هناك حقيقة إجتماعية في حقول التحضر والتقهقر مفادها أن رصيد كل أمة في أسواق التداول القيمي بين الناس يسبغ بالضرورة على أكثر حركات تلك الأمة لونه. لا تتزحزح تلك الحقيقة الحضارية حتى لو كانت تلك الأمة تشهد صعود نهضة أو ميلاد صحوة حتى تستوي تلك النهضة على سوقها فتستخلص الأمر العام أو تترشد الصحوة فتؤثر في الريح العام.

خذ أمثلة على ذلك :

1 ما إن إحتل التتار عاصمة الخلافة العباسية بغداد قبل سبعة قرون فدانت لهم حتى دخل المحتلون في دين أهل بغداد أفواجا بعد ما أسرهم الإسلام بينما كان أهل الإسلام تحت أسر التتار. وهي الحالة الوحيدة في تاريخ البشرية قاطبة حتى اليوم حيث وقع الإستثناء على القاعدة الخلدونية الإجتماعية الشهيرة ( المغلوب مولع بتقليد غالبه أبدا ).. العبرة من ذا هي : مساحات القوة في الأمة يومها ومناطق التأثير أقوى وأبقى وأكثر مما جعل لون الهزيمة العسكرية القاسية جدا يعجز عن تلوين الحياة بلونه الداكن المربد..

2 أولى من ذلك سالفة تاريخية وثقلا في المعيار القيمي ما جد بين المبشرين بالجنة من الأصحاب الكرام عليهم الرضوان جميعا في الجمل عامة وصفين خاصة. فتنة جامعة مدمرة في زمن مبكر جدا لا يستوعبها العقل المثالي غير الملقح بشروط التفكير العقدي الإسلامي. العبرة من ذا هي : التنازع في الحق لا عليه تأويلات إجتهادية منضبطة بالأصول لا يمزق وحدة الأمة حتى وهو يؤول بالمتنازعين في الحق إلى الإقتتال فإذا خرجت دوائر التنازع عن ثوابت الحق الأبلج مما للأمة فيه من ربها سبحانه ألف برهان وبرهان كانت أدنى الخلافات الجزئية الصغيرة كفيلة بخلخلة الصف المرصوص وزعزعة الأمن المشيد. أي يفشل لون الهزيمة مرة أخرى عن صبغ الحياة بلونه.

3 تمل بباصرة فؤادك ما حدث بالإندلس بين يدي سقوطها في 1492. شيدت الحضارة روحيا بمثل ما شيدت المدنية عمرانيا كأحسن ما يكون التشييد فما إن تسللت ذئاب الهوى وثعالب الشهوة إلى النفوس في قصور السلطان وملإه حتى كانت رقصات القينات ورياح اللهو أسرع فتكا بالأمة الإسلامية الأروبية التي فتحت أروبا يومها على مصراعيها لحضارة الإسلام ومدنية المسلمين من قناطير الذهب المحلى ومياثر الحرير الخالص المصفى مما كانت تفيض به أفنية القصور وأبهية البروج. العبرة من ذا هي : سرعان ما تلونت الحياة السياسية والعسكرية والإقتصادية والإجتماعية بلون الفساد السلطاني بما جعل حضارة مدنية إسلامية عظيمة عريقة كبيرة عمرت ثمانية قرون كاملة تخر منهارة متقهقرة خرا عجيبا سريعا.

4 إنتقل بباصرة فؤادك متمليا إلى عصرنا الحاضر لتلفى بيسر أن الخلافة العثمانية التي كانت آئلة للسقوط حتى لو لم يعاجلها مصطفى كمال بالضربة القاضية عام 1923 .. كانت تحفظ للأمة الإسلامية بعربها وعجمها معا أنفس شيء في ميراث الأمة من مشكاة العقيدة أي وحدتها السياسية ولو وحدة رمزية. فما أن إندك ذلك دكا حتى تحطمت كل أجهزة المقاومة الداخلية وفقد الجسم حصانته بالكلية تقريبا فكان الذي كان من غزو ثقافي وإحتلال عسكري وإفتراس دولي مقنن لمركز الأمة فلسطين وتمزيق الأطراف بتعبير سمير أمين. نحن اليوم على بعد ( 2010 1923 = 87 عاما ) من ذلك فما هي النتيجة وهل تشهد تقدما أم تأخرا إلا صحوة وطنية ونهضة إسلامية يعالجان ما لا تدري أيهما أشد عليهما : التنافر الداخلي أو الإستهداف الخارجي. العبرة من ذا هي : تلون الوضع العام من كل جوانبه بلون سقوط الخلافة العثمانية فما أغنى عنا قولنا أنها آئلة للسقوط بالضرورة أو غير ذلك مما يردده الحمقى في مادة الإجتماع السياسي. ليس الأحمق من يهمل النظر في المقاصد والمعاني لحساب الحروف والمباني فحسب بل الأشد منه حمقا من يهمل النظر في الرموز التي تؤمن بوجودها قيما عليا عظمى مقدمة. فما كل رمز ومبنى يعرض للتلف بالضرورة. ها نحن 57 أمة إسلامية أغنى عددا وعدة وعلما مما سبق فهل يغني عنا ذلك من شيء؟

 

يتبع

الشيخ الهادي بريك                                                                                                       الحوار نت : 27 – 02 – 2010

من admin

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *