بقلم: أحمد مبارك سالم

يُروى عن عبيد الله بن محصن الأنصاري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أصبح منكم آمناً في سربه، معافى في جسده، عنده قوت يومه، فكأنما حِيزت له الدنيا بحذافيرها)(1)، وبذلك فإنه متى انعدم الأمن وهو أولى حقوق الإنسان، فإنه لا استمتاع للإنسان لا بنعمة الصحة التي قد يفقدها بسبب انعدام الأمن، ولا بما يتحقق له من توفر قوت يومه، وهو الأمن الغذائي، وبذلك يكون الأمن الاجتماعي والسلم الأهلي في أعلى مراتب درجات حقوق الإنسان التي ينبغي أن تتحقق له على أرض الواقع في مجتمعه.
الخلفية التاريخية
بالنظر إلى مفهوم الأمن الاجتماعي الذي انتشر استخدامه في المجتمعات الإنسانية الحديثة نتيجة للتطورات الاجتماعية التي انعكست على العلاقات الاجتماعية، وعلى علاقة الفرد بالمجتمع، والمواطن بالدولة، وما ترتب على ذلك من تقنين الحقوق الإنسانية في مواثيق قومية ودولية، بالنظر إلى ذلك فإنه يتضح أن الأصول التاريخية للأمن الاجتماعي ترجع إلى عصور سابقة، حيث حاول العديد من الفلاسفة والمفكرين القدماء وضع تصوراتهم الفكرية عن المجتمع الفاضل، والأسس التي ينبغي أن يقوم عليها، والقواعد التي ينبغي أن تحكم علاقات الناس بعضهم بعضاً.
ومن أشهر ما كُتِب في ذلك كتاب (الجمهورية) لأفلاطون، و(المدينة الفاضلة) للفارابي، و(تهذيب الأخلاق) لابن مسكويه، و(أدب الدين والدنيا) للماوردي، و(العقد الاجتماعي) لروسو، حيث تم في الدراسات الحديثة استعراض ما يتصل بالعلاقة بين السلطة والأفراد، كما تعددت فيها الآراء حول مفهوم الأمن الاجتماعي.
إن مفهوم الأمن الاجتماعي يتمثل في أقصى إشباع ممكن لاحتياجات الجماهير في إطار العدالة الاجتماعية التي تنبذ الصراع بين فئات المجتمع، وتوفر المناخ الملائم لكي يعيش المجتمع في إطار مقبول من التقبل والتعاون والشعور بالأمن والسلام الاجتماعي، الأمر الذي يؤدي إلى ترتيبه الولاء والانتماء للمجتمع، آخذين بعين الاعتبار تحقيق التوازن بين استمرارية هذه الإشباعات، وما تفرضه عوامل التغيير الاجتماعي من تحوّلات جذرية.(2)

 

دلالة المفهوم
إن السلم الأهلي والأمن الاجتماعي ذا دلالة واحدة تعني الرفض على الدوام لكل أشكال التقاتل، أو مجرد الدعوة إليه أو التحريض عليه، أو تبريره، أو نشر ثقافة تعتبر التصادم حتمياً بسبب جذورية التباين، والعمل على تحويل مفهوم الحق بالاختلاف إلى أيديولوجية الاختلاف والتنظير لها ونشرها. ويعتبر أيضا إعادة إنتاج لحرب أهلية التشكيك في جوهر البناء الدستوري ومواثيقه وحظوظ نجاحه في الإدارة الديمقراطية للتنوع. ويعني السلم الأهلي الدائم إيجاباً العمل على منع الحرب الأهلية في المجتمع.
وينطلق العمل في سبيل إرساء الأمن الاجتماعي الدائم من قاعدة اختبارية معايشة وعملية، وهي أن الحرب الأهلية أو الداخلية في المجتمع هي الشر المطلق، وذلك أياً كانت الأهداف أو القضية التي تتلبّس بها هذه الحرب أو تسعى للدفاع عنها؛ وذلك لأن هذا النوع من الحروب في الواقع الدولي هو مصدر شرور أخرى داخلية وإقليمية ودولية، فتتحول الحرب الأهلية إلى حرب من أجل الآخرين.
وإذا كان الأمن الاجتماعي والسلم الأهلي يعنيان رفض كل أشكال التقاتل أو حتى التعبير عنها، فإن مفهوم الانفلات الأمني يقصد به مجموع أعمال العنف التي تقع داخل المجتمع، وينجم عنها أضرار بحقوق المواطنين، وعلى وجه الخصوص حقهم في الحياة والسلامة الجسدية وحماية ممتلكاتهم، والتي يرتكبها أشخاص ينتمون إلى الأجهزة المكلفة بإنفاذ القانون، أو يحسبون عليها، أو من قبل مجموعات مسلحة محلية، هذا بالإضافة إلى الأحداث التي يقوم بها مواطنون، وتندرج عادة ضمن مستوى الجرائم العادية، لكن السلطات المختصة تمتنع عن القيام بأعمال من شأنها منع وقوع مثل هذه الجرائم، أو تمتنع عن ملاحقة مرتكبيها وإحالتهم إلى العدالة.
واجتماعياً: فإن انتشار اللاتسامح والفوضى والعنف يعني فرض نمط حياة معينة، وذلك بغض النظر عن التطورات العاصفة التي شهدها العالم لأنماط متنوعة، مختلفة، متداخلة، متفاعلة، وأحياناً يتم التخندق بسلوك وممارسات عفا عليها الزمن، والتي أصبحت من تراث الماضي»كنموذج الاقتتال العشائري والثار …إلخ».
وثقافياً: فإن العنف والفوضى واللاتسامح يعني التمسك بالقيم والمفاهيم القديمة والتقليدية ومحاربة أي رغبة في التجديد، أو أي شكل أو نمط للتغير، وإزاء الانغلاق والفوضى والعنف وعدم التسامح الذي يسود مجتمعنا، ورغم بعض الإرهاصات الجادة هنا وهناك في مجتمعنا لتدعيم السلم الاجتماعي وتعزيز سيادة القانون، إلا أن الواقع يشير إلى تفاقم مظاهر العنف والفوضى والفلتان الأمني، مما يهدد تماسك المجتمع وأمنه وسلمه الاجتماعي، والمؤشرات كثيرة فلايغيب يوماً ألا نسمع عن خطف أجنبي أو مواطن أو إحداث عنف واشتباكات تؤدي إلى قتل وإصابة مواطنين، ناهيكم عن بعض الصراعات الحزبية والسياسية؛ وذلك نظراً لكون أن غياب التسامح يعني انتشار ظاهرة التعصب والعنف وسيادة عقلية التحريم والتجريم، سواء على الصعيد الفكري أو السياسي أو الاجتماعي أو الثقافي أو ما يتعلق بنمط الحياة.
أما فكرياً: فإن عدم التسامح يعني العنف وحجب وتحريم حق التفكير والاعتقاد والتعبير، وذلك بفرض قيود وضوابط تمنع ممارسة هذا الحق، بل تنزل أحكاماً وعقوبات بالذين يتجرأون على التفكير خارج ما هو سائد.
وسياسياً: فإن اللاتسامح يعني احتكار الحكم وتبرير مصادرة الرأي الآخر باسم القومية أو الصراع مع العدو أو الطبقية والدفاع عن مصالح الكادحين أو الدين؛ وذلك لإسكات أي صوت ولتسويغ فكرة الاستئثار وادعاء امتلاك الحقيقة.
ودينياً: فإن عدم التسامح يعني منع الاجتهاد وتحريم بل تكفير أي رأي حر بحجة المروق في ظل تبريرات ديماغوجية وضبابية، والتي تمنع الحق في إعطاء تفسيرات مختلفة، خصوصاً ضد ما هو سائد في محاولة لإلغاء المذاهب والاجتهادات الفقهية الأخرى، بل فرض الهيمنة عليها بالقوة.
أما اقتصادياً: فإن عدم التسامح يعني عدم احترام حقوق المواطن الاقتصادية، وانتشار الفقر والبطالة، وغياب الحماية الاجتماعية والتوزيع العادل للثروة، والاستئثار بالثروة من قبل فئة ضيقة من الناس، مما يهدد وبشكل كبير السلم الأهلي والاستقرار، والذي بدوره يخلق بيئة يغيب عنها الإنعاش في الاستثمار والنمو الاقتصادي، مما يقوض أركان المجتمع ويسمح بتنامي مظاهر العنف والأمراض الاجتماعية المختلفة(3).

 

المقومات والأركان
إن السلم الاجتماعي له مقومات وأركان لايمكن أن يتحقق إلا بتوافرها، وللفتن والصراعات أسباب وعوامل لاتُدرأ إلا بتجنّبها. فالمسألة ليست في حدود الرغبة والشعار، أو في وجود القناعة النظرية، بل ترتبط بواقع حياة المجتمع، وشكل العلاقات الحاكمة بين قواه وفئاته.
ولعل من أهم مقومات السلم الاجتماعي الأمور التالية السلطة والنظام التي لايمكن أن يستغني أي مجتمع عنها، حيث تتحمل إدارة شؤون المجتمع، وتعمل القوى المختلفة تحت سقف هيبته، وإلا لكان البديل هو الفوضى وتصارع القوى والإرادات(4).
ومن جانب آخر فإن المجتمع الذي يتساوى فيه الناس أمام القانون، وينال فيه كل ذي حق حقه، وذلك من دون تمييز فيه لفئة على أخرى. إن هذا المجتمع تقل فيه دوافع العدوان، وأسباب الخصومة والنزاع، أما إذا ضعف سلطان العدالة، وحدثت ممارسات الظلم والجور، وعانى البعض الحرمان والتمييز، وأتيحت الفرصة لاستقواء طرف على آخر بغير حق، فهنا ينعدم السلم الاجتماعي ويضعف، وذلك حتى ولو بدت أمور المجتمع هادئة ومستقرة، فإنه حينئذ يكون استقراراً كاذباً، وهدوءاً زائفاً، ولا يلبثان أن ينكشفان عن فتن واضطرابات مدمّرة.
ومن أجل ذلك جاء الأمر في القرآن بكل ما يحفظ للمجتمع استقراره من العدل والمساواة، حيث يقرر ذلك قول الله تعالى: }إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ{ (النحل: 90).
وإذا كان المجتمع يعيش في التنوّع والتعدد في انتماءاته العرقية أو الدينية أو المذهبية، أو ما شاكل ذلك من التصنيفات، فيجب أن يشعر الجميع – وخاصة الأقليات – بضمان حقوقه ومصالحه المشروعة في ظل النظام والقانون، وذلك من خلال التعامل الاجتماعي.
ومع وجود التنوّع والتعدد في المجتمع فإنه لابد من ضمان الحقوق والمصالح المشروعة للجميع؛ ليعيش الجميع في إطار المصلحة المشتركة في بوتقة الوطن الواحد، ومبادىء الإسلام وشرائعه تقدم النموذج الأرقى للتعايش بين الناس على اختلاف هوياتهم وانتماءاتهم، وذلك على أساس من العدل والمساواة، وبالعمل على ضمان الحقوق والمصالح المشروعة للجميع. وبذلك فإن الإسلام يرعى حقوق ومصالح من ينتمي إلى دين آخر، ويعيش في كنف المجتمع الإسلامي(5)، وبهذه المقوّمات يتجذّر السلم في المجتمع، وتُوصد أبواب الفتن والنزاعات، وإذا حصلت بوادر الشر أمكن تطويقها ومحاصرتها، وهبّ الجميع لمقاومتها(6).
ومن جانب آخر يقع على مؤسسات المجتمع المدني دور كبير في كفالة تفعيل ارتكاز المجتمع على هذه المقوّمات والأركان للسلم الاجتماعي، فهي بدورها تمثل المجتمع باعتبار أن من ينتمي إليها يفترض أن يكون من الطبقة المثقفة والواعية التي تستقرىء واقع التنمية وتحقيق المصلحة في المجتمع من أجل ازدهار مستقبله، حيث لم يعد في ظل التمدّن والتداخل الذي يبرز في المجتمعات أي بروز لدور الأفراد في صيانة المجتمع وتحقيق رفاهيته إلا من خلال الدور الذي تقوم به هذه المؤسسات، والتي ينبغي أن تعمل تحت سقف السلطة في البلاد، حيث يقع على هذه السلطة بمختلف مؤسساتها وأجهزتها أن تغرس المصداقية والشفافية في التعامل مع هذه المؤسسات نظراً لكونها تمثل مختلف التوجهات في المجتمع.
ونظراً لأهمية الأمن الاجتماعي باعتباره مرتكزا وقاعدة تتقرر من خلال الاستناد عليها مختلف الحقوق على اختلاف مستوياتها، فإن اهتمام السلطة ومؤسسات المجتمع المدني ينبغي أن ينصب ضمن الاستراتيجيات الضرورية لنشره كثقافة ودعمه كآلية ناجعة للتنمية، وأنه لايمكن ذلك ما لم تتولد قناعات تدرك أهمية هذا المنظور كنقطة ارتكاز لتنمية المجتمع وتطويره في شتى المجالات.

—————————————————

(1) سربه: نفسه وقيل قومه، بحذافيرها: فكأنما أعطي الدنيا بأسرها. والحديث رواه الترمذي (2347)، وأخرجه ابن ماجة (3349)، والبخاري في الأدب المفرد (300)، وفي سنده عبدالله بن أبي شميلة الذي لم يوثّقه غير ابن حبان وشيخه مجهول، ولكن يشهد له حديث أبي الدرداء عند حب (2503)، فهو حسن كما قال الترمذي. وقد أورد هذا الحديث النووي أبي زكريا يحيى بن شرف، رياض الصالحين، تخريج (عبدالعزيز رباح وأحمد يوسف الدقاق)، ومراجعة شعيب الأرناؤوط، الإدارة العامة للإعلام والثقافة، رابطة العالم الإسلامي، مكة – السعودية، دار الثقافة العربية، دمشق – سورية، مكتبة دار الفيحاء، دمشق – سورية، دار السلام للنشر والتوزيع، الرياض – السعودية، ص 192.
(2) محمد سيد فهمي، الرعاية الاجتماعية بين حقوق الإنسان وخصخصة الخدمات، ط: 1، دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر، الإسكندرية – مصر، ص 247.
(3) صلاح عبدالعاطي، ورقة عمل بعنوان: (السلم الأهلي ونبذ العنف في القانون الأساسي والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان)، الهيئة الفلسطينية المستقلة لحقوق المواطن، وهي منشورة على الموقع الإلكتروني: home.birzeit.edu، وتاريخ دخول الموقع هو: 2 فبراير 2009.
(4) الصفار – حسن، السلم الاجتماعي.. مقوماته وحمايته، ط: 1، 2002، دار الساقي، بيروت – لبنان، ص 39.
(5) الصفار – حسن، السلم الاجتماعي … مقوماته وحمايته، مرجع سبق ذكره، ص 43.
(6) الصفار – حسن، السلم الاجتماعي … مقوماته وحمايته، مرجع سبق ذكره، ص 53.

من admin

فكرة واحدة بخصوص “السـلم الأهلي والأمـن الاجتمـاعي من منــظور الإســلام”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *