عندما نخرج من بيوتنا قاصدين الذهاب إلى المساجد، أو الأسواق، أو الجامعات، نجد كثيراً من الشباب المتكدس بالأكوام، جالسين هنا وهنالك، دونما فائدة مرجوَّة من علم، أو صناعة نهضة، أو تنمية ذاتية وجسدية…

ها هم يستمعون للمذياع أو المسجل الإلكتروني في الجوال، ويسمعون لأصوات الفنانين والفنانات من الكلام السخيف أو الهابط!

لربما شاهدوا أحداً يحتاج مساعدة أو معاونة، أو تكافلاً اجتماعياً، أو عملاً جماعياً مهماً، خدمة لشعبهم أو وطنهم وأمَّتهم، لكنَّهم يديرون وجوههم، وينشغلون بتوافه الأمور.

إثر ذلك كلِّه كان من الضروري التأكيد على أهمية دور العمل التطوعي والخيري، وسبيله لنهضة الأمم ورقيها، خصوصاً إن كان ذلك على أساس من تقوى الله ـ عزَّ وجل ـ، مع التعاون الاجتماعي، والتكافل الشعبي. وعليه، فإذا أردنا أن نحقق لشعبنا الفلسطيني نهضة وحريَّة، وتقدماً ورقياً في مجتمعنا المدني المعاصر، فعلينا أن ندرك ضرورة التعاون الاجتماعي الذي تقوم أسُسُه على الدين والعلم والأخلاق والاقتصاد، كما يقول الإمام المفكر الجزائري: محمد البشير الإبراهيمي.

إنَّ المجتمع الشعبوي الفلسطيني حينما يدرك قيمة الوقت، وضرورة اغتنام ساعة الزمن بالصالحات والأعمال الزكيات، فإنَّه في الحقيقة يساعد هذه الأمَّة الفلسطينية المسلمة على تحقيق سبل الحضارة، والتقدم نحو الحرية، والتحرر من ربقة المحتل الصهيوني.

ليس من شك أنَّ العمل التطوعي الفعَّال يكمن في تحقيق الجهد الذي يقوم به الأفراد ذاتياً وتلقائياً لتقديم خدمة لمجتمعهم أو للأفراد، دون أجر مادي مقابل هذا الجهد، ومن نتائجه الجميلة أنَّه يجعل في نفس الشخص رضا نفسي عمّا قدمه؛ لأن هذا ينبع من حاجة الشخص إلى القيام به من تلقاء نفسه لا من أجل حاجة مادية فحسب.

فمن كان لديه قدرة على تعليم العلوم الشرعية لطلابه فليتقدم ويحتسب الأجر عند ربه. ومن كان متقناً لصنعة يدوية، ورأى رجلاً عاطلاً عن العمل، فليخبره أنَّه يريده لكي يعمل عنده مدَّة من الزمن ويتعلم على يديه، ثمَّ ينطلق ليبني مستقبله بيده بعد الاستعانة بربه أولاً وأخيراً. ومن كان قاعداً على جنبات الطرق، تجده لا يغض بصره عن حرام، ولا يفلت لسانه إلاَّ بالحديث عن فلان وفلان، فأولى به أن ينظر في الناس، فمن كان كبير سن أعانه، ومن كان ضريراً قام معه لكي يخدمه في شؤونه، ومن كان قد أثقلته شراء بعض الحاجيات للبيت… إلخ، فليتقدم هؤلاء الشباب الجالسون على قارعة الطريق لخدمة المحتاجين، علَّهم ينالون دعوة من رجل مستجاب الدعوة، وثناء حسناً.

إنَّ الشباب هم أمل فلسطين، وعليهم واجب التطوع خدمة لبلادهم، فالله تعالى يقول: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} [المائدة: 2]. شرط انضباطهم بالضوابط الشرعية لرضا الله عنهم ورضا الناس.

جميل أن يتعلموا أدوات التأثير على المجتمع، من قبيل: تعلم وسائل الإسعاف، طرق إنقاذ الغريق، وسائل الدفاع المدني، وإغاثة المنكوبين، وصيانة السيارات، والاعتناء بالمساجد ترتيباً وتنظيفاً وحفظاً لحقوقها.

كان أحد زملائي يقول لي: “لقد منَّ الله علي بسيارة فارهة، وزكاتها أن أُوصِلَ كل من أراه على قارعة الطريق ممن يريد الذهاب إلى السوق أو مكان قريب، ويمكنني أن أؤدي هذه المهمة له. فأكبرت هذا الموقف له. وقد رأيته مراراً يُقل بعض العمال والمحتاجين لبعض الأماكن؛ حسبة لوجه الله تعالى.

إنَّ وقتنا يجب ألاَّ يضيع هباء كما يهرب الماء من ساقية خربة، وهنالك تجربة مهمَّة، فألمانيا بعد عشر سنوات من الحرب العالمية الثانية، قامت فكرتها على ضرورة تنمية وتشجيع العمل التطوعي الشعبي لخدمة البلاد، ولأجل ذلك نهضت هذه الدولة من جديد، فلقد كان أفراد الشعب الألماني يقومون بالعمل التطوعي لمدة ساعتين يومياً.

وفي اليابان كان كل شخص من المجتمع الياباني يقوم بعد الانتهاء من دوامه بعمل خيري تطوعي لوجه (بوذا)، أو لخدمة شعبهم.. بل يقوم أطفالهم بتنظيف المدرسة والصفوف بالكامل قبل خروجهم من المدرسة تنظيفاً كاملاً؛ لكي يأتوا صباحا فيروا نتائج ما نظَّفوه؛ مِمَّا يبعث لنفسية الطالب في صباحه بروح ٍهادئة، ونفسية متألِّقة، تحب الدراسة والمذاكرة.

وفي أمريكا بلغ عدد المتطوعين، مِمَّن جاوزت أعمارهم فوق 21 سنة في عام 2001م، قرابة 3.9 ملايين متطوع، أنجزوا 15.5 بليون ساعة عمل، تقدر قيمة الساعة الواحدة بـ16.54$، أي ما يعادل 256.37 بليون دولار.

هؤلاء غير المسلمين يقومون بهذا كله، فما بالنا نحن المسلمين في فلسطين تحديداً، حيث يجب علينا أن نطبق ما أصَّله ديننا الإسلامي الحنيف في العمل الخيري التطوعي، والذي جعلته الشريعة الإسلامية مقترناً بعبادة الله تعالى حيث قال: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [البقرة: 177].

في بلادنا فلسطين الكثير من الأيتام والأرامل والمرضى والمعوزين، والذين لا يسألون الناس إلحافاً، قليل منهم من يستطيع توفير وجبات للطعام، هؤلاء القوم أليسوا بشراً مثلنا؟

ألا يحتاجون لمن يقوم على أمرهم ويكفلهم؟

والرسول ـ عليه السلام ـ يبشر من يكفل يتيماً فيقول في الحديث الصحيح: «أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا. وأشار بالسبابة والوسطى، وفرج بينهما شيئا». أخرجه البخاري في صحيحه.

بل تبشرنا شريعتنا الإسلاميَّة الغرَّاء، التي جاءت بكل عدالة ومعرفة لحقوق الإنسان قبل أن تتحدث عنها أمم الشرق أو الغرب، وتأتينا البشرى على لسان رسول الله محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ كما يقول في الحديث الصحيح: « الساعي على الأرملة والمسكين كالمجاهد في سبيل الله، أو القائم الليل والصائم النهار». أخرجه البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة، وبنحوه أخرجه الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة.

وقد جاء في الحديث عن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه – أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: «على كُلِّ مسلمٍ صدقةٌ»، قيل: أرأيت إنْ لم يَجِدْ؟ قال: «يَعْتَمِلُ بِيَديْه، فينفعُ نفسَهُ ويتصدَّقُ». قال: أرأيتَ إنْ لم يستَطِعْ؟ قال: «يُعينُ ذا الحاجة الملْهُوفَ». قال: قيل له: أرأيتَ إن لم يستطع؟ قال: «يأمُرُ بالمعروف أو الخير». قال: أرأيت إنْ لم يفْعَل؟ قال: «يُمسِكُ عن الشَّرِّ، فإنَّها صدقة». أخرجه البخاري ومسلم.

إنَّ الإحصائيات تقول بأنَّ عشرات الآلاف من الطلبة حُرموا إكمال دراستهم الجامعيَّة بسبب عدم تسديد رسوم الجامعة، وأكثر من 50 ألف يتيم ينتظرون الكفالة، ومئات الآلاف من الأسر والأرامل والمرضى انقطعت بهم سبل العيش الكريم، وتضررت مساكنهم، و تفاقمت معاناتهم…. فمن لهم ـ بعد الله تعالى ـ إلاَّ المتطوعون الباذلون لأموالهم في سبيل الخير ولوجه الله رب العالمين.

وللعلم، فإنَّ في دولة الكيان الصهيوني المغتصب لأراضينا (إسرائيل) يوجد فيها أكثر من 35 ألف منظمة خيرية غير ربحية وتطوعية، تفوق الكثير من منظمات العالم العربي والإسلامي، وخدماتها التي تقدمها لأبناء شعبها، وفي المُقابل يُضَيِّق الصهاينة الخناق على الجمعيات الخيرية؛ لمعرفتهم بأنَّ هذه الجمعيات سبيل ومورد من سبل التكافل والتضامن الاجتماعي في بيئته، بل سبيل لمقاومته في حق الحياة والعمل والإنتاج في فلسطين، وعليه فمن اللازم المكافحة ضدَّ الصهاينة لإبقاء الجمعيات الخيرية التطوعية في فلسطين، فمن جوانب الصراع بين المسلمين في فلسطين مع اليهود الصهاينة المغتصبين لأراضيهم صراع وجود هذه الجمعيات، التي تقوم على رعاية الأيتام والفقراء والمساكين.

يقول القائل: “إنَّ الناس كالذرَّات، لا تظهر قيمتها إلاَّ في علاقتها بغيرها”. وهي مقولة صحيحة؛ فلا تظهر قيمة التاجر الصالح المسلم إلاَّ بقيمته في تفاعله مع الآخرين في سبيل نشر المنفعة العامة لأمَّته الإسلامية ووطنه الذي يعيش فيه، ولقد قال الكاتب النفسي “جون ديوي” في يوم من الأيام: (أعمق دوافع الإنسان إلى العمل هو الرغبة في أن يكون شيئا مذكورا). وغير المسلمين يعملون لثناء الناس، وأمَّا المسلم فإنَّه يعمل لوجه الله، كما قال سبحانه: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان: 9 -11].

فلم لا نكون نحن المسلمين من أهل فلسطين أكثر فاعليَّة في مجتمعنا وواقعنا، وتكون أجيالنا متبنية لفكرة: (جيل يبادر لا جيل ينتظر)؟ وهي في حقيقتها فكرة وشعار يُنُمُّ عن ضرورة وجود الجيل المعتمد على الله تعالى أولاً، والواثق من نفسه ثانياً، والمبادرة الذاتية ثالثاً بعدم انتظار الآخرين لكي يقوموا بفعل شيء فيقلدهم. لعلَّ ما يريد أن يقوم به من عمل طوعي خيري، يخدم من خلاله دينه ووطنه وأمَّته، وبالذات في فلسطين، وتكون أفكاره مشجعة للبذل والإحسان، كي يخدم بعضنا بعضنا، فإنَّ هذا جسر من جسور المحبة مع الآخرين، بل طريق الأخوة الدينية.

كان مجتمعنا في وقت الانتفاضتين ـ الأولى والثانية ـ أقوى منه الآن تكافلاً اجتماعياً فيما بينهم، ولربما دمَّر اليهود بعض البيوت فيقوم المجتمع الفلسطيني ويتبرعون لأهل ذلك البيت حتَّى يعود حياً كما كان، بل أفضل مما كان، قائلين للعدو الصهيوني: هذه آثارنا لن تطمسوها ولو امتدت الأيام.

ولكنَّ المجتمع الآن يعاني ـ وللأسف ـ من نوع أنانية ومادية، ومحبة كل منا لنفسه، لسان كثيرين منَّا: (هَمِّي نفسي نفسي، وأكل عيالي، وحفظ مالي، ولست مبالي).

لكني على قناعة أنَّ معدن الخير، وسبل الأصالة، ومعقل الفخار كامن في أمَّتنا المسلمة في فلسطين، فهي قادرة ـ بإذن الله ـ على إعادة اللحمة والمحبة بينها على أساس من التقوى ومحبة الخلق للخلق،  والله لن يضيع أجر من أحسن عملا.

ومضة:

يقول الأديب مصطفى صادق الرافعي: (إنَّ من الناس من يختارهم الله فيكونون قمح هذه الإنسانية، ينبتون ويحصدون ويعجنون ويخبزون ليكونوا غداء الإنسانية في بعض فضائلها).

 

(المصدر: مركز مداد للأبحاث و الدراساتhttp://www.medadcenter.com, الكاتب: خباب مروان الحمد)

من admin

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *