الوسطيّة في القرآن
دراسة للدكتور محمد الحبيب العلاني
أستاذ باحث بمركز الدراسات الإسلامية بالقيروان جامعة الزيتونة

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف المرسلين

 

مقدمة :

ليس من اليسير الإحاطة بموضوع الوسطية في القرآن إحاطة شاملة ، نظرا لدقة المبحث من ناحية ، ولغزارة المادة والمعاني المرتبطة بهذا المفهوم والمنبثقة عنه من ناحية ثانية . كذلك يشدنا تعدد الأبعاد والمجالات التي يمكن أن يستغرقها الحديث عن الوسطية باعتباره مصطلحا متداولا يقترن بحياة المجتمع الإسلامي ، وبحياة المسلمين إجمالا . كما أن الحاجة اليوم تبدو ماسة للوقوف عند التطبيقات العملية التي ستؤسس عليها طبيعة الثقافة الدينية الإسلامية المعاصرة والخطاب الذي يمكن أن تفرزه .
ومن المفيد أيضا النّظر في مدى ارتباط هذا الموضوع بعقيدة المسلم المعاصر ، وبالإجراءات العملية والسلوكية المترجمة عن خصوصيّة هذا المفهوم في علاقته بمختلف المؤثرات ، الداخلية والخارجية ، الذاتية والموضوعية ؛ إذ مما لا شك فيه أنّ الوسطية في الإسلام عموما وفي القرآن على وجه الخصوص ، تعرف اليوم قراءات متنوّعة من قبل الإسلاميين الذين يستندون فيها إلى تأويلات مختلفة ، تحوم جميعها حول دلالات النصوص في القرآن والسنّة على حد سواء .
وعلى ضوء هذا التطوّر الحاصل ، فإنّ معالجة هذه المسألة ستكون انطلاقا من مقاربة مفهومية ، تفسيرية تنطلق من تحديد المدلول وتبيّن خصائص التصوّر القرآني للوسطيّة – دون إغفال أبعاده – ثم النظر عبر آفاق التصوّر في الكيفية الملائمة لإعادة بناء الشخصيّة القرآنية للإنسان المسلم ؛ دون أن نتنازل عن إبراز دور هذا التصوّر في بناء مختلف الخطابات التي يعرفها المجتمع الإنساني اليوم ، وخاصّة الخطاب الإصلاحي الذي أصبح عنوان هذه المرحلة وشعارها في العالم الإسلامي وخارجه .

 

1) المقاربة المفهوميّة والتفسيريّة :
لا جرم أنّ العربية جزء ماهية القرآن إذ لا يمكن فهم القرآن دون الرجوع إلى المعجم اللغوي وإلى استعمالات العرب لذلك اللفظ أو لتلك المفردة. وإذا أردنا تتبع لفظ “وسط “في القرآن الكريم تشدّنا الآية الكريمة :
(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا) البقرة 2/143.
قال الطبري : الوسط العدل [1] ، ومفهوم العدالة يحيل على الشهادة كما جاء في قوله تعالى : (لِتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ) فالشهادة تقتضي العدالة ، والعدالة توجب الشهادة .
وقد فسر النبي عليه السلام معنى الوسط فيما رواه الترمدي عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير قوله تعالى : ” وكذلك جعلناكم أمة وسطا …” (قال : عدلا)[2] . ويرى الزجاج أن الوسط والأوسط عند العرب يراد بها الأفضلية لما ورد في صفة النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان أوسط قومه أي من خيارهم ، وقد استدل الإمام القرطبي على هذا المعنى أيضا بقول الشاعر زهير بن أبي سلمى :
هم وسط يرضى الأنام بحكمهم *** إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم
ففي البيت تأكيد على العدالة والخيرية في آن [3] .
ويستدل على ذلك أيضا من التنزيل : (قال أوسطهم )[4] أي خيرهم وأرشدهم وأفضلهم [5] .
وقد ذهب الزّمخشري إلى معنى الخيرية للوسط في الكشاف يقول ” أمة وسطا “: (خيارا) وهو صفة بالاسم الذي هو وسط الشيء ، ولذلك استوى فيه الواحد والجمع والمذكّر والمؤنث”[6] .
والمتتبع لمجمل التفاسير السّنية قديمها وحديثها ، يلاحظ ذلك الاتّفاق في تحديد المدلول اللّغوي ، أو التّقارب في صياغة المعاني التّفسيرية المقترنة بالمدلول اللّغوي . على أنّ الوسط هو الأفضل والخير والعدل على مستوى الأفراد وعلى مستوى مجموع الأمم .
وهذه الأفضلية تقترن بمفهوم المركز أو المركزية كما أشار إلى ذلك الإمام القرطبي في سياق تفسير الآية التي تأتي بعد ذكر تحويل القبلة ، حيث يقول :” وكما أن الكعبة وسط الأرض كذلك جعلناكم أمة وسطا أي جعلناكم دون الأنبياء وفوق الأمم والوسط العدل وأصل هذا أن أحمد الأشياء أوسطها” [7] .
وقد أكد الإمام النسفي معنى الوسط في الأمور من خلال مفهوم المركز المقترن بالمكان يقول : ( الوسط عدل بين الأطراف ليس إلى بعضها أقرب من بعض أي كما جعلنا قبلتكم متوسطة بين المشرق والمغرب جعلناكم وسطا بين الغلوّ والتقصير …)[8] .وإلى ذلك ذهب فخر الدين الرازي في تفسيره حيث يقول : ( يجوز أن يكون وسطا بمعنى متوسطون في الدين بين المفرط والمفرّط ، والغالي والمقصّر ) [9] .
وقد تبنّى الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور هذا المعنى وأضاف إليه بقوله عند تفسير الآية السابقة من سورة البقرة : ( والآية ثناء على المسلمين لأن الله ادخر لهم الفضل وجعلهم وسطا بما هيأ لهم من أسبابه في بيان الشريعة بيانا جعل أذهان أتباعها سالمة من أن تروّج عليهم الضلالات التي راجت على الأمم …)[10].
ويستفاد من تعليق الشيخ ابن عاشور أن هذه الوسطية التي وسمت بها الأمّة يمكن اختزالها في سلامة أذهان أتباع الشريعة الخاتمة ، وهو وصف لا يخرج عن خيرية الشاهد وهي غاية العدالة ، مثلما ألمع إلى ذلك السهيلي في الروض الأنف يقول ( فكان هذا مدحا في الشهادة لأنها غاية العدالة في الشاهد أن يكون وسطا كالميزان لا يميل مع أحد بل يصمّم على الحق تصميما لا يجذبه هوى ، ولا يميل به رغبة ولا رهبة من ههنا ولا ههنا فكان وصفه بالوسط غاية في التزكية .)[11].
وبعد تحديد المفهوم اللغوي واستجلاء معاني التفسير ، نستنتج أن الوسطية مذهب في اتباع الوسط ، والوسط الأعدل والأفضل والأعقل ، ومعتنق الوسطية – وفق التصوّر القرآني – هو المتمسك بالحق والعدل ، البعيد عن الغلو والتقصير والإفراط والتفريط . وتكون الوسطية -أيضا وفق التصوّر القرآني – قيمة أخلاقية ودينية لا محيد عن تحقيقها في حياة الفرد والمجتمع والأمة الإسلامية وفي العلاقات الإنسانية إجمالا .
ومما لا شك فيه أن المعاني التفسيرية واللغوية للوسط والوسطية وما يقترن بهما من معاني الخيرية والشهادة والمركزية والأفضلية ، يمكن أن تحيلنا على جملة من الأدوار وجب على المسلم أن يضطلع بها في حياته الفردية والاجتماعية والإنسانية . فالعدالة تؤهل للشهادة . والشاهد من شروطه الصدق والخيرية والتزام الحق والعدل .والأفضلية تؤسس للمركزية والمبادرة وتحقق الخلافة والعالمية .
ومن هذا المنطلق تتولد العديد من المعاني المقرنة بوظيفة المسلم الوسط باعتباره مركزا ومحورا في هذا العالم المتغير ، وعبر مسيرة المسلم التاريخية تكون صيرورته بحثا وتوقا إلى الوسطية بأبعادها الشمولية ، ولا تقف عند حدود النظر بل تتعداه إلى التأثير والتأثر الفاعل والمثمر في شتى المجالات وفي مختلف الميادين . فلا يقتصر مفهوم العدالة وفق هذا التصور على المفهوم الفقهي والقانوني للشهادة بل يشمل الدنيا والآخرة .

 

.
2) خصائص التصور القرآني للوسطية :
إن المستجلي لآي القرآن يلاحظ دعوة ملحة فيه :
– لنبذ الغلوّ والتطرّف في العقيدة ، يقول عز وجل ( يا أهل الكتاب لا تغلو في دينكم ) [ المائدة :5/75 ] .
– لنبذه في التعامل مع أحكام الدين ( يسمعون كلام الله ثم يحرّفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون )[ البقرة 2/75] وهذه الآية تدل على الاستخفاف بأحكام الدين .
– نبذ الغلوّ في المعاملات ، قال تعالى ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا ) [الإسراء 29]
– نبذ الغلوّ في العبادة : يقول عز وجل ( ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها ) [ الحديد 27]
– نبذ الغلوّ والتطرّف في جميع مجالات الحياة ، يقول عز وجل : ( ووضع الميزان ألاّ تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان )[ الرحمان :6-9]
والملاحظ بعد عرض هذه الآيات أن الوسطية رؤية شاملة لحياة الإنسان وتصوّر متكامل للوجود يعطي للمسلم معاني التّميّز والتّفرّد ، ويرجعه إلى الفطرة والعقل ونور التوحيد الخالص .
ومن خصائص هذه الوسطية في القرآن أنها :
أ‌) تستجيب للفطرة الإنسانية ، ولرغبة الإنسان في بلوغ الاكتمال الذاتي والاجتماعي[12] .
ب‌) توازن بين المادي والمعنوي والجسمي والروحي والدنيا والآخرة .
ت‌) وسطية فاعلة تدفع إلى الجمع بين القول والفعل والنظر والتطبيق .
ث‌) وسطية وفيّة لذاتها ومتفتحة على التّراث الإنساني .
ج‌) أن مفهوم الأمة الوسط ، هو الأمة التي تحقق العدل وتقيم توازنا رشيدا بين التكاليف الشرعية ومنظومة القيم ، وهو ما تختزله كلمة الاعتدال[13] .
ح‌) أنها وسطية شاملة ومتكاملة ، لا تقوم على الفصل والإقصاء وإنما تسعى إلى تحقيق التواصل بين مختلف فئات الأمة وأفرادها تجنيدا لكل الطاقات وشحذا لجميع الهمم الفاعلة في سبيل الحق والعدل ، ولا تقتصر على الاعتدال الديني دون غيره من المجالات .
وغاية القول أن هذه الخصائص تقود إلى جملة الأبعاد الأخلاقية والحضارية المنوطة بعهدة المسلم ، لأنها ستقود في النهاية إلى التوازن المأمول الذي يحقق سعادة الفرد والمجتمع . فليست الوسطية مقتصرة على ترديد التعاليم فحسب بل هي جامعة للفعل الذي يضمن الاستجابة لتلك التعاليم التي تكون البذرة الصّالحة ، وتوجيه الاهتمام للبذرة مع تجاهل التربة يفضي إلى الفشل[14] .

 

3) واقع المفهوم وتحدّيات المرحلة :
إن التسليم بمفهوم الوسطية مصطلحا قرآنيا لم يكن محل جدل ، لكنّ تحديد الرؤية الشرعية وما يتبعها من تطبيقات عملية كانت محل جدل . ومن خلال تأمّل السنّة النّبوية المطهّرة يمكن التأسيس لرؤية شرعية تكون مستندا في الاجتهاد وممهدا لتطبيقات عملية تستجيب لمفهوم الوسطية .عبرما يلي :
– حديث ( الدين يسر )[15] .
– حديث ( إن هذا الدين يسر ولن يشاد الدين أحد إلا غلبه فسدّدوا وقاربوا وأبشروا ويسّروا…..)[16].
إن ّالسنة النبوية تضع أصلي “السّداد ” و” المقاربة ” لتحقيق مفهوم الوسطية الذي ارتضاه الإسلام لجميع المسلمين . وعلى هذا الأساس تكون مقاربة للتّمام وليست التمام ذاته ، ويكون استفسار المسلم أيضا مشروعا حول النقاط الجوهرية التّالية :
هل النموذج السلف في العهد النبوي هو الوسطية ؟
هل الاقتصار على العبادة هو الوسطية ؟
هل الاتّجاه إلى تعمير الأرض والنّظر في الكون والارتقاء بالمعارف الإنسانية هو الوسطية ؟
لا شك أن التجربة النبوية في العهد الإسلامي الأوّل كانت أرقى تجربة بشرية في المنظور الإسلامي ، ومن خلال أعمال الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام يمكن التّوصّل إلى منظومة القيم التي سادت في تلك المرحلة ( التوحيد ، الصدق ، العدل ، المساواة ، التضامن ، احترام الذات البشرية والارتقاء بصورتها استجابة لنص القرآن ، طلب العلم ، التّواصي بالحق والتّواصي بالصّبر ، التّنمية المستدامة ، تحقيق قوّة المسلمين ، العمل بإخلاص ، الشورى ، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ……) وهي قيم كانت تحكم تلك التّجربة الرّائدة لتكشف عن التّصوّر الرشيد للإسلام ومبادئه ومثله العليا. وذلك هو الإطار الأمثل لاستلهام قيم الوسطيّة التي يحتاج إليها المسلمون والإنسانية جمعاء في كل عصر .ولقد نأى النبي بالمسلمين عن الفصل بين الدنيا والآخرة لأن الأولى بلاغ للثانية كما ورد في الحديث الشريف ( ليس بخيركم من ترك دنياه لآخرته ولا آخرته لدنياه حتّى يصيب منهما جميعا فإنّ الدّنيا بلاغ إلى الآخرة ولا تكونوا كلاّ على النّاس ) [ أخرجه الديلمي ، وابن عساكر ، عن أنس] ، وقد حذّر صلى الله عليه وسلم ممّا يضعف الأمّة ويقودها إلى الانـهيار ( التنازع ، التواكل ، النفاق ، الصراع المذهبي ، الفقر ، التفرق ، الجهل ، الإسراف ، الإغراق في الملذات ، التكالب على متاع الدنيا الزائل ، الإعراض عن الحق ، الاسـتبداد بالرأي ،عدم التناصح ، الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف ،………) .
ورغم تشعب هذه الاستفسارات وتعدّد الإجابات المقترحة لها فإنّه من الواضح أن الوسطيّة لا تلغي الحوار والتعدد وذلك بالرجوع إلى مفهوم العدل باعتباره قيمة أخلاقية ،وباعتباره مشتركا إنسانيّا يستجيب للفطرة البشريّة . ويبقى تصوّر الفكر الإسلامي لمسألة الوسطية نسبيا لكنه في النهاية خاضع للمقاصد القرآنية الكبرى التي تضع أسس الرفعة والقوة عبر تمثل الوسائل المحققة للوسطيّة وتجلّياتها في الواقع المعيش . إنّ تناول هذه المسائل ينبغي أن يكون من منطلق رؤية شمولية تأخذ بعين الاعتبار الواقع الإسلامي الراهن ، والتحديات المختلفة التي تواجهها الإنسانية قاطبة. فتغيّر المنطلقات وتنوعها واتساعها ، وحاجة المسلمين إلى الوعي بأنفسهم أوّلا ثمّ الوعي بالآخر وفهمه ثانيا يدعونا إلى ممارسة الحوار كثقافة إسلامية راسخة تأسست منذ لحظة نزول الوحي على النبي محمد عليه السلام. ولكن واقع الحوار اليوم هو على عكس ما نطمح إليه ، بالنظر إلى ضعف الحوار الإسلامي الإسلامي وقلة فعاليته من ناحية . وغياب الشراكة النّدّية مع الآخر من ناحية أخرى ، وهو ما يجعل الحوار غير متوازن وغير متكافئ . والملاحظ في نظرنا أن استنطاق النصوص القرآنية واستجلاء الأحاديث النبوية يوضح خصائص ثقافة الحوار في الإسلام ، ويساعد على رسم معالمها ، والبحث في آليات التواصل والتعبير المعبّرة عن الروح العلميّة والإنسانيّة لما جاء به الإسلام .
كما أن شعور معظم المسلمين بأنهم أفضل الأمم وانحسار مفهوم الإسلام لديهم في الشعائر التعبدية ، قد أدّى إلى حصر مفهوم التقوى في الفوز الأخروي ، في حين أن التقوى نفسها – حين تفهم فهما عميقا – تجعل المسلمين أقوياء متحفزين إلى أفضل ما يتوق إليه إنسان جعل غايته التخلق بأخلاق الله تعالى في الدنيا .وهذا هو لبّ الوسطيّة كما وردت في القرآن الكريم .
وغير هذا كثير مما عمي عنه المسلمون فأضحى التّدين لديهم هيكلا بلا روح ، وجسدا بلا قلب ، وهروبا من الواقع المرّ الذي يواجهنا في كل يوم .

 

4) دور التّصور القرآني للوسطية في بناء شخصية المسلم :

الوسطية هي الزيادة والأفضلية والمبادرة ، والقرآن بهذه المعاني يفرغ النفس المسلمة من الشعور بالدّون ويفرغها من الرّغبة في الخنوع والتواكل ليبعث فيه الشعور بالعزّة ، ويقوّي فيها الطّموح للأفضل بنظرة واقعيّة تراعي إمكانات المسلمين من حيث كونهم بشرا ، وهذا هو شرط تطبيق الخطاب الإصلاحي .
والوسطية تشحذ الهمّة وتدفع إلى الإصلاح المتواصل ، وتجعل من القراءة المتأنّية للتاريخ سبيلا للتدارك ، لأنّ تراجع الأمة كان بسبب التّنكر لقيم العدل والمساواة والشّورى التي أوضح القرآن معالمها ولم يفهم المسلمون حقيقتها أو أنهم فهموا وتغاضوا بسبب مؤثرات كثيرة .
إن الوسطية ليست نقطة وسط بين الخير والشر لأن هذا التصور يفرغها من محتواها ويلقي بظلال اللامبالاة والخنوع عليها . كما أن مفهوم الوسطية لا يلغي الاجتهاد لأنها من مقتضياته ، ولكن الاجتهاد المملى أو المسقط لا يشكل الشخصية الإسلامية الفاعلة ، بل يؤسس لتعميق الهوّة بين التصور الأصيل للإصلاح ، والتصور المسقط الذي لا يحلّ مشكلا ، ولا يقدّم للقضية ما يدفعها نحو تحقيق الإصلاح وإعادة تشكيل الشخصية الإسلامية المناسبة لكل مرحلة تاريخية بعيدا عن الوصاية والتبعية .
والوسطيّة لا تلغي الاجتهاد الوفي لروح الإسلام لأنّه من مقتضياتها ومن وسائلها في دفع مسيرة الفرد والمجتمع الإسلامي . ولكن الاجتهاد المملى والمسقط لا يعبّر عن احتياجات المجتمع الحقيقية بل يعمّق الهوّة بين التصوّر الأصيل للإصلاح والتّصوّر المسقط الذي يزيد المسائل تعقيدا ويؤدّي إلى اغتراب الثقافة الإسلامية عن ذاتها الحقيقيّة . ومن هذا المنطلق يمكن طرح التساؤل التالي : ما هي طبيعة الخطاب الديني الذي يساهم في بناء الشخصيّة المتوازنة ويحقق الوسطيّة ؟
من أبرز ملامحهذا الخطاب أن يراعي جملة التّوازنات التّالية :
1- أن يميّز هذا الخطاب بين الإسلام وتعاليمه وبين الفكر الإسلامي النسبي الذي تشكّل عبر قراءات النصوص وعبر الاجتهاد في إطار الزّمان والمكان .
2- أن يعتمد هذا الخطاب الواقعيّة في الطّرح ، وأن لا يعزل الخطاب الدّيني عن بقيّة الخطابات .
3- أن تظلّ الخطابات الأخرى وفيّة للخطاب الديني ولثوابته ومقوّماته .
4- أن ينظر إلى كلّ اجتهاد بشريّ نظرة نسبيّة تنزع عنه هالة القداسة وتجعله عملا قابلا للنقد والإضافة .
5- أن يحدّد الخطاب الديني مواطن الخلل الدّاخلي ليبتعد عن التمجيد والمثاليّة الحالمة .
6- أن تعتبر الوسطيّة مشروعا في كلّ رؤية وأن تحترم قواعدها وأسسها في بناء كلّ تصوّر إسلامي ّ .
وتبقى الوسطيّة في النهاية شرطا في كلّ خطاب إسلامي يستند إلى منظومة القيم الأخلاقيّة التي تضبطه في دائرة الاجتهاد الإسلامي ، دون إغفال الرّقابة والمراجعة تماشيا مع مختلف المستجدّات .

 

 

[1] تفسير الطبري :2/8
[2] تفسير القرطبي :2/148
[3] نفس المصدر ونفس المكان .
[4] القلم :آية رقم 28
[5] نفس المصدر ونفس المكان .
[6] الكشاف 1/99
[7] تفسير القرطبي 2/148
[8] تفسير النسفي 1/75
[9] تفسير الرازي 1/631
[10] التحرير والتنوير :1/437
[11] السهيلي ، الروض الأنف ،1/88 .
[12] أشار الشيخ محمد الطاهر ابن عاشور إلى هذا المعنى عندما تحدث عن مقاصد العبادة في الإسلام ، راجع أصول النظام الاجتماعي في الإسلام .
[13] فهمي هويدي ، مقال بجريدة الشرق الأوسط لسنة 2005 عدد 9689.
[14] نفس المرجع .
[15] ورد الحديث بصيغ متعددة [إن الدين يسر] ، [إن هذا الدين يسر ] رواه البخاري ومسلم والبيهقي والنسائي وغيرهم .
[16] السنن الكبرى للنسائي :6/537.

من admin

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *