أقبل رمضان المعظم ذلك الركن الإسلامي العظيم الشأن على الرَّحْب و السَّعَة. ثم إن كثيراً من الناس المسلمين الجهال يستثقلون الصوم و ما ذلك إلا لضعف الإيمان و عدم إدراك أسرار الصوم التي لا تُعَدُّ و لا تُحْصى. مثلما أن النصارى لم يدركوا أولاً أسرار تحريم الخمر ثم ظهرت لهم غرائبُ بَوَائِقِهِ. فأسرار الصوم كأسرار تحريم الخمر ظهرت الآن للأطباء النصارى و ظهرت للعارفين منَّا,  و لو لم يكن من أسرار الصوم إلاَّ تَعَوُّد الصبر المذكور في القرآن سبعين مرة فأكثر, لكفى.

فإنَّ الصبر من أجمل الخصال و محامد الفعال, و لكن ليس الصبر أيضاً على الأكل فقط, بل على جميع ما يَعْرِضُ من الرذائل و القبائح و سوء الفعال و المنكرات, وقوله (صلى الله عليه و سلم):« وإن امرؤ شاتمه أو قاتله فليقل إني صائم إني صائم». و هو معنى الآية: ﴿ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك و بينه عداوة كأنه ولي حميم و ما يلقاها إلا الذين صبروا﴾.و الصوم يَلِيقُ بالغني و الفقير, فالغني يرتاح من الشِّبَع المُضِرِّ بصحته, و لعلَّهُ يشكرُ الله الذي رزقه ليأكل حتى يشبع, و يذكرُ الفقير .

والفقير يزداد الاعتيادَ على الصبر و يتَمَرَّنُ على حمل الجوع, و يَرْتَاضُ إلى أن يحمله ذلك على التمادي على الصبر, أو يستعمل الهمة لطلب الرزق و يَكِدّ و يجتهد في طلب الحلال إذا وجده, و إذا لم يجده يصبر, و يقول في نفسه أُقَدِّرُ في نفسي أني صائم. و أمَّا إذا اعتبر كلٌّ من الغني و الفقير الأسرارَ الإلهية للنورانية من التَّشَبُّه بالملائكة, و ما يفتح الله عليهما من الرؤى الروحانيات و الأسرار الربانية, ذلك أن الروح التي لولاها ما سُمِّيَ الإنسانُ إنساناً بلْ و لا وَجَدَ نورانية, إنما شغلها عن أنوارها شواغلُ النفس الأمَّارة بالسُّوء بكثرة الأكل و الشهوات, فيظلم الروح , و تقطع بينها و بين الله الصلة بالحجب النفسانية –إذا اعتبر كلٌّ هذا, هان قمعُ النفس, و حلا الصوم الذي هو سببٌ لمشاهدة الأسرار, و بالتالي إنَّ الصوم شهامةٌ, و في الصوم اقتصادٌ, و الاقتصاد مطلوبٌ. و إن الصبر على الأكل من الأخلاق المحمودة, و كان (صلى الله عليه و سلم) إذا دخل بيته, قال لأهله: « أفيه شيءٌ؟ » فإذا كان شيءٌ قَدَّمُوهُ له, و إذا لم يكن شيءٌ, أعني أجابوه: أنْ لا شيء. يقولُ: « إذاً أنا صائم », و هذا هو الخلق العظيم. و أمَّا فوائدُ الجوع من حيث الطب, فقد أجمع الأطباء على أن دوام الشِّبَع مُضِرٌّ بالصحة, مُفْنِي للمعدة؛ بيت الداء. و إنَّ قِلَّة الأكل تنفع لجميع الأمراض, حتى مرض العين. أُحدثكم عن نفسي, أيُّها الإخوان في الدين, و اللهُ على ما أقولُ شاهدٌ,  و كفى بالله شهيداً: مَرِضَتْ إحدى عَيْنَيَّ منذ سنتين, يزيد و ينقص ذلك المرض, و لما أصابتني مرض الحمى هذه المدة الأخيرة, ألزمني الطبيب و ألزمتُ نفسي الحِمْيَة. ذهب بسبب تلك الحمية مرضُ عيني, و لما رجعت إلى الأكل و الجماع رجع إلي مرض عيني, و لما رجعت إلى الحماية ذهب مرض عيني , و هكذا مراراً. فَثَبَتَ لي بالبرهان التجريبي و الاختبار أنَّ الحمية دواءٌ عجيبٌ, فإذا كانت الحمية ظاهرة في عيني, و لا شك أن تظهر أيضاً في عين الذات كلها و الروح أيضا قليله. و لله دَرُّ القائل:

يا عامراً لخراب الدهر مجهداً        بالله هل لخراب العُمْرِ عمران

أقبل على النفس و استكمل فضائلها       فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان

و قد قاوم الهندي ابن غاندي في سبيل الوطن ألم الجوع شهرين كاملين أي صام ستين يوماً مُتَّصِلَةً, فمات. و نحن في سبيل الله نعجزُ, عن يومٍ واحدٍ, فيه بِضْعُ ساعاتٍ. مَا أَسْقَطَ هِمَّةً كهذه, و ما أخزاها, أَوْ كما قلنا في خُطْبَةٍ: يَرْتَكِبُ الْمَرْءُ الْمُرُوق؛ لمُِِجَرَّدِ لُقْمَةٍ تَرُوق.

الشيخ أبي يَعْلَى الزَّوَاوي
 
 
المصدر:  www.binbadis.net

من admin

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *