيًّا في تطوير المعرفة الإنسانيّة، ولا غرابة حينها أن تكون أُولى الجامعات في هذه الحضارة إنّما أقيمت حول المساجد وفيها…

 

وأكثر ما أستغربه أن تكون للمؤسّسات الكنسيّة -حتّى في بلدنا- مدارسُ تحمل اسمها وتدرّس التلاميذ بإشرافها وتحت حمايتها من غير نكير ولا استغراب من أحد، أمّا أن يكون للمسجد دوره التربوي أو التعليمي في وطنه، فتلك عجيبة العجائب وأزمة ترتفع لها كلّ الأصوات بالنّكير والتّحذير!

 

المسجد فاعلاً في حاضرنا وغدنا…

أقترح، في ظلّ التّطوّرات الماديّة الحاصلة في حياة الإنسانية في هذه القرون الأخيرة، أن يُستثمر كلّ ما استجدّ من الإمكانيات والوسائل لتطوير دور المسجد وجعله بمثابة “المركز الإسلامي” المتعدّد الاختصاصات… يبقى التعبّد في قلبها… ويُكمّل بأدوار تربوية واجتماعية وصحيّة كثيرة لها أكثر من سند في تاريخنا الإسلامي بدءا من العهد النبوي… ولها أكثر من نموذج في المجتمعات الإسلامية الحديثة، حيث استمرت المساجد في لعب دورها “الخيري” من خلال الإسهام في محاربة الفقر… ودورها “التعليمي” من خلال الإسهام في محاربة الأمّية مثلا… ودورها الصّحّي من خلال توفير العيادات الطبية المجانية للفقراء تتضافر عليها جهود المتطوّعين من الأطباء في تخصصاتهم المختلفة…

 

ومثل هذه الأدوار لا يُمكن أن ينهض بها إلا شخصيّاتٌ متميّزة تجمع بين القدرة المعرفيّة والمنهجية والتواصليّة، وتخضَع بِشكْل دوريّ للدّورات التّكوينية المختلفة حتّى يكون أداؤها في مستوى التّحدّيات المطروحة على البلاد، وفي مستوى الإسهامات المنشودة من المسجد .

 

المصدر : رياض الجوّادي Riadh Jaouadi

من admin

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *