د. إبراهيم البيومي غانم | أستاذ العلوم السياسية – جامعة القاهرة / مصر.

 
مفهوم “الخير” معروف في أغلب الحضارات الإنسانية، و”عمل الخير” مألوف في معظم تجارب الشعوب والأمم، القديم منها والحديث. ويكاد الخير أن يكون قاسما مشتركا بين جميع بني آدم على مر العصور والأزمان، كما أن الشر قاسم آخر مشترك بينهم، والسعيد منهم من هداه الله لفعل الخيرات والتسابق ف

يها. وللخير وعملِه مقاصدُ تختلف في تفاصيلها بحسب كل حضارة، ولكنها تتفق في كلياتها بين جميع الحضارات حيث “الإنسان” هو مَنْ تُنتظر منه المبادرة بعمل الخير، وهو أول مَنْ يستفيد من عمل الخير معنويا أو ماديا أو معنويا وماديا في آن واحد.
أين يقع “الخير” و”العمل الخيري” من مقاصد الشريعة؟ إن الخير مقصد عام وثابت من المقاصد العامة للشريعة الإسلامية، وله مقاصد أخرى تهدف كلها لمنفعة الإنسان في كل زمان ومكان. علينا قبل الإجابة أن نعرف أن مفهوم “الخير” متجذر في اللغة العربية، وهو ذو مقاصد متنوعة بعضها يخدم مقاصد عامة وثابتة، وبعضها يسهم في تحقيق مقاصد فرعية ومتغيرة.

الخير في اللغة

تشير كلمة “الخير” في اللغة العربية إلى كل ما فيه نفع وصلاح، أو ما كان أداة لتحقيق منفعة أو جلب مصلحة(1) كالمال، والمالُ الوفير يقال له خير. قال حكيمٌ يعظُ ابنه: “لا خير فيمن لا يجمع المال ليصون به عرضه، ويحميَ به مروءته، ويصل به رحمه”. وينظر الأصفهاني إلى الخير نظرة فلسفية، ففي “المفردات في غريب القرآن” يقول: “إن الخير ما يرغب فيه كل البشر كالعقل والعدل والنفع والفضل، وضده الشر”.(2) وقال آخرون إن الخير هو “العمل الذي يعم نفعه”. وكثيرون من فلاسفة الإسلام وحكمائه أقاموا ضربا من التوحيد بين “الخيرية” والإبداع؛ فكلما كان الإنسان خيرا، ومحبا للخير، كان أقدر على الإبداع والابتكار والتجديد وإفادة البشرية وإعمار الأرض. يقول ابن سينا: “إن الخير هو ما يتشوقه كل شيء ويتم به وجوده”.(3)
ويرتبط الخير في لغة العرب بحسن الاختيار، وتعددِ البدائل التي يمكن الاختيار من بينها. ويشير أبو هلال العسكري إلى الفرق بين الخير والمنفعة فيقول: “إن كل خير نافع، ولكن ليس كل نفع خيرا”. واستشهد بقوله تعالى عن الخمر والميسر: ﴿قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا﴾(البقرة:219).
فلا تكون المعصية خيرا وإن جلبت نفعا. ويقول أبو هلال أيضا: “إن الإنسان يجوز أن يفعل بنفسه الخير، كما يجوز أن ينفع نفسه بالخير، ولا يجوز أن ينعم عليها؛ فالخير والنفع من هذا الوجه متساويان، والنفع هو إيجاب اللذة بفعلها، أو السبب إليها، ونقيضه الضر، وهو إيجاب الألم بفعله أو التسبب فيه”.(4)
ويربط كتَّابُ الحكمةِ السياسية في التراث الإسلامي بين “الخير” ومكارم الأخلاق، والعدل، وعمارة البلدان، أي تنميتها وتطويرها. فابن هذيل مثلا يقول: “إن كل خصلة من خصال الخير، وخلة من خلال البر، وشيمة تعزى إلى مكارم الأخلاق، وسجية تضاف إلى محاسن الطبائع والأعراق؛ فهي واقعة على اسم الكرم.(5) أما سبط ابن الجوزي فيربط الخير بعمارة البلدان، يقول: “إذا اتسع الرزق، كثرت الخيرات، وإذا كثرت الخيرات عمرت البلدان”.(6) وفي إطار المقارنة نجد أن كلمة “العمل الخيري” (Philanthropia) في اللغات الأوربية مشتقة من مصدرين في اللاتينية، الأول هو كلمة (Philein) وتعني “حب”، والثاني هو كلمة (Anthropon) وتعني الإنسان. ومعنى الكلمتين معا هو “حب الإنسان”. وتكون كلمة خير بمعنى “الطيبة” (Kindness)، أي إن الخيرية هي صفة لمن يشعر بآلام الآخرين، ويرغب في تحقيق سعادتهم، أو في دفع الأذى عنهم”.(7) ويختلف فهم العمل الخيري في تجارب المجتمعات الغربية بتباين الخلفيات التاريخية والأعراف الخاصة بكل دولة، أو بكل مجموعة من الدول. ففي إنجلترا مثلا يستخدم مصطلح الإحسان (Charity) كمرادف لمصطلح العمل الخيري (Philanthropy)، وقد استمر المصطلح الأخير مرتبطا بتصورات العصر الفيكتوري عن سخاءِ وعطف الطبقات العليا في المجتمع على الطبقات الدنيا. أما في الولايات المتحدة فهناك تمييز بين المفهومين، إذ يشير الإحسان إلى المنح والعطاء المتوجه لمعالجة نتائج مشكلة أو قضية ما، في حين أن العمل الخيري يوجه موارده لمعالجة أسباب المشكلة من جذورها والوقاية منها وتفادي وقوعها.

فلسفة الخير ومقاصده

ينبع مفهوم “الخير” من أصول الرؤية الإسلامية للعالم. وتشكل النـزعة الخيرية ركنا من أركان بناء الوعي الإسلامي للذات الإنسانية، وتوفر أساسا من أسس تكوين الذات الفردية والجماعية في الخبرة الحضارية الإسلامية. فالخير مقصد عام وثابت للشريعة، وله مقاصد أخرى على نحو ما سيأتي بيانه. وتتضمن الأصول الإسلامية (القرآن والسنة) نظرية متكاملة للخير وتطبيقاته وأبعاده النفسية والاجتماعية والاقتصادية، الفردية والجماعية.(8)
أما فلسفة الحضارة الغربية الحديثة فلا يوجد بها ما يحض على المبادرة بعمل الخير، ولم تظهر نزعة “عمل الخير” المجرد من المنفعة المادية لصاحبه في الأفكار الفلسفية الكبرى للحضارة الغربية. ففلاسفة الأنوار من أمثال هوبز، ولوك، وبنتام، وغيرهم، لم يتحدثوا عن مفهوم الخير العام في كتاباتهم، وكان جل تركيزهم على “النـزعة الفردية” و”مصلحة الفرد”. فكل شيء عندهم يقاس بحاجة الفرد ومصلحته المادية في المقام الأول والأخير. ويؤكد “مارسيل موس” في بحث له بعنوان (Essai Sur Le Don) (بحث في الهبة) أن حضارة الغرب لا تمتلك مفهوما مستقلا للعمل الخيري في ظل هيمنة الجانب الاقتصادي والفلسفة الرأسمالية على روحها. ولهذا لا يمكن فهم مؤسسات العمل التطوعي أو غير الهادف إلى الربح في البلدان الغربية (أوربا وأمريكا) بعيدا عن قوانين الضرائب، حتى إنهم يطلقون عليه اسم “القطاع المعفي من الضرائب”، في إشارة صريحة إلى أن “الإعفاء الضريبـي” هو أهم دافع للمبادرات الخيرية للصالح العام، باستثناء الأعمال الخيرية ذات الوازع الديني.
“الخير المشترك” أو “العام” في الفلسفة الغربية الحديثة هو منفعة تحدث للمجتمع ككل متكامل، أما خير الجميع فهو منفعة تحدث لكل أعضاء المجتمع منفردين. النظرية النفعية عند “بنثام” مثلا تقول إن خير كل فرد يقاس بمقدار المصلحة المتحققة لهذا الفرد، ولاختلاف الأفراد ستختلف مصالحهم. وحاول “عمانويل كانت” -دون جدوى- أن يَحُل هذه المعضلة بقوله “إن الخير العام هو الذي ينسب إلى الطبيعة البشرية ككل، وبالتالي فإن الخير الذي يستثني من المتمتعين به ولو فردا واحدا لا يعد خيرا عاما”. وهو يعود بذلك إلى نقطة البداية وهي أن “الخير” هو النفع المتحقق لكل شخص منفردا.(9) وهذا يختلف عن المفهوم الإسلامي للخير والعمل الخيري على ما سنرى. وقد نظر الفلاسفة المسلمون إلى مفهوم “الحقيقة” على أنه جزء من مفهوم الخير، وربطوا بين الباطل ومفهوم الشر(10) معتبرين أن الشر يُنتج الباطل، والباطل ينتج الظلم، والظلم مؤذن بالخراب.
ولكن الغياب شبه التام لفلسفة “الخير” عن الحضارة الغربية الحديثة لم يمنع ظهور المبادرات التطوعية (الخيرية). والسبب الرئيسي هو أن تركيز الثروة -حسب قوانين السوق في النظام الرأسمالي- يؤدي إلى طرد أعداد كبيرة خارج السوق، ومن ثم إحداث خلل في الدورة الاقتصادية (الإنتاج والاستهلاك والادخار والاستثمار والإنتاج… وهكذا)، والمبادرةُ بعمل خيري يهدف إلى الإسهام في معالجة هذا الخلل أمر مفيد لأصحاب رؤوس الأموال، فضلا عن أنه مفيد للاقتصاد الكلي؛ لأن من شأنه أن يدعم القوة الشرائية، وأن يستوعب مَن استبعدتهم قوانينُ السوق، أو أغلبَهم بطريقة أو بأخرى، ويعيدَهم إلى ميدان العمل والاستهلاك. ولتشجيع المبادرات الخيرية التي تحقق هذه الأهداف عمدت أغلبية البلدان الأوربية والأمريكية إلى تقديم حوافز ضريبية لأصحاب رؤوس الأموال لقاء ما يقدمونه من تبرعات. صحيح أن دوافع هذه المبادرات الخيرية مادية في أغلبها، وتهدف إلى التمتع بالإعفاءات الضريبية، إلا أن مقاصدها وأهدافها تصب في مصلحة المجتمع والدولة، وتسهم في رفاهية الأفراد والجماعات داخل الدولة أيضا، وإن كانت السنوات الأخيرة قد شهدت ميلا متزايدا للمنظمات غير الحكومية -وخاصة الأوربية والأمريكية- نحو توسيع نشاطها خارج حدودها الوطنية.

الخير والمقاصد العامة للشريعة

لن ندخل هنا في مضمون علم “مقاصد الشريعة” ولا في تفاصيله،(11) يهمنا فقط أن نشير إلى أن الموضوع الرئيسي لهذا العلم هو البحث عن غايات الإسلام الكبرى من التشريع الذي جاء به في العبادات وقوانين المعاملات، وفي الآداب التي يَرى أنها جديرة بأن تُخص باسم “الشريعة”، والتي هي مظهر ما راعاه الإسلام من تعاريف المصالح والمفاسد والموازنة بينها وترجيح أحدها على الآخر؛ مما هو مظهر عظمة الشريعة الإسلامية بين بقية الشرائع والقوانين والسياسات الاجتماعية الهادفة في جملتها إلى تحقيق مقصد عام هو: “حفظ نظام العالم، واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه وهو نوع الإنسان. ويشملُ صلاحه صلاحَ عقله، وصلاح عمله، وصلاح ما بين يديه من موجودات العالم الذي يعيش فيه”.(12) إذن فـ “المصلحة” هي النواة الصلبة لمقاصد الشريعة،(13) وأن هدف هذه المقاصد هو “جلب الصلاح ودرء الفساد، وذلك يحصل بإصلاح حال الإنسان”.(14) ولابن القيم كلمة جامعة ودقيقة في بيان كيف أن مبنى الشريعة وأساسها هو مصلحة العباد في المعاش والمعاد، حيث يقول: “إن الشريعة عدل كلها، ورحمة كلها، وحكمة كلها، ومصالح كلها، وأي مسألة خرجت من العدل إلى الجَوْر، ومن الرحمة إلى ضدها، ومن الحكمة إلى العبث، ومن المصلحة إلى المفسدة، فليست من الشريعة في شيء، وإن أدخلت فيها بالتأويل”.
وقد حدد المقاصديون عدة طرق للتعرف على المقاصد العامة للشريعة، منها أدلة القرآن الواضحةُ الدلالة، والسنة النبوية المتواترة، واستقراء الأحكام المعروفة عللها؛ “فإن باستقراء العلل حصول العلم بمقاصد الشريعة بسهولة، لأننا إذا استقرينا عللا كثيرة متماثلة في كونها ضابطا لحكمة متحدة أمكن أن نستخلص منها حكمة واحدة، فنجزم بأنها مقصد شرعي”. وكذلك “استقراء أدلة أحكام اشتركت في علة بحيث يحصل لنا اليقين بأن تلك العلة مقصد مراد للشارع”، ومثال ذلك أن كثرة الأمر بعتق الرقاب دلنا على أن من مقاصد الشريعة حصول الحرية.(15)
وقد ذهب الإمام أبو إسحق الشاطبي إلى أن مقصد الشارع الحكيم يُعرف من جهات: إحداها مجرد الأمر والنهي الابتدائي التصريحي.. والثانية اعتبار علل الأمر والنهي، ولماذا أمر بهذا الفعل، ولماذا نهى عن هذا الآخر؟ والثالثة أن للشارع في شرع الأحكام العادية والعبادية مقاصدَ أصيلة ومقاصد تابعة… فمنها منصوص عليه، ومنها مشار إليه، ومنها ما استقرئ من النصوص. على أن كل ما لم ينص عليه مما شأنه ذلك هو مقصود للشارع أيضا.
والجهة الرابعة مما يعرف به قصد الشارع السكوت عن شرع التسبب، أو عن شرعية العمل مع قيام المعنى المقتضى له…”.(16)
وكلما تأملنا في المقاصد العامة للشريعة سواء منها ما استنبطه الأولون، أو ما استنبطه المحدثون، وجدنا أنها تشكل منظومة متماسكة، وتقيم بنيانا يشد بعضه بعضا بحيث يصعب جدا أن نتصور مقصدا بمعزل عن بقية المقاصد؛ فكل منها يأخذ بيد الآخر، وكلها ماض على طريق مصلحة الآدمي، مسلما كان أو غير مسلم، ذلك لأنها كلها موثوقة برباط الفطرة الإنسانية، ومبنية عليها باعتبار أن الفطرة هي “وصف الشريعة الأعظم”. وقد أصاب وأجاد العلامة ابن عاشور في شرحه لهذه الصفة المركزية من صفات الشريعة الإسلامية، واستخلص أن “السماحة” هي “أول أوصاف الشريعة وأكبر مقاصدها”، وأن حكمة السماحة في الشريعة هي “أن الله جعل هذه الشريعة دين الفطرة، وأمورُ الفطرة راجعة إلى الجبلة، فهي كائنة في النفوس، سهل عليها قبولها، ومن الفطرة النفر من الشدة والإعنات…”.(17)

العمل الخيري مقصد عام للشريعة

وإذا سلكنا مسالك استنباط المقاصد العامة للشريعة التي قررها المقاصديون -وأشرنا إليها فيما سلف- وبحثا عن موقع العمل الخيري من هذه المقاصد، فسنجد أن “العمل الخيري” مقصد عام وثابت من مقاصدها، وأن له في ذاته مقاصد أخرى؛ بعضها يهدف إلى خدمة مقاصدَ عامةٍ من مقاصد الشريعة مثل مقصد الحرية كما سنرى، وبعضها يهدف إلى خدمة مقاصد فرعية ومتغيرة بتغير ظروف الزمان والمكان وأحوال المجتمعات.
فالعمل الخيري مقصد عام من مقاصد الشريعة،(18) وذلك بدلالة كثرة الأمر به والحض عليه ومدح فاعليه، والتحذيرِ من مناوئيه في كثير من آيات الكتاب العزيز، وأحاديث النبي الكريم صلى الله عليه وسلم. وقد ورد لفظ الخير 180 مرة في القرآن الكريم، وورد لفظ “أخيار”، و”خيرات” و”خيرة” 8 مرات في سياقات متنوعة تربط “الخير” بجوانب أساسية من الحياة المدنية التي يعيشها الناس، كما ورد في بعض الحالات ضمن سياقات (أقل عددا) تربطه بالحياة الآخرة.
من الآيات القرآنية التي تحض على فعل الخير قوله تعالى: ﴿وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾(الحج:77)، وقوله تعالى: ﴿وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ﴾(آل عمران:115).
ومن الآيات التي تأمر بالدعوة للخير قوله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ﴾(آل عمران:104)، وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: “من دل على خير فله مثل أجر فاعله” (رواه مسلم).
ومن الآيات التي تحث على المسارعة في عمل الخير قوله تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا﴾(المائدة:48). ومن الآيات التي تثني على الذين يسارعون بعمل الخيرات قوله تعالى في وصف بعض مؤمني أهل الكتاب: ﴿يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ﴾(آل عمران:114)، وفي وصف أهل الخشية من ربهم: ﴿أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾(المؤمنون:61).
أما عن السياقات التي ورد فيها ذكر الخير، فمنها ما ورد في القرآن عند الحديث عن العلم، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾(الصف:11). ومنها ما ورد عند الحديث عن العمل، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ﴾(الزلزلة:7). وورد في سياق الحديث عن الكفاءة والمقدرة، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الأَمِينُ﴾(القصص:26)، وفي سياق الحديث عن العدالة جاء قوله تعالى: ﴿وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً﴾(الإسراء:35)، وللحض على المنافسة والسبق في الأعمال المفيدة قال تعالى: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾(البقرة:148)، وقوله: ﴿وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ﴾(فاطر:32). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “سبق درهم مائة ألف درهم”، قالوا: وكيف؟ قال: “كان لرجل درهمان، تصدق بأحدهما، وانطلق رجل إلى عرض ماله فأخذ منه مائة ألف درهم فتصدق بها” (رواه النسائي). وفي سياق الحديث عن الإنفاق قال تعالى: ﴿مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ﴾(البقرة:215). وثمة مواضع أخرى كثيرة، علمنا من اطراد ورود الأمر بعمل الخير فيها، والحض عليه، والثناء على من يقومون به، أن العمل الخيري مقصد عام وثابت من مقاصد الشريعة الغراء.
وفي الفلسفة الإسلامية أيضًا نجد أن الفلاسفة والحكماء قد أدركوا هذا المعنى الواسع لمفهوم الخير. ومن ذلك قول ابن سينا الذي أوردناه، وفيه يؤكد على أن “الخير هو ما يتشوقه كل شيء ويتم به وجوده”.
ونحن نلاحظ أن عمل الخير يطرح في النفس الارتياح والطمأنينة، ويطرح في المجتمع الاستقرار والسكينة، ويجعله مهيأ لعيشة هنيئة، ولحياة أفضل، ويجعله بحيث يسمح للناس بالإبداع والابتكار، والقيام بالمبادرات التي تستهدف تحسين نوعية الحياة والتغلب على مشكلاتها، والإسهام في سعادة أهلها.
تنظر الفلسفة الإسلامية إلى العمل الخيري نظرة عميقة إذ تربطه بمفهوم الحرية. فالعمل الخيري عندما يكون عطاء بلا مقابل مادي هو تحرير للنفس إما من قيد الأثرة وحب التملك، أو من قيود الآثام واجتراح الخطايا، أو من قيد الكبر واستعلاء النفس على الآخرين ممن يشاركونها الانتماء إلى أصل واحد “كلكم لآدم وآدم من تراب”(رواه أبو داود). في مقابل الفلسفة الإسلامية، نجد أن فلاسفة الأنوار في عصر النهضة من أمثال توماس هوبز، وجون لوك، وبنثام، وغيرهم، لا يتحدثون عن مفهوم “الخير”، ولا عن مفهوم “الخير العام”، لأن جل اهتمامهم كان منصبا على “اللذة”، و”المنفعة” الفردية، وكل شيء يجب أن يقاس بحاجة الفرد أولا وقبل كل شيء. يقول موريس كرانستون: “ليس لفكرة الخير العام أي مكان عند المفكرين السياسيين من أصحاب النـزعة الفردية كهوبز ولوك وبنثام، لأن كل قضية يجب أن تقاس بحاجة الفرد”.(19) ومرجعية قياس الخير والشر هو ذات الإنسان وتقديره للمنفعة التي تعود عليه في إطار عام من تبادل المنافع والمصالح الفردية.(20)
ويتعارض منطق العطاء بلا مقابل مع منطق السوق والكفاءة الاقتصادية في الرؤية الرأسمالية الحديثة عموما. ولكن التجربة الإسلامية تؤكد أن المنفعة ليست فقط حصيلة مبادلات مادية بين الأفراد والجماعات، وإنما يمكن أن تكون هذه المنفعة حصيلة فعل خيري بدون مقابل مادي. وهذه الممارسة تتطلب بطبيعة الحال الإيمان العميق بعمل الخير، كما تتطلب إدراك المضمون الواسع لمفهوم العمل الخيري الإسلامي الذي يبدأ بأقل الأشياء “شِقّ تمرة” كما في حديث للرسول صلى الله عليه وسلم (رواه البخاري)، ويصل إلى كل ما يملكه الفرد من أموال.
نعود فنؤكد على ما خلصنا إليه وهو أن “العمل الخيري” مقصد عام وثابت من مقاصد الشريعة بدلالة تواتر الأمر به والحض عليه في آيات الكتاب العزيز، وفي أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم. وهو ليس فقط مقصدا عاما وثابتا من مقاصد الشريعة، وإنما له أيضا مقاصد أخرى بعضها يخدم مقاصد عامة وثابتة، وبعضها يخدم مقاصد فرعية ومتغيرة. وهذا موضوع لمقال آخر إن شاء الله.
———————————————–

الهوامش

(1) قاموس المصطلحات الاقتصادية، لمحمد عمارة، دار الشروق، القاهرة، ص:205-206.
(2) المفردات في غريب القرآن، لأبي القاسم الحسين بن محمد الأصفهاني، تحقيق محمد سيد الكيلاني، مادة “خير”.
(3) كتاب النجاة، لأبي علي بن سينا، ص:229.
(4) الفروق اللغوية، لأبي هلال العسكري، ضبط وتحقيق حسام الدين القدسي، دار الكتب العلمية، بيروت،1981، ص: 161-162.
(5) عين الأدب والسياسة وزين الحسب والرياسة، لأبي الحسن علي بن عبد الرحمن بن هذيل، دار الكتب العلمية، بيروت، 1981، ص:105.
(6) الجليس الصالح، والأنيس الناصح، لسبط بن الجوزي، دار رياض الريس، لندن، 1989، ص:67.
(7) المعجم الفلسفي: معجم المصطلحات الفلسفية، لمراد وهبة، دار قباء للطباعة والنشر والتوزيع، القاهرة: ص:320
(8) راجع ما سبق بشأن مقصد العمل الخيري ومقاصده في الشريعة الإسلامية. ولا تزال نظرية العمل الخيري بعيدة عن أضواء البحث العلمي انطلاقا من أصولها المنصوص عليها في الكتاب والسنة، واستئناسا بالنماذج التطبيقية للأعمال الخيرية في ظل الحضارة الإسلامية.
(9) موسوعة العلوم السياسية، لمحمد محمود ربيع وإسماعيل صبري مقلد (محرران)، جامعة الكويت، الكويت، 1993و1994، 1/282-283.
(10) مفهوم الحقيقة في الثقافة الإسلامية، ليحى هويدي، (مستخرج من حوليات كلية الآداب)، جامعة القاهرة، مجلد29 1966، ص:1-2.
(11) للحصول على بعض تفاصيل هذا العلم انظر على سبيل المثال: مقاصد الشريعة الإسلامية، لمحمد الطاهر بن عاشور، مكتبة الاستقامة بسوق العطارين، تونس، طبعة أولى، 1366هـ.
(12) المرجع السابق، ص:63.
(13) حول نظرية المصلحة في الشريعة الإسلامية انظر بصفة خاصة: نظرية المصلحة في الفقه الإسلامي، لحسين حامد حسان، مكتبة المتنبي، القاهرة، 1981.
(14) مقاصد الشريعة الإسلامية، مرجع سابق، ص:65.
(15) المرجع السابق، ص:15-18. وثمة طرق أخرى تحدث عنها العلامة ابن عاشور وهي: أدلة القرآن الواضحة الدلالة، والسنة المتواترة.
(16) الموافقات في أصول الشريعة، لأبي إسحق الشاطبي، وعليه شرح شيخ علماء دمياط الشيخ عبد الله دراز، دار المعرفة، بيروت، ب.ت، 2/ 393-409.
(17) مقاصد الشريعة الإسلامية، مرجع سابق، ص:56-63.
(18) تحدث الشيخ محمد الطاهر بن عاشور عن مقاصد التبرعات، وهي تندرج في العمل الخيري بلا شك، ولمزيد من التفاصيل انظر كتابه: مقاصد الشريعة الإسلامية، مرجع سابق، ص:204-210. وتختلف رؤيتنا لمقاصد العمل الخيري بعض الاختلاف مع ما قدمه الشيخ رحمه الله.
(19) المصطلحات السياسية، لموريس كرانستون (محرر)، دار النهار للنشر، بيروت، 1969، ص:90.
(20) موقف الدين من العلم، لعلى فؤاد باشكيل، ترجمة: أورخان محمد علي، دار الوثائق، الكويت، ب.ت، ص:88 حيث ينتقد النظرة النفعية في الفلسفة المادية الوضعية.

من admin

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *